قضايا
غالب المسعودي: السرديات التاريخية ومقاومة ظلم السلطة

السرديات التاريخية تلعب دورًا مهمًا في تشكيل الوعي الجماعي وتوجيه التفكير نحو قضايا السلطة والظلم. عند التحدث عن مقاومة ظلم السلطة، نرى الكثير من الثورات أو الحركات الشعبية اعتبرت كأعمال شغب أو فوضى، مما يساهم في خلق تصور سلبي عن المقاومة، حيث يُعتبر التمرد ضد السلطة تجاوزًا على "القدر" أو "الإرادة الإلهية"، مما يحرم الأفراد من حقهم في المقاومة، التحذيرات من العنف أو الفوضى الناتجة عن المقاومة يمكن أن تؤدي إلى إحباط رغبة الأفراد في التغيير إضافة الى تعزيز الآثار النفسية والاجتماعية عند تكرار سرديات تحريم المقاومة، يؤدي هذا إلى شعور بالاستسلام، وبالتالي نشؤ سلطة الخوف المقدس التي تعزز من هيمنة السلطة، ثقافة الخوف و العقاب يمكن أن تثني الأفراد كي يعبروا عن آرائهم أو السعي للتغيير خصوصا إذا كان مصحوبا بغضب الالهة.
السرديات التاريخية وذهنية التحريم
ذهنية التحريم تشير إلى كيفية تقييم بعض الأفكار أو السلوكيات على أنها ممنوعة أو غير مقبولة اجتماعيًا ،لذا يمكن أن تؤدي ذهنية التحريم إلى تعزيز سرديات معينة في الوعي الجمعي، يمكن دراسة هذا التأثير من خلال حالات تم استخدام السرديات لتبرير تحريمات محددة لتشكيل الرأي العام وكيف يمكن لهذه الجهود ان تغير سرديات كي تفظي الى ذهنية التحريم ،حيث تقوم الأنظمة السياسية بإعادة كتابة التاريخ لتناسب أجندتها، مما يساعد في تبرير التحريمات التي تفرضها، ويتم تجاهل أو تشويه الروايات التي تعارض السرد الرسمي، مما يجعل ذهنية التحريم أكثر قبولًا، كما تحاول تسويق أيديولوجيات الأنظمة التي تستند إلى رموز تاريخية لتعزيز سلطتها، مثل استحضار شخصيات تاريخية لتبرير ممارسات معينة وتُروج لفكرة أن التحريمات ضرورية لحماية الهوية الوطنية أو الدينية، مستندة إلى أحداث تاريخية محددة ومنحازة، رغم ان تأكيد التاريخانية بطريقة انتقائية والتركيز على جوانب معينة من الاحداث وتجاهل أخرى يعزز من قبول الشك في التحريمات ،احينا يتم ربط السرديات بالتعاليم الدينية حيث يمكن استخدام الدين لتبرير التحريمات، وتُقدم كجزء من تاريخ الأمة أو كقوانين إلاهية لإضفاء الشرعية ،احينا ُتستخدم السرديات الدينية لتقديم التحريمات كجزء من الهوية الثقافية وذلك بتحديد "الآخر" وتُستخدم سرديات لتحديد مجموعة معينة كعدو، مما يبرر التحريمات ضدهم ويُعزز هذا الشعور بالوحدة داخل الجماعة من خلال تحجيم الاخر أو المجموعات التي تُعتبر تهديدًا. تسهم السرديات التاريخية بشكل كبير في تشكيل ذهنية التحريم من خلال التأثير على كيفية فهم المجتمع لتاريخه وهويته، تساهم السرديات التاريخية في تشكيل فهم المجتمعات لأنفسها وتحديد علاقتها بالسلطة، من خلال الوعي بهذه السرديات، يمكن للأفراد والمجتمعات التفكير نقديًا في تاريخهم وهويتهم. السرديات التي تُكرّس الخوف من المقاومة تُعدّ أداة فعّالة في الحفاظ على السلطة والقمع.
مقاربة فلسفية للسلطة
السلطة والمعرفة (فوكو)*
اقترح ميشيل فوكو أن السلطة ليست مجرد علاقة بين الجهات الفاعلة، بل تتداخل مع المعرفة. السلطة تُنتج المعرفة، والمعرفة تُنتج السلطة من خلال السيطرة على السرديات التاريخية، تستطيع الأنظمة تحديد ما يُعتبر "حقائق"، مما يسهل عليها تبرير سياساتها.
الهوية والمقاومة (هيدغر)**
يُشير مارتن هيدغر إلى أهمية الوجود والهوية في تشكيل التجربة البشرية. السرديات التاريخية تلعب دورًا في تشكيل الهوية الجماعية يمكن أن تُستخدم السرديات البديلة كأداة للمقاومة، حيث تسعى الجماعات المهمشة إلى إعادة تعريف هويتها.
الخطاب والسيطرة (دريدا)***
فك الارتباط بين النص والسلطة في نظرية التفكيك يشير إلى أن النصوص ليست ثابتة، بل تتغير مع السياقات. السرديات الرسمية قد تبدو متماسكة، لكن يمكن تفكيكها بإمكانات السرديات البديلة يمكن الكشف عن السرديات البديلة التي تعبر عن تجارب أخرى.
الزمان والمكان (بورديو)****
الحقائق الاجتماعية عند بيير بورديو تبرز أهمية الحقول الاجتماعية في تشكيل الواقع. السرديات التاريخية هي جزء من الحقول التي تؤثر على كيفية فهم الناس للعالم، ان الهيمنة الثقافية للأنظمة التي تستخدم السرديات لتكريس سلطتها الثقافية، يجعل السرديات البديلة تبدو أقل شرعية.
التاريخ والسياسة (هيغل)*****
التاريخ عند هيغل اعتبر كعملية تتقدم نحو الحرية. السرديات الرسمية قد تُستخدم لتبرير السيطرة، ولكن التاريخ نفسه يحمل إمكانيات للتغيير، الديالكتيك والصراع بين السرديات يمكن أن يؤدي إلى تطوير فهم أعمق للتاريخ والهوية.
التعددية والتسامح (راولز)******
العدالة والتسامح عند جون راولز تركز على أهمية التعددية في المجتمعات. يجب أن تُعطى السرديات البديلة الفرصة للتعبير، مما يسهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً، في الفضاء العام يجب أن تكون السرديات متنوعة، مما يجعلها تساهم في تشكيل سياسات أكثر شمولية.
من خلال هذه المقاربات الفلسفية، يظهر أن الأنظمة تسعى إلى فرض روايات معينة ليست فقط للسيطرة، بل أيضًا لتشكيل الهوية الثقافية والسياسية تعاني من الاستسلام المقدس للظلم. ومع ذلك، فإن السرديات البديلة تحمل إمكانيات للمقاومة والتغيير، مما يفتح المجال للبحث عن الحقيقة والتعددية.
ذهنية التحريم في السياق الشرق اوسطي
تؤدي ذهنية التحريم إلى تهميش وإقصاء سرديات معينة من الوعي الجماعي، وهذا يظهر بوضوح في السياق الشرق الأوسط. اذ تُعتبر بعض الأفكار أو الممارسات غير مقبولة اجتماعيًا أو دينيًا، مما يؤدي إلى تهميش السرديات التي تتعارض مع القيم السائدة ،و يتم وضع حدود للنقاشات الثقافية والسياسية، مما يمنع ظهور سرديات جديدة أو بديلة، كما ان توظيف السرديات التاريخية لتبرير السياسات الحالية، يعزز من ذهنية التحريم تجاه الأفكار المعاكسة، ان تقسيم المجتمعات إلى "نحن" و "هم"، يؤدي إلى تهميش سرديات الأقليات أو الجماعات المختلفة، الأفراد الذين يتبنون سرديات بديلة يُعزلون اجتماعيًا أو يُعتبرون منبوذين، مما يؤدي إلى تراجع النقاشات حول تلك السرديات ، الضغط الاجتماعي يمنع الأفراد من التعبير عن آرائهم الحقيقية، مما يعزز من ذهنية التحريم ، رغم ذلك قد تظهر سرديات بديلة من خلال الفنون والثقافة، مما يسهم في تحدي الروايات الرسمية كما يمكن أن تقود هذه السرديات البديلة إلى حركات اجتماعية تدعو إلى الاعتراف بالتنوع وتعزيز الحقوق .
الاثار المحتملة لفشل السرديات التاريخية
الاثار المحتملة لفشل السرديات التاريخية لتكريس سلطة الخوف والمحافظة على السلطة بلا مقاومة:
هناك عدة مؤشرات يمكن أن تدل على ضعف آليات الحفاظ على السلطة في نظام سياسي معين. استشراء الفساد وجود تقارير عن فساد واسع النطاق في الحكومة يشير إلى ضعف النظام، حيث تكون السلطة غير قادرة على فرض القوانين والسيطرة على المسؤولين ،انتهاكات حقوق الإنسان مثل الاعتقالات التعسفية والتعذيب، تشير إلى فقدان السيطرة والشرعية ، تزايد الاحتجاجات والمظاهرات ضد الحكومة، خاصة إذا كانت تتسم بالعنف، يدل على فقدان الثقة في السلطة، تغييرات مفاجئة في القيادة السياسية أو العسكرية تشير إلى عدم الاستقرار، إذا كانت نسبة الناخبين في الانتخابات منخفضة، يكون ذلك مؤشرًا على عدم ثقة المواطنين في النظام السياسي، تزايد العمليات القمعية ضد الأحزاب السياسية أو الحركات الاجتماعية يدل على ضعف السلطة ،ارتفاع معدلات البطالة وتدهور الوضع الاقتصادي يؤدي إلى فقدان الدعم الشعبي ويشير إلى ضعف آليات السلطة تراجع الاستثمارات الأجنبية والمحلية يُظهر عدم الثقة في النظام السياسي، تقييد حرية الصحافة فرض رقابة صارمة على وسائل الإعلام واعتقال الصحفيين يمكن أن يشير إلى عدم قدرة السلطة على التعامل مع النقد ،صراعات عرقية أو دينية تزايد التوترات بين الجماعات المختلفة يُظهر ضعف السلطة في إدارة التنوع ،فقدان الدعم الخارجي تزايد الانتقادات من قبل المجتمع الدولي أو فقدان الدعم يمكن أن يدل على ضعف النظام ، ظهور جماعات مسلحة أو زيادة العنف قد يُظهر ضعف السيطرة على الأمن، هذه المؤشرات تظهر كيف يمكن أن تعكس ضعف دور السرديات التاريخية في الحفاظ على ظلم السلطة حتى في الأنظمة الثيوقراطية. هذه الاليات تتطلب مراقبة مستمرة وفهمًا عميقًا للسياقات المحلية والدولية لتقييم ضعف النظام.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي
...........................
جدل الوجود والهوية في فلسفة مارتن هيدجر**
***https://www.daadjournal.com