شهادات ومذكرات

أبو القاسم الشابي 1909-1934

اذا الشعب يوما أراد الحياة     فلا بد ان يستجيب القدر

قال كلمته وتوارى عن الحياة الدنيا برمتها. سلّم الزناد، ثم أوكل المهمة لمن خلفه من أصحاب الحق والوطنية، التواقون لكسر القيد المدمي. لم يمهله القدر ليكون شاهداً على ما فعله بيته الشعري، الذي ألهب صدور الملايين شرقا وغربا وشحذ هممهم . انتقل الى جوار ربه شابا صغيرا يافعا، ولم يكمل العقد الثالث من عمره.

منذ نشاته تآخى مع المرض، فاصبحا لا يطيقان الفراق، وكلما تقدمت عجلة الزمن، تسارع الألم وازداد الحمل على الجسد الغض جراء هذا الخلّ الوفي الثقيل. نصحه أطباؤه بالابتعاد عما يتعب جسده أو نفسيته، فاستجاب لبعض منها؛ توقف عن تسلق الجبال والرحلات، والجري والقفز. أحس بالألم ومرارته وبالعذاب وشدّته، بل وبالاحباط وبالعجز حينما وقعت عيناه على بعض من اترابه يمارسون ضروب الرياضة التي حرم منها. عزّت عليه نفسه، وتألم وازدادت حرقته. دوّن هذه الحادثة في يومياته قائلا: "ها هنا صبيةٌ يلعبون بين الحقول، وهناك طائفة من الشباب الزيتوني والمدرسي يرتاضون في الهواء الطلق والسهل الجميل، ومَنْ لي بأن أكون مثلهم، ولكنْ أنى لي ذلك والطبيب يحظر عليّ ذلك لأن قلبي ضعيفا ؟ آه يا قلبي، أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني، وأنت ظلمة الأسى التي تطغى على حياتي المعنوية والخارجية". وما ضاعف من عذاب هذا الجسد النحيل هو اختطاف يد القدر محبوته الصغيرة (16 عاما) التي تعلق بها لدرجة كبيرة. أيقن بأن حياته بعدها ليست الا هباءً منثورا، أو غبار دهر.

وتنتكس حالة الشابي الصحية ، فينصحه الاطباء قضاء ما تبقى من رمق العمر ما بين المصايف والمشاتي. فطالما ذهب للمناطق ذات الطقس المعتدل ليمضي الوقت مابين الحقول والبساتين، مستمتعا بخرير الماء من عذب الجداول. إلا أن تدهور حالة القلب كانت أقوى من تلكم المصايف. ولله في خلقه شؤون؛ فالقلب الموجوع قد سكب أروع شعر رومانسي. فهذا الشاعر العراقي (فالح الحجية) يصف الشابي بأنه شاعر وجداني رومانسي، سلس الكلمة رقيقها، حيث ابدع ألوانا راقية من الغزل. اما الأستاذ الجامعي التونسي أنيس التمار، استاذ الترجمة في جامعة تونس سابقا، ورئيس قسم الترجمة في كلية عبري للعلوم التطبيقية في سلطنة عمان حاليا، فيعبر عن شديد اعجابه بشعر ابن تونس الخضراء البار؛ اذ استطاع ان يحلق في فضاء الرومانسية بكل جدارة واقتدار، على الرغم من نشأته في الجنوب التونسي الذي يختلف مناخه تماما عن مهد الرومانسية الاوروبية ذات الطبيعة الخلابة بمروجها الخضراء وغاباتها الكثيفة. ومن خلال اطلاعي على الادب الغربي، و بحكم دراستي وعملي، فقد وجدت شبها قويا ما بين ابي القاسم الشابي، والشاعر الانجليزي (جون كيتس). فكلاهما قضى ولم يكمل العقد الثالث من العمر، وكلاهما عانى من مرض عضال كان السبب وراء موته مبكرا، وكلاهما أبدع في شعر الرومانسية.

كما هي دعوته للتحرر ، فقد تحرر الشابي من قيده في تونس لينطلق في ارجاء الوطن العربي. فاتصل بمجلة " أبولو " في مصر ونشرت له الكثير من الاشعار، مما حدا ببلاده تونس الى إعادة النظر في اعماله الادبية، وإسدال الستار على تُهم في حقه تصل الى مستوى التكفير.

من الجدير بالذكر، ان والد الشابي قد ارسله الى " الكتّاب " وهو في الخامسة من العمر ليتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب. وفي التاسعة، تمكن من حفظ القران الكريم. اما في سن 12، فقد التحق بجامعة الزيتونة ليغرف من بحر الادب القديم الراقي. فقد قرأ كتاب الأغاني للأصفهاني، وصبح الاعشى للقلقشندي، و كتاب الصناعتين للعسكري، و الأماني للقالي، وغيرها الكثير. وعلى الرغم من عدم المام شاعرنا باللغات الاجنبية، الا انه اطلع على ابداعات الغرب من خلال المترجم من الأعمال. فميوله الرومانسية قد وجهت بوصلته الى الشاعر الفرنسي" لامارتين "، والألماني " جوته "، كما كان مطلعا حاذقا على الحركات السياسية والثقافية في عصره لكثرة قراءته للمجلات والصحف انذاك.

برزت نزعة الشابي الاصلاحية منذ التحاقه بجامعة الزيتونة، وكان من أبرز من نادى بالاصلاح في الميدان الاداري والتعليمي، وكان رئيسا للجنة الطلابية الجامعية، كما ساهم في تأسيس النادي الادبي في العاصمة، ونادي الطلبة في مدينة " توزر".

تدهورت حالة الشابي أكثر فأكثر، فأدخل مستشفى الطليان في العاصمة، وهناك اسلم الروح لباريها في 9-10-1934 من فجر الاثنين، ونقل الجثمان الى " توزر " حيث ووري الثرى.وفي العام 1946، تم الايعازرسميا بتشكيل لجنة تشرف على اقامة ضريح للشابي يليق بمقامه الادبي، وقد تم ذلك فعلا.

 

يونس عودة/ الأردن

 

في المثقف اليوم