قراءات نقدية

مفيد خنسة: الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين

توطئه: قبل رحيل صديقي الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين بأقلّ من عشرة أيام هتفت إليه وأخبرته عن عزمي لتأليف كتاب نقدي عن أعماله الشعريّة، فأجاب: هذا يغبطني، ولم أكن أعرف أن المرض كان قد تقدم به إلى ما كان عليه، وفور وفاته – رحمه الله- سارعت لكتابة هذه المقالة، ومن ثم أجلت نشرها حتى إنجاز ما وعدته به، لكن الأحداث تسارعت وثقلت، والآن أرسلها إلى صديقي الباحث والمفكر الكبير ماجد الغرباوي ليكون شاهداً على صدق وعدي إن بقي من العمر ما يكفي.

تجليات الموت والخوف في آثاره الشعريّة:

الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين

ينقش ظلاله الشعريّة ويمضي

مفيد خنسه

لعلّ الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين من شعراء الطليعة الذين تأثروا بالحداثة الشعريّة التي خط ملامحها الأولى السياب والملائكة والبياتي والحيدري، وقد سطع نجمه الشعري في مطلع السبعينات من القرن الماضي مع كوكبة من الشعراء اللبنانيين، شوقي بزيع، حسن عبدالله، جودت فخر الدين، جوزيف حرب، إلياس لحود،.....، وفي تقديري أن دراسته الجامعيّة للحقوق، ومن ثم اهتمامه بالتاريخ ونيله شهادة دكتوراه دولة فيه، كانت عاملاً أساساً في توظيف الرموز التاريخيّة في أشعاره، وهنا أتوقف عند سمتين أساسيتين في الجزء الأول من آثاره الشعريّة الكاملة، الذي يتضمن سبعة دواوين شعريّة، وهما الموت والخوف، فإذا كان الموت يتجلى في أشعاره كحقيقة حتميّة، فإنه لم يفتأ مجتهداً بالنظر إلى هذه القضيّة الوجوديّة من وجهة نظر فلسفيّة بالعودة  بعد الموت في رحلة الحياة الأزليّة، ليغدو الموت نفسه ظاهرة طبيعيّة مرتبطة بدورة التطور والنمو، أما الخوف فإنه يتجلى في أشعاره لجهة الآني والمؤقت في طور التجربة الذاتيّة  بإطارها الاجتماعي،

تمهيد:

في ديوانه الأول: (قصائد مهرّبة إلى صديقتي آسية) الذي صدر عام 1975 أي عندما كان عمر الشاعر حوالي ثلاثة وثلاثين عاماً، لا نستطيع أن نتحقق بوضوح من ظهور هاتين السمتين، الموت والخوف، لكن حضورهما أكثر ما يتجلى في كل من قصيدتيه، (مرثيّة العاشق) و(ارتعاشات اللحظة الأخيرة). وقد لاقى اهتماماً إعلاميّاً لافتاً، كما أن قصيدة (البحث عن غرناطة) منه قد ترجمت إلى الإسبانيّة، من قبل المستشرق الإسباني بدرو مارتنيز مونتابث، رئيس جامعة (الأوتونوما) في مدريد، ونُشرت في كراس خاص وقد نسبها إلى (الشعر الغرناطي).

استشهاد أول: من قصيدته (موت مطر الصقر) في ديوانه الثاني، (غيم لأحلام الملك المخلوع) 1977،

يقول الشاعر:

(قتلتني عاشقتي/ وأهالت فوق تراب القبر أغانيها/ فاخضر العظمُ وأنبت زنبقةً/ يتفيّأ في تربتها الأمواتُ/ وتحرسها أرواحُ محبيها/ وأتت عاشقتي في الليل تزور القبرَ، فأذهلها/ شبحٌ تحت الصفصاف يناديها/ صرخت من أنت؟/ وحين أشارت للقبر وفاجأها صوتي/ سقطت في صدر مغنيها/ قتلتني عاشقتي/ قتلتني/ وأنا في ظلمة قبري أبكيها).

يمكننا أن نلاحظ أن ملامح التجربة الشعريّة للشاعر محمد علي شمس الدين بدأت تتشكل فعليّاً في هذه المجموعة، وبدأت بذور النزعة التأمليّة الفلسفيّة تنبت في فضاءاته الرحبة وتزهر في حقوله الواسعة، ففي هذا التركيب الشعري يجمع الشاعر بين الحسي والعقلي، وبين الواقعي والمتخيّل،  فالشاعر على الرغم من أن حبيبته قد قتلته من فرط حبه لها، وعلى الرغم من أن المحبوبة قد غنّت فرحاً بهذا القتل، فإن عظمه المدفون في التربة قد اخضوضر ونبتت على قبره زنبقة تظلل تربة الأموات، وتحرسها أرواح من قضوا مثله بحبها، وعندما زارت القبر راعها صوته فسقطت في صدر المغني، والشاعر مازال يبكي في قبره على عاشقته التي قلته.

استشهاد (2): من قصيدة (أغنية للموت) في ديوانه الثالث (أناديك يا مليكي وحبيبي) 1977:

يقول الشاعر:

(هذا النباتُ المعرشُ فوق الجدار/ غرائزهُ/ وهذي الطيور الأليفة: أنثاهُ/ والشمس دائرة في خلايا يديه/ وعند قران الغزالة في البحر/ يبسط كفيه حتى عروق المياه/ ولكنه حين ينهض من نومه باكراً/ تسائله نجمةٌ في الفلاة/ حبيبي/ حبيبي/ هو الموت أم/ نومك الموسميّ الجميل؟).

في المعنى:

لعلّ التساؤل الذي يختم الشاعر فيه تركيبه الشعري يشير إلى المعنى الذي أراد أن يعطيه للموت، وهو النوم الموسمي، حيث يتجلى النوم بمظاهر الطبيعة المتعدّدة، النبات المعرش فوق الجدار، الطيور الأليفة، الشمس التي تمتد خيوطها لتصل إلى كلّ كائن في الوجود، كما لو أنها يد الموت، مظهر غياب الشمس في الماء، ولا بد لنا هنا من ملاحظة هذا التقابل بين البحر والفلاة، وبين النبات والطيور، وبين الغرائز والأنثى، الذي يشير بوضوخ إلى تجليات صور الموت المعنويّة بما يقابله من صور النوم الحسيّة،

استشهاد (3): من قصيدة (حوار الخوف) في ديوانه الرابع (الشوكة البنفسجيّة) 1981:

يقول الشاعر:

( - وماذا تقول الفكرة؟/ - تقول:/ - كان اثنان في حوار./ كان الحوارُ طويلاً طويلاً ولا ينتهي مثل حوار الظلّ والشجرة./ ثم تداخل القولُ واشتبك./ صار الأول يسألُ ويجيب./ والآخرُ يجيب ويجيب. والثالث صامت .... -: ولكنهما اثنان في حوار... من أين أتى الثالث؟/ -: الثالث؟ هه؟ كانْ/ في القوسِ أمام الميزان).

في المعنى:

هذه القصيدة يقدمها الشاعر على صيغة استجواب افتراضي، ويهديها إلى الشاعر الفرنسي المتمرد آرثر رامبو، ويبتدئ الاستجواب بالاستفسار (من أنت؟): فيكون الجواب: (أنا الآخر) .. وحين يسأله، - أتقيم؟،  يجيب: - لا، فيسأله – تمشي؟ فيجيب: في العقرب، وهكذا تتدحرج الأسئلة وتتوالى الأجوبة، حتى نصل إلى فكرة التركيب التي تنتج عن سائلٍ ومجيب، أو مجيب ومجيب، وإذا لا حظنا أن الميزان والعقرب والقوس أبراج متعاقبة من منازل الشمس، يمكننا أن نفهم المعنى المراد وهو أن (الآن) مفتوح على الماضي ومشرفٌ على المستقبل، فإذا كان الآن هو العقرب، فإن الميزان يمشي في العقرب إلى القوس أمام الميزان!!!، وأجد من المفيد أن أذكر قولاً للشاعر الراحل محمد علي شمس الدين خلال لقاء أجراه معه الكاتب محمد ناصر الدين، حين سأله: لمن ينحاز في محكمة يجلد فيها بطاركةُ الشعر المكرسون رامبو؟، " أنحاز إلى رامبو من دون تردد، ..... والسبب أن رامبو هو طفل الشعر النزق الذي لا يكبر، وفي داخلي جزءٌ من هذا النزق".

استشهاد (4): من قصيدة (الموت الخميس المقبل) في ديوانه الخامس طيور إلى الشمس المرّة 1984،

يقول الشاعر:

((كان رأسي ينامْ/ تماماً / حيث مرّ القطار/ يوشوش خطين لا يصلان/ بأسراره/ ويرسل للغائبين/ رسالته الغامضة:/ سلامي عليكم/ وأخبركم أنني/ متّ بعد الرحيل/ وأحيا إذا لوحت في الأصيلْ/ مناديلكم/ فاذكروني/ واعلموا أنني قادمٌ/ (بعد موتي).

وفي هذا التركيب نتبيّن أن الموت هنا يعني الهجرة والغياب، والمعنى كما نلاحظ مجازي.

استشهاد (5): من قصيدته (برق الخائف) في مجموعته الشعريّة (أما آن للرقص أن ينتهي 1988)،

يقول الشاعر:

(يلمع برق الخوف على أكتاف مدينتنا/ يلمع فوق ظهور منازلنا الحدباء/ يلمع برق الخوف على بقع الماء/ لا تسمع فوق الإسفلت سوى خطوة كلب خائف/ لا تبصر فوق الأسلاك المتدلية الأمعاء/ سوى ريشٍ خائف/ أمشي في الشارع وحدي/ لا أبصر غير ثيابٍ خائفة/ تمشي خلفي/ وأخاف/ أتدافع في كلّ جهات الشارع كالملدوغ ويلطمني خوفي/ أتلاشى/ حتى لا تبصرني عينايْ)

أي الخوف يحيط به حتى يكاد يضمحل أو يتلاشى،

أما في ديوانه السابع (أميرال الطيور) 1992، فقد بدأت تتبلور فيه رؤيته الصوفيّة للعالم، من خلال الشعر " كعمق استراتيجي للوجود، وكبرق كاشف له، ... ويضيف: إذا اعتبرنا الشعر على سبيل التمثيل بحراً، فإن قاعه هو التاريخ، وموجه هو الفلسفة، وفضاءه هو المخيّلة، لكن المعرفة على اختلاف وجوهها ... تبقى بمعناها المفهوميّة خارج القصيدة". " إذا أردت فهم العصور الحديثة ألجأ إلى أشعار السياب والماغوط وأدونيس وأنسي الحاج.

***

مفيد خنسة – ناقد وكاتب سوري

 

في المثقف اليوم