اخترنا لكم
حسام الدين محمد: هاشميون وأمويون.. من العشيرة إلى الميثولوجيا؟

تشير أحداث صعود عشيرة قصيّ بن كلاب، في قبيلة قريش وسيطرتها على مكة، إلى عناصر للصراع الإسلامي اللاحق كانت حاضرة قبل ولادة النبي بزمن بعيد نسبيا (قصيّ هو الجدّ الرابع للرسول)، فهل تصلح العودة التاريخية إلى تلك الجذور في فهم تعقيدات التاريخ العربي الإسلامي، وهل الأمر كذلك فعلا، أي أنه صراع بين فروع عائلة واحدة على النبوة والملك؟
أسست التجارة لتسامح دينيّ في مكة كان أحد عوامل نجاحها. وفّرت قريش الأسواق واحتضنت تماثيل وأصنام القبائل المختلفة، ورعت احتفالاتها، ولكنها أيضا فرضت الضرائب والعشور عليها مقابل (أمن السكان والقادمين والقوافل (الإيلاف)، وساهم ذلك بنشوء عناصر استقرار، وظهور مؤسسة سياسية (دار الندوة) عملت على إدارة الدولة الصغيرة، وعلى التشاور حول الحرب والسلم.
كانت لقصي بن كلاب، كما يقول ابن كثير، «جميع الرئاسة، من حجابة البيت وسدانته، واللواء (أي الجيش)»، فتجمع لديه المال، والوظائف الرئيسية والدينية والتشريعية. بتسليمه سلطاته إلى ولده البكر عبد الدار قبل وفاته، أسس قصيّ لخلاف بين أولاده، الذين بدأوا يتحالفون مع قبائل أخرى فاجتمع بنو عبد مناف (هاشم وعبد شمس وعبد المطلب)، في «حلف المطيبين»، واجتمع بنو عبد الدار في «حلف الأحلاف»، وانتهى النزاع حينها، بالاصطلاح على تسليم السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، و«دار الندوة» بينهم بالاشتراك.
هاشم ثم معاوية في الشام!
ارتفع نفوذ أبناء عبد مناف، وصاروا سفراء قريش في أقاليم التجارة. سافر هاشم إلى الشام (دفن لاحقا في غزة التي صار أحد ألقابها غزة هاشم)، واستقرت ألوية الشرف في يده دون بقية إخوته. يبدأ هنا النزاع بين الهاشميين والأمويين من نقطة صغيرة تمثلها منازعة أمية بن عبد شمس عمّه هاشم على السيادة، كما يمكن عدّ الحادثة مبتدأ للصراع اللاحق بين الأمويين والعباسيين (وضع الرسول ألوية الشرف من سقاية ورفادة في يد العباس بن عبد المطلب بن هاشم). قام كاهن من خزاعة بالتحكيم بين هاشم وابن أخيه أمية فقرر نفي الأخير عشر سنوات إلى الشام (وهو ما يذكّر، ربما، بحادثة التحكيم اللاحقة المعكوسة النتائج بين علي ومعاوية) وجمع فيها رصيدا من إقامته ومصاهرته لأهلها، سيقوم البيت الأموي باستثماره خير استثمار مع تولّي معاوية حكم بلاد الشام لاحقا. سيمثّل هذا الحدث أيضا تكرّس السيادة الأيديولوجية للهاشميين، وترؤس الأمويين للتجارة، وهي معادلة ستكون مؤثرة إثر إعلان النبيّ محمد للدعوة.
هناك في تاريخ هاشم وابنه عبد المطلب أمر آخر سنرى شبيها له في سيرة الرسول لاحقا وهو قضية التحالف مع يثرب، فبعد توثيق هاشم علاقته بيثرب عبر زواجه بامرأة من «رجال الحرب والدم والحلقة» من بني النجار الخزرج، وتركه ولده عبد المطلب يتربى هناك ثم يتزوج هو الآخر من امرأة يثربية، وسيكون لهذا التحالف أثره في استعانته بثمانين مسلحا من أخواله هؤلاء من رجال الحرب اليثربيين في نزاعه مع عمّه نوفل غير الشقيق مما ساعد في استعادته الرئاسة.
الفتنة الكبرى وتشكّل الأحزاب والمذاهب
بعد وفاة الرسول، وخلال فترة الخليفة عثمان بن عفّان (وهو من البيت الأموي)، اشتعل الصراع مجددا بين الأمويين والهاشميين، مع ما سمّي في الأدبيات الإسلامية بـ«الفتنة الكبرى» التي أسهمت في نشوء الأحزاب، وبالتالي المذاهب الإسلامية، بدءا ممن سموا شيعة عليّ، ثم من رفضوا نتائج حادثة التحكيم بين علي ومعاوية، الذين نشأ بين صفوفهم المذهب الأباضي، وبعدها نشأت، خلال العصر الأموي، مع الإمام أبي حنيفة، أول مذهب فقهي سنّي. فجّر موت معاوية وتولية ابنه يزيد الصراع مع الحسين بن علي، وأعطى مصرع الأخير، في القرن السابع الميلادي، في حادثة مأساوية فاصلة في تاريخ الإسلام، دفعة هائلة لتجدد الصراع.
بانتصار العباسيين، الذين رفعوا راية العلويين، بدأت مذابح كبرى للأمويين فقتل قرابة 300 منهم في معركة الزاب، ثم أباح العباسيون مدينة دمشق فأبيد الأمويون فيها، وتوبعوا في مذابح أخرى في فلسطين ومصر، وبعدها نبشت قبور قادتهم الكبار فضربت جثثهم بالسياط وأحرقت. تفرّعت عن الحزبين الكبيرين للسنّة والشيعة أحزاب وظهرت لديها مذاهب ومدارس فقهية وفكرية، وصل اختلاف بعضها أحيانا إلى مناقضة ركائزها الأساسية الأولى، كما يمكن القول عن طائفة الأحمدية، أو الطائفة البهائية، أو جماعة «أمة الإسلام» و»الفرقان» في أمريكا، وكذلك حال طوائف العلويين والموحدين الدروز والإسماعيليين.
يصعب، عموما، على أتباع هذه الطوائف، ضمن هذا التوسّع الجغرافي ـ الفكري الهائل، تخيّل ارتباط هذه العقائد، بعناصر من حقب سابقة على الإسلام، أو تخيّل أن ما جرى هو صراع بين فرعين من عائلة واحدة تحوّل إلى خلاف ميثولوجي وجوديّ لا ينتهي حتى يوم القيامة.
يصحّ التعامل مع حدث عاشوراء، كمثال على التناقضات العميقة التي ضربت رؤية الإسلام والمسلمين لأنفسهم، وعلى الوعي الشقيّ الذي عذّب الأمة، ودفع جزءا منها، لدى بعض مذاهب الشيعة، لتقديس حادثة عاشوراء وجعلها أقنوما للهوية والمعنى. تصلح الحادثة نفسها لدراسة سير مؤسسي المذهب السنّي وأتباعه، الممزقة بين التوق المستمر إلى المقدّس (الذي يمثّله، على مستوى النسب، ارتباط الهاشميين بالرسول؛ وعلى مستوى الأيديولوجيا، فكرة العقيدة القويمة) والحاجة البشرية إلى التعاطي مع شروط الواقع (وحتى شروط النسب فالأمويون هم أبناء عمومة للرسول). تشارك الأمويون مع الهاشميين أحياز التجارة، والقيادة قبل الإسلام، وبعد حقبة كان أهم رؤوسهم الأشد معاداة للرسول، تغيّر الوضع قبيل فتح مكة مع اتفاق النبي مع أبي سفيان، الذي صار من دخل بيته آمنا، ثم دخولهم في الدعوة وقيادة الجيش والولاية، وحتى وصولهم إلى «الحكم العضوض» ودورهم في الفتوحات الإسلامية البرية والبحرية، وتأسيس الإمبراطورية الإسلامية.
استئصال الأمويين وتسنّن الهاشميين!
قام العباسيون (نسبة إلى العباس بن عبد المطلب عمّ الرسول وشقيق أبي طالب والد عليّ) برفع راية الهاشميين، واستأصلوا شأفة الأمويين ومع التزامهم على مستوى الشريعة والفقه، بالمذاهب السنية، فقد ثبّت العباسيون مذهب «أهل السنة والجماعة»، كعقد للمصالحات بين الأيديولوجيا والقبيلة والشريعة.
يلحظ سيد القمني، في كتابه «الحزب الهاشمي»، في حدث وصول عبد المطلب بن هاشم للرئاسة بدايات منطقية لتطلع العرب إلى نبوة محمد وابتداء دين جديد، فهو حسب المرويات التاريخية، من حفر بئر زمزم، ووضع أسس رفض الأصنام والتطلّع لإله واحد وتبرأ من أرجاس الجاهلية، ودعا الى الحنيفية، دين جده إبراهيم، التي تحولت إلى «تيار قوي قبل الإسلام»، وكان عبد المطلب أهم رجالاتها وأساتذتها، وكان من علاماتها الفارقة، حسب جواد علي، الاختتان، وحج مكة، والاغتسال من الجنابة، واعتزال الأوثان، والإيمان بإله واحد، وأن كل ما في الكون محتوم مكتوب.
السؤال الذي سنحاول أن نجيب عليه في مقال لاحق، هو هل يصلح هذا الصراع القديم الذي اشتبكت فيه قضايا القبيلة والعقيدة والسلطان، لتفسير ما حصل لاحقا، أو للمساهمة في قراءة تاريخنا الحالي، أم أنه سيضيف عنصرا ميتافيزيقيا على تاريخ خضعت فيه المجتمعات والأيديولوجيات لتغيرات تاريخية هائلة، توسّعت خلالها الصدوع، وتعددت الأدوار، وتراكبت العناصر القديمة مع عناصر أقدم منها حتى، لتشتبك مع العناصر المستجدة، وتتقلب الأحزاب والجهات المتصارعة في مواقع المظلوميات والمعاني والاتجاهات؟
***
حسام الدين محمد
عن صحيفة القدس العربي اللندنية، يوم 10/7/2025