شهادات ومذكرات

علي حسين: كن فيلسوفا.. لكن حافظ على نفسك كإنسان

قبيل وفاته في عام 1993 عن 71 عاماً، كان قد القى محاضرة قال فيها ان " الفيلسوف الحق هو الذي يتفاعل مع ظروف حياته "، وقد مرت حياة محمد عزيز الحبابي بظروف عصيبة، كان عليه خلالها أن يَعبر حاجز خانق من المصاعب.على لسان بطل روايته " جيل الظمأ "، يخبرنا بان ليس امامه ان يختار: " بل هناك واجب محتم مقدس يرغمني أن أرى الضياء، وأريد أن أهرول إلى الهدف دونما نكوص. من المخزي أن أبقى نكرة في دنيا الفكر اجتر أنظمة وتقاليد لا أحياها. والويل لي إذا بقيت قابعا في زاويتي، غريبا في مدينتي ووطني".

 انتقل من دراسة الكائن الانساني الى البحث عن الشخصانية، للوصول الى الشخصانية الاسلامية، لينتهي الى اشاعة " الفلسفة الغدية.كتب كعادته بحماس مؤكدا ان فلسفته تتفاعل مع احوال حياة مجتمعه في مراحله ومحطاته الحاسمة، معلناً ان الفلسفة يجب أن تُكتب في نص جاد متكامل. لُقّب بالاديب الفيلسوف. كان همّه ان يقدم تصوره الفلسفي من خلال الادب متاثرا بالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، الذي عُرف بدعوته إلى أن تكون الفلسفة أكثر انفتاحاً على أساليب تعبيرية جديدة. بدت الرواية بالنسبة لمحمد الحبابي المثال الأعلى لِمَن يريد الاشتغال في التعبير عن الواقع:" فالفن نظرة تتجلى في الصفاء البدئي.فالفنان، حينما يعيننا على الخروج من الفوضى الوجدانية والفكرية، يساهم، من بعض الجوانب، في تحررنا." – من الحريات الى التحرر -.

تدور " جيل الظمأ " التي كتبها بعد عودته الى المغرب عام 1958، ونشرها عام 1967 في ستينيات القرن الماضي، وتسجّل أحداثاً خاصة حيث نجد الحبابي يتقمص فيها شخصية البطل، واحداثا عامة عن الجيل الذي يناضل من اجل التغيير في مواجهة قئات اخرى غارقة في قضاياها الخاصة، منشغلة بالثراء والتواطأ مع الفساد. يقف بطل الرواية ادريس المهموم بقضايا بلاده، يعاني من التناقضات التي تحيط به ومن عزلة المثقفين:" أن كل مدينة يتهرب مثقفوها من تحمل المسؤوليات، لابد أن يسود فيها الظلم، ويسيطر الإفك: المجرمون يجدون من يبرر أفعالهم والأبرياء لا يأبه لهم أحد ".كان ابن خلدون معلم الحبابي الأول يقول عن الثقافة بانها:" مجموع الجهود التي تبذلها جماعة من الناس كي تصل إلى توحيد خبراتها و تكييفها مع الوسط الذي تعيش فيه، بحثا عن الانسجام في الأعمال "، وعندما يتعرض المجتمع لمحنة فان على المثقف ان يواجه الاحداث ويبحث عن الحلول، لأنّ رسالته هي التغيير، وهذا ما كان يشغل ابطال رواية " جيل الظمأ "، وهذا التغيير لن يحدث من دون الاعتماد على الانسان الذي هو الرأسمال الحقيقي للمجتمع، ومن دون الانطلاق من واقع المجتمع العربي. يكتب محمد عزيز الحبابي:"ان الافكار التي تقدم بها كتاب عرب معاصرون لم تنطلق كلها من واقع المجتمع العربي، بعد تحليله بلا مجاملة وبلا قبليات. ومن هنا فشلها. فالمحك لكل فكر هو مقدار علاقته بالواقع كما هو ايضا مقدار ما يتركه من صدى في وعي وسلوك الجمهور – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر –

يدخل الحبابي الى الفلسفة من باب السياسة. في باريس التي وصلها عام 1948 للدراسة بعد مرور عامين على تجربة السجن من قبل الفرنسيين انفسهم، يجد ان الثقافة الغربية تنظر باستعلاء الى كل ما هو عربي، في المقابل كان هذا الشاب نفسه يسعى الى فهم الثقافة الغربية، يقول انه عاش في تلك السنوات بشخصية مزدوجة، فهو يعيش في عالمين مختلفين حضاريا واجتماعيا. إنه يعيش " تمزقا عميقا بين مجتمعين يختلفان في اكثر من جانب "، فعانى بذلك من شعورا بالفراغ، وهو شعور دفع به الى التواصل، بدلا من العزلة، وبهذا التواصل، او الانفتاح على الآخرين، اكتشف ذاته. كانت الفلسفات الشائعة في فرنسا آنذاك الوجودية والماركسية، وكانت الاوساط الثقافية مشغولة بما يقدمه سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار، وبروز الحزب الشيوعي الفرنسي. الشاب الذي كان يبلغ 26 عاما ظل يواجه سؤالا وجوديا:" ان يكون او لا يكون "، كان بحثه الاول ان يعرف من هو وسط هذا المجتمع الذي يريد استلاب هويته مثلما استلب بلاده المغرب، فكان عليه ان يرسم مسارا جديدا لحياته من خلال الفلسفة التي ظل يؤمن بانها:" لن تكون ابدا مجرد تصنيف للعلوم والآثار. إن   ما هيتها الحق هي المجهود الذي نبذله حين نتأمل (والتأمل نشاط نقد وبناء في آن). على أن كل مجهود للنقد السليم، وإن لم يساهم في البناء، فإنه على الأقل، يفسح المجال للترميم " – من الكائن الى الشخص -. انها فلسفة تبحث في صلة الفرد بالاخرين وعلاقة الذات بالمجتمع. فالانسان يصر دوما ان يعرف " من هو ؟ "، ومن شأن هذه المعرفة ان ترسخ لديه القناعة بانه " شخص "، فان يوجد الإنسان معناه أن يكتسب القدرة على التشخصن لأن:" الكائن الانساني معطى خام يظهر ويصير، كلما ازداد اتجاهه نحو التشخصن. ونحو الاندماج في مجتمع من الاشخاص. فهو باقٍ كائنا وخاما ما لم يظهر للآخرين " – من الكائن الى الشخص –.  ان الانسان يلج الى هذا العالم مجهولا، لا اسم له، ولا ورقة هوية. ولكنه ما ان يندمج بالوجود، وفي اللحظة التي يتم فيها " تشخصنه "، ينقلب هذا الكائن المحهول إلى كائن تاريخي. فالتشخصن هو الكائن البشري الذي يحدد لنفسه حقل نشاطه، والمجتمع لا يعمل بنا بعصا سحرية او عن طريق نداء نخبة (كالاولياء والابطال)، بل يدفعنا دفعا الى النشاط والى تاكيد ذاته:" إن وجودي باعتباري كائنا بشريا، إنما معناه انني (كرامة)، وانني أعي ذلك، وأن الآخرين يقرون لي بذلك ويقرون لي بوصفي كذلك " - - كم الكائن الى الشخص.

***

يكشف لنا محمد عزيز الحبابي أن المعاناة هي التي ارشدته الى الفلسفة. يتذكر أنّه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره كان ذا مزاج كئيب، أرشده زوج خالته الذي ساهم في تربيته إلى وصفة يمكن أن تساعده في تخطي ما يعانيه، وكانت هذه الوصفة عبارة عن كتب في الفلسفة. تعلم من سقراط ان الفلسفة تساعدنا على تبنّي منهج البحث الدائم.وانها وصفة سحرية لمعرفة النفس، اكتشف من خلال جده الذي قام برعايته ان يفكر في تنمية قدراته، وان يجد لنفسه مكانا وسط هذا المجتمع القاسي.، ومن زوج خالته الشيخ محمد العلوي مبادئ واهداف وقيم دينية متنورة.وكانت اول الاسئلة التي يوجهها محمد الحبابي لنفسه: ما معنى الانسان؟ كيف عليه ان يتحول من مجرد كائن الى شخص مؤثر، وما هي الطريقة، وكيف نجدها ؟ ليجد الحلّ في الفلسفة التي هي حسب رأيه نوعا من انواع التمرد السياسي، لأنها تدعونا إلى أن نجد لانفسنا مكانا في مجتمع تتصارع فيه قوى كبرى تريد ان تستلب منا معنى العيش بكرامة.

ولد محمد عزيز الحبابي في الخامس والعشرين من كانون الاول عام 1922 في مدينة فاس، لم يمر عام على ولادته حتى توفيت امه، وقرر والده التاجر ان يتزوج لينتقل الطفل الصغير الى العيش في بيت جده عثمان الحبابي الذي كان استاذا في جامعة القرويين، وكان فقيها ويصفه الذين عرفوه بانه كان " فأر كتب "،، ويتذكر الصبي محمد أن الكتب كانت ترافق جده حتى حتى عندما يذهب الى مكان عمله، كان الجد يؤمن باهمية التعليم، فادخل حفيده الى الكُتاب ليحفظ القرآن ويتعلم اصول القراءة والكتابة، بعدها يدخل المدرسة الابتدائية، ثم ثانوية مولاي ادريس في فاس، في هذه السنوات، ينتمي الى حركة سياسية تاسست عام " 1939 " باسم " الحركة القومية " والتي تحولت فيما بعد الى " حزب الشورى والاىستقلال "، وكانت هذه الحركة التي ضمت نخبة من الشباب المثقف، تطالب بالغاء معاهدة الحماية الفرنسية، وتنادي باستقلال المغرب، وعلى اثر مشاركته في تظاهرة كبيرة شهدتها فاس عام 1944 تم اعتقاله وطرده من المعهد الذي كان يدرس فيه، وحكم عليه بالسجن لمدة عامين، اطلق سراحة بعد ثمانية اشهر بسبب سوء حالته الصحية حيث تعرض الى ضربات شديدة في الرأس، يقرر عام 1946  السفر الى باريس ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، كانت فرنسا قد خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية، وبدأت الجامعات الفرنسية تحاول اعادة الروح الى الفكر الفلسفي. كانت فلسفات الوجودية والماركسية والعدمية تشهد رواجا كبيرا، وامتلأت مقاهي باريس بحوارات عن الوجود، الحياة، الانسان، الوعي، الحرية، الالتزام، القلق، العبث.كما شهدت المقاهي والتجمعات الثقافية حوارات حول دور الفلسفة في المجتمع والالتزام الانساني للمثقف. وقد وجدت هذه الموضوعات اهتمام لدى الشاب الحبابي الذي كان يبلغ من العمر آنذال " 24 " عاما "، يقرر بمساعدة عائلته دراسة الفلسفة في السوربون على نفقته الخاصة بعد ان رفضت سلطة الاحتلال منحة بعثة دراسية، في الوقت نفسه يدخل معهد الاداب ليدرس اللغة والادب، على مدى سنوات اقامته في باريس حرص على قراءة المشهد الفلسفي فاستهوته فلسفة برغسون، الفيلسوف الذي توفي قبل خمسة اعوام من وصول الحبابي الى باريس، لكن فلسفتة ظلت حاضرة كونها خاضت صراعاً مع الأفكار السائدة في الفلسفة لتقدم أسلوبا جديدا في فهم العالم المحيط بنا، والذي يقوم على الحدس والغريزة، اطلق عليه برغسون تسمية " الوثوب الحيوي "، حيث اراد برغسون ان يحتفي بتجربة الفرد التاريخية الذكية والنشطة، كتغير مستمر حيث:" الكائن يتحدد عن طريق الديمومة: الكائن هو ما يدوم ". الفيسوف الثاني الذي تأثر به كان ايمانويل مونييه الذي نشر عام 1935 كتابه " الثورة الشخصانية " وهو الكتاب الذي قلب مفاهيم الحبابي الفكرية، كان مونييه المتوفي عام 1950 قد اصدر عام 1932 مجلة متخصصة بالفلسفة الشخصانية التي ظهرت ما بين الحرب العالمية الاولى والثانية، وكان هدفها الدفاع عن قيمة الانسان " الشخص ".يكتب مونييه:" إنه يكفي لكي نحدد وضعا شخصانيا، أن نفكر بأن كل شخص له معناه، حتى إنه لا يمكن أن يحل محله آخر في المكان الذي يحتله في عالم الأشخاص. تلك هي العظمة الرائعة للشخص الذي تمنحه كرامة عالم من العوالم، وتمنحه تواضعه في الوقت نفسه، وذلك لأن كل شخص معادل له في هذه الكرامة، ولأن أعداد الأشخاص أكثر عددا من النجوم." الشخص جسب مفهوم مونيته وفلسفته الشخصانية "ذاتٌ "متميزة، يرفض ما هو سائد ويسعى إلى إقامة مجتمع جديد، من خلال عملية اسماها " التشخصن " والتي هي عبارة عن حركة مستمرة للتحرر من كل عبودية داخلية أو خارجية، في إطار الجمع بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي، وقد أكد مونييه على هذه العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع، أي بين الفرد والمجتمع، فالفيلسوف الشخصاني هو الذي يسعى لتحقيق الكمال لذاته، لينخرط فيما بعد في علاقة متكافئة مع اللآخرين وهي علاقة يسميها مونييه " فاعلة وليست منفعلة "، وكان مونييه يرى ان تجربة " التشخصن " ليست عامة، فلا يحياها، بشكل متميز، إلا تخبة الناس. لم يتسنى للحبابي التلمذة على يد مونييه فقد توفي الفيلسوف الفرنسي عام 1950، لكن ستتاح لمحمد عزيز الحبابي خوض حوارات حوال الفلسفة الشخصانية من خلال الكتب التي اصدرها مونييه اثناء دراسة الحبابي وكان ابرزها كتاب " ماهية الشخصانية " الصادر عام 1947، حيث يجد الحبابي أن فلسفة مونييه بذلت مجهودا كبيرا:" لفرض الانسان على العالم وإدماجه في العالم، مع الحرص ان يتميز الانسان عن العالم " – من الكائن الى الشخص –. كان مونييه قد اعلن انه لم يكن يسعى " لدراسة الانسان فقط، بل أردنا ان نحارب من اجله ". ستتاح للحبابي فرصة المشاركة في المؤتمر الذي اقامته مجلة " فكر " عام 1948 والذي تم فيه تحديد المهام الاساسية للشخصانية.

لم ينشغل محمد الحبابي بالفلسفة الفلسفة عن العمل، فقد كانت النقود التي تصله من المغرب قليلة وسرعان ما تتبخر، وكان عليه ان يقسم وقته بين العمل والدراسة، إلّا أن هذه الصعوبات لم تمنعه من التفوق بالدراسة، فحصل عام 1945 على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون عن اطروحته " من الكائن الى الشخص: دراسات في الشخصانية الواقعية " وقد صدرت الاطروحة في كتاب بالفرنسية عام 1949، بعدها سيقدم عام 1956 اطروحته الثانية بعنوان " من الحريات الى التحرر "،التي ستصدر ايضا بالفرنسية بمقدّمة للفيلسوف ومؤرخ الفلسفة موريس غونديلاك. بعد استقلال المغرب يعود الحبابي الى بلاده، يعمل بالتدريس ويساهم بتأسيس اتحاد كتاب المغرب حيث يتولى رئاسته للفترة من " 1959 " الى 1968، يعين عميدا لكلية الاداب والعلوم الانسانية، ويرأس الجمعية الفلسفية في المغرب، يتم ترشيحه لحلئزة نوبل للاداب بدعم من الاكاديمية الفرنسية، في سنواته الاخيرة تتفاقم عليه الامراض التي رافقته طوال حياته بسبب ما تعرض لم من اصابات اثناء فترة سجنه، ليتوفى في الثالث والعشرين من ايلول عام 1993.

****

من بين المفكرين العرب في القرن العشرين، أمتلك محمد عزيز الحبابي مشروعه الفلسفي المتفرد، من خلال موضوعه الموسع الذي رافقه طوال حياته: " الشخصانية "، حيث واصل العمل على وضع نظرية فلسفية تُمكن الانسان العربي من التأمل في انسانيته. يتساءل الحبابي: ما هي الفلسفة ؟ ويكون جوابه:" كل افعال الانسان موضوعات للتأمل الفلسفي، وكل فعل يطالب الفلسفة بأن تنير له الاهداف والطرق، وتبتعد عن الفكر الاسطوري وتزيل الحجب عن رؤية الواقع كما هو " – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر -. ولهذا يرى الحبابي ان من وظائف الفيلسوف أن يعلمنا الوسائل لاثارة الانتباه والتمسك به.، كما ان من خصائصه اأن يمتلك " القدرة على الربط بين الفكر والفلسفة ". ووظيقة الفلسفة ان تنقلنا الى افق التحرر اولا، ثم السعي الى اثبات الذات. دخل محمد عزيز الى الفلسفة عن طريق تراكم خيبات الامل التي رافقت حياته السياسية وما تعرض له من حرمان وأسى خلال حياته، فكانت الفلسفة كما يقول اشبه بطوق نجاة لبعث الأمل في نفسه، فقد مارس الفلسفة لانه لم يجد يديلا اصلح منها. كانت الفلسفة محاولة لبعث الامل وتجديده وطريق يسلكه " الكائن " المُستعمر ليتحول الى الشخص ثم يرتقي الى الانسان المتحرر، بعدها سيتطلع هذا الانسان المتحرر الى " الغد "، حيث يكشف التفكير الفلسفي للحبابي عن تطوره، فمن المهم ان يتطلع الانسان الى فلسفة حديدة تذكره بحقيقة الشرط الانساني المطلق، وهو شرط يتمثل في اجتماعية الإنسان، فالانسان " كائن اجتماعي " كما وصفه ارسطو وأكد عليه ابن خلدون في مقدمته:" الانسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الإجتماع ". يكتب محمد عزيز الحبابي أن:" اصالة ابن خلدون تكمن في الجهود التي بذلها لاجلاء البعد المجتمعي في تكوين إنسانية الكائن البشري " – ابن خلدون معاصرا ترجمة فاطمة الحبابي -.كان الحبابي يرى نفسه مثل ابن خلدون، فصاحب المقدمة تعرض ايضا لمصير مليء بالاحداث والمتغيرات " ولم يكن لطموحاته المتنوعة نظير ". هذه الطموحات كانت هاجس الحبابي الذي جعل من فلسفته الشخصانية رحلة متواصلة للتطوير والتجديد، فكان لا بد ان يبحث عن فلسفة جديدة اسماها " الغدية " لينشر عام 1980 كتابه عالم الغد: العالم الثالث يتهم " وفيه يرى ان النظر إلى عالم الغد يتطلب منا ان نسير في ثلاثة مسارات متوازية، اولها: استقصاء ودراسة اهم ازمات عصرنا في صلتها بالقيم، والثاني: البحث عن الوسائل الكفيلة بتجاوز هذه الازمات والسعي الى ما اسماه " تطهير الوضع " والمسار الثالث: النظر في امكانية مساهمة الاسلام في حل ممكن لهذه الازمات، وقد كان الحبابي يرى ان الاسلام الحقيقي علاج لبعض انحرافات الحداثة،مثل النزعة النفعية الضيقة، كما ان الاسلام: " يوفر امكانات عملية لضمان انسجام في وجود بني البشر وتعايشهم في اطار مجتمع انسي " - الشخصانية الاسلامية. في كتاباته يشير الحبابي الى نوعين من القيم: القيم الروحية والقيم الاخلاقية.. وقد كان يرى ان القيم الانسانية في ازمة بسبب ما يعانيه الانسان من " الفراغ والتيه "، الامر الذي يؤدي الى تفكك الروابط الاجتماعية. ولذا كان الحبابي يدعو الى " اخلاقية جديدة " تعيد الى الضمير الخلقي مكانته، وتعطي للشخص توازنا جديدا. فهو يرى ان ازمة الانسان المعاصر ناجمة عن التخلي عن القيم، فقد تحول الانسان في زمن الحداثة الى " فاوست " يبيع روحه لأقرب شيطان من اجل الظفر بمكاسب باطلة وواهية:" ان البشرية فقدت الحس بكنة الاشياء ومقياسها، وصارت الاحاسيس البشرية متيبسة ومتشققة، واستحال الشغل من مؤنس الى مستعبِد، ومن محرر الى استعبادي " – محمد سعيد الحبابي.. من المنغلق الى المنفتح –

ما بين " الشحصانية " و " الغدية "، ثمة رابط هو محمد عزيز الحبابي المفكر الذي تميز بالتنوع والاختلاف. ان القارئ لمؤلفات الحبابي سينتبه الى ان فلسفته مكونة من حلقات متصلة جميعها تبحث في الوجود والقيم وعن الحرية والتحرر ومجابهة ازمات مجتمعه، فالفيلسوف لا يمكنه ان يتفلسف ويلتزم إلا من خلال مجابهته لتاريخ شعبه، لان الفيلسوف:" مثقف نوعي، لامثقف شمولي يتحمل اعباء الدفاع عن قيم الجميع، ولو راودته فكرة التحول الى المثقف الشمولي لكان مثله كمثل من يتحمل عبء تنظيف بيوت الآخرين بينما لا يجد من ينظف بيته " – من الحريات الى التحرر –".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم