شهادات ومذكرات

طه جزّاع: حين لا يكون الحبُ شفيعاً

على تلةٍ مرتفعةٍ تطل على خليج القِرن الذهبي، وبجوار مقبرة تنحدر سفوحها لتنتهي عند ضريح الصحابي أبو أيوب الأنصاري الذي يسميه أهل إسطنبول أيوب سلطان، وما هو بسلطان من سلاطينهم، لكنهم يحترمون مثواه بينهم إلى درجة القدسية لمشاركته مقاتلاً في المحاولة الأولى لفتح القسطنطينية وهو شيخ مُسن، في هذا المكان الذي يشبه عشاً كبيراً في أعلى شجرة عملاقة، اختار الضابط الفرنسي بيير لوتي، أن يجلس ويتأمل ويكتب ويرسم، ويتذكر حبه المستحيل نهايات القرن التاسع عشر.

وتخليداً لذكرى بيير لوتي، واسمه الحقيقي بيار جوليان، والذي كان يوماً ما مرشحاً لنيل جائزة نوبل، سميت تلك التلة باسمه، مع أنه في حياته وكتاباته كان يطلق عليها اسم " الجبل المقدس"، ولعله سماها بذلك لمجاورتها ضريح الأيوبي حيث يمكن الوصول إليها عبر طريق طويل مرصوف بالحجر يخترق وسط المقبرة صعوداً ونزولاً، كما يمكن الوصول إليها بالسيارة. وبعد أن أصبح اسمها بيير لوتي، وأقيمت فيها مقهى على طراز المقاهي الباريسية تطل مباشرة على الخليج وتزدحم بالسياح عند الغروب، اضيف طريق ثالث باستخدام عربات " التلفرك" بمحطة واحدة تقطع مسافة قصيرة جداً.

كان لوتي قد مر يوماً بمدينة سالونيك التابعة وقتذاك إلى الدولة العثمانية، وفيها أحب امرأة تركية متزوجة تدعى " آزياده AZIYADE " وربما من أجلها أحب الشرق كله، فرحل إلى بلدانه وكتب عنها في رحلاته، وكان يعد نفسه شرقياً بالقدر نفسه الذي كان فيه غربياً فرنسياً، ولبس اللباس الشرقي، ودخَّن النارجيلة في مقاهي إسطنبول، وحمل المَسْبَحة، وجلس على جبله المقدس يستعيد ذكريات حبيبته التي ماتت قبل أن يلتقيها ثانية. وعندما يرتاد الناس والسواح المقهى فلابد من القاء نظرة، وربما جلسة عابرة في غرفة شرقية تضم صوره وتخطيطاته وبعض مقتنياته، ومن بين الطاولات التي تقدم عليها اقداح الشاي وشاي التفاح والقهوة التركية، هناك طاولة مخصصة لكتبه، ومنها روايته الرومانسية " آزياده" مترجمة إلى الإنكليزية.

الكل راضٍ عن بيير، باستثناء الشاعر الشيوعي ناظم حكمت، الذي كتب قصيدة وصفه فيها بأقذع الأوصاف، وقال عنه أنه كاذب ودجال باع الشرق، لأن حبه لم يمنع قصف فرنسا وهو من ضباطها، للمدن التركية أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان قبر حبيبته " آزياده" مما ناله القصف العشوائي.

هل كان الشاعر المولود في سالونيك أيضاً، يظن إن الحب الرومانسي يمكن أن يكون شفيعاً، وهو الذي أحب إسطنبول ومات مطارداً منفياً عنها في موسكو، فيما يحتل اسم الضابط الفرنسي بيير لوتي قمة الجبل المقدس .

***

طه جزّاع

 

في المثقف اليوم