شهادات ومذكرات

المثقف وفقه الأزمة .. ما بعد الشيوعية الأولى (1)

abdulhusan shaabanنقد التاريخ طريق إلى تصحيح الأخطاء وتجاوز المعضلات ورضا الأجيال القادمة

 

إستهلال:

(حتى الشيطان يخجل من الحقيقة) .. نيتشه

يختلف الداعية عن المثقف في أن الأول يستخدم جميع الوسائل لتبرير أفعال "جماعته" وسلوكها ويروّج لسياساتها ويبرر أخطاءها، حتى وإن كان في الأمر ثمة خداع أو زيف، فجماعته هي الأفضل والأحسن والأوقر والأشرف والأنزه، أما خصومه أو أعدائه، فهم الأسوأ والأقبح والأحمق والأوضع والأدنأ.

باختصار الداعية يضع كل العيوب على شمّاعة الآخر، في حين يجد في جماعته كل مزايا البشر ومحاسنهم، إن لم تقترب من الملائكة أحياناً، في حين إن وظيفة المثقف هي النقد، ونقده يدعوه لنشر الحقيقة والمعرفة، وكشف المزعومات التي تنتجها جماعة سياسية لنفسها أو طائفة دينية أو فريق يضع بوجه النقد ميليشيات ثقافية.

فالنقد في نظر هؤلاء هو بدعة، ومراجعة التاريخ هدفها النيل من "الجماعة" أو الإساءة إليها، و"الجماعة" مطهّرة وخارج نطاق النقد، وهكذا سار على هذا النهج جميع الدكتاتوريين وأصحاب الأفكار والآيديولوجيات الشمولية والذين وضعوا "مقدسات" لا يمكن للآخر مساسها، سواء كانوا رجال دين أو جماعات سياسية في السلطة أو خارجها، جلادين أو ضحايا، غالبين أو مغلوبين، حيث تنتقل قيم الأول إلى الثاني حسب عبد الرحمن بن خلدون، لاسيّما بتوجّهات قيادية قاصرة، أو ادعاءات عشائرية فارغة أو تمثّلات جهوية مفروضة أو غير ذلك، وسيكون نقيض "المقدّس" هو "المدّنس".

غالباً ما يواجه النقد بالإتهام أو الشك، ويتم التعامل معه بالخفّة وعدم الاتزان، ويخرج بعضهم عن أخلاق المناظرة والمبادرة والمحاورة، ليدخل في متاهات المبارزة والمناورة والمؤامرة، والأكثر من ذلك حين يتصرّف خارج نطاق أي اعتبار، سوى ما يهيمن عليه من إلغاء الآخر أو استئصاله أو تحطيمه.

وقد يحتاج الأمر إلى قدر كبير من الغباء لقراءة أو للإصغاء لما يذهب إليه هؤلاء الذين يتحدثون مع أنفسهم وفي الدوائر الضيقة، وبالطبع فإن الردّ بالمثل وهو أمر مُتاحٌ وسهلٌ، لكنه سيجعل من النقد مهاترة، ومن المراجعة مشاغبة، أما مبدأ " العين بالعين"، فسيجعل العالم كلّه أعمى على حد تعبير المهاتما غاندي، في حين إن المثقف يسعى إلى التنوير والإلتزام بمعايير المعرفة والثقافة، وهو ما يحتاج إلى رياضة مع النفس وتصالحاً معها واحتراماً للآخر وإقراراً بحقه في النقد، مع إظهار الجانب الأخلاقي والتهذيبي في الكتابة، كما هو في الحياة.

حين تكون في الحزب الشيوعي، لا يعني إنك ينبغي أن تكون داعية لأخطائه أو لسلوك وتصرّفات بعض إدارييه، وحين تجد النقد مفيداً كمثقف، لا ينبغي عليك أن تحيد عنه، بما فيه انتقاد نفسك، بهدف قول الحقيقة في لحظة انسجام مع المعرفة، أما إذا سعيت إلى الترويج والدعاية، وهو من حقك فستخرج من دائرة الثقافة والتنوير لتمارس دور الداعية، والدعاة هم مروّجون لا تهمّهم الحقيقة، بقدر ما يهمّهم التأثير على الآخر وإخفاء النواقص والعيوب والأخطاء، لأنها تتعلّق " بالعشيرة" السياسية أو الملّة "الحزبية" أو حتى " بالإدارة السياسية" لهذه الفترة أو لما سبقها، وتلك مهمة لا تليق بالمثقف والناقد، أو لا ينبغي أن تكون وظيفته تلك، وقد سعت الحقبة الجدانوفية الستالينية إلى تطويع المثقفين بحجة الواقعية الاشتراكية، كما ساهمت في ترويضهم، لكي يكونوا دعاة ومروجين للاستبداد والعسف، وهي أمور سادت في حركتنا الشيوعية، وللأسف فإن ذيول الجدانوفية الصغار لا زالوا ينفخون بأنفسهم باستذكار سلوكيات تلك المرحلة.

للأسف لم يراجع تاريخنا، ولم يسهم النقد في كشف أخطاء الماضي، الاّ بحدود الصراعات الدائرة، بين هذا الطاقم القيادي أو ذاك، وتصفية حسابات بين الفرقاء، أما التاريخ فقد ظل "صامداً" ككتلة صمّاء، لا يمكن الاقتراب منها، وقد يكون بعضهم مسؤولاً عنها، والآخر لا يريد ذكر الحقيقة ويخشى الاقتراب منها، لأنها تتعلّق بفترة سكوته وصمته لسنوات طويلة، اعتاد فيها على تلقّي التعليمات.

لم نلحظ هناك من نقد حقيقي لتاريخنا، خصوصاً مسلّمات الماضي وعيوبه، لاسيّما إذا كان المعنيون قريبين من الطاقم الإداري أو من منحدراته،وحتى حين كُتبت الكثير من المذكرات، ظلّ الكثير من العقد الأساسية دون مساس، وإن جرى التعرّض لها، فمن باب إلقاء الحجة على الآخرين، وفي أحسن الأحوال سمعنا نقداً مثيراً للشفقة، لمن يقول أنه يتحمّل المسؤولية وهو بالطبع كذلك، لأنه كان على رأس الهرم أو من المحيطين به أو من حواشيه، والغالب الأعم يتحدّث هؤلاء باستمرار عن صواب سياستنا التي أثبتها التاريخ، والدفاع عن نقاوة النظرية وإن كان الأمر معكوساً، ففي تاريخنا بعض المطبّات والانحرافات التي علينا مراجعتها مثلما فيه الكثير من الاشراقات والإيجابيات التي يمكن استلهامها، كما لا يكفي الحديث عن إننا نمتلك "أعظم" نظرية في العالم، علماً بأنها لا ينبغي أن تكون بمعزل عن البراكسيس.

لاحظت ذلك بخصوص جميع القوى السياسية، فحزب البعث أو الجماعات المتبقية منه تتحدّث عن كل شيء باستثناء صدام حسين، وغالباً ما ينزّه ويمجّد، وإنْ جرى الحديث عن الارتكابات والجرائم، فهي ليست سوى أخطاء هناك من يقوم بها، وقد لا يعرف بها "الرئيس" وإذا انتقدت توجّهاتهم وحاورت في الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، فإنك ستكون حاقداً أو مشبوهاً وفي أحسن الأحوال فإنك جاهلٌ.

أما القوميون العرب فلا يمكن المساس باسم جمال عبد الناصر أو حتى نقده، فالنقد سيضعك في خانة العداء للقومية العربية أو في صف "الشعوبية"، وحتى لو ذكرت مشروعه السياسي بملاحظات أو آراء، بخصوص قضية الحريات ووحدانية التنظيم السياسي وملاحقة اليسار وهزيمة 5 حزيران/يونيو/العام 1967، فإن ذلك ليس سوى تفاصيل بالنسبة لهم، إذْ لا يمكن المساس باسم الزعيم " الخالد والأمر يتعلق بغياب النقد الذاتي، وعدم قبول نقد الآخر.

ولم نسمع نقداً للمشروع الإسلامي من داخله، باستثناء مناكفات في فترة المعارضة بين جماعات سياسية، وإلاّ فإن المرجعية "مقدسة" والتعرّض لها سيجعلك في عداد الملاحدة أو من يتنكّرون لدورها التاريخي، وأحياناً تعتبر من طائفة أخرى، حتى لو كنت من صلب الانتماء الديني أو المذهبي، ضمن التصنيفات السائدة.

وإذا كانت الحركة الكردية قد عصفت بها رياح عاتية من داخلها، وواجهت نقداً حاداً وشديداً، وصل حدّ الاتهامات، فإن هذا النقد غالباً ما يطوى على حساب المصالحات السياسية الظرفية، وبذلك يضيع النقد الموضوعي التي هي بحاجة إليه، وأحياناً يضيق بعضها بالنقد حتى إذا كان انحيازك لصالح الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره.

النقد فضيلة، ولاسيّما في السرديات الثقافية، وغيابه يجعلنا أمام حالة من الصدام والاحتدام المستمرين، خصوصاً في النظر إلى الآخر، أما على صعيد الآخر من الداخل فسيكون بديله الاستكانة والخنوع أو الاحتقان والاختناق حتى يحصل المحذور، لذلك فإن الكثير من التمرّدات والانشقاقات ليست بعيدة عن ذلك، إذ أن الإلغاء والتهميش واحتكار الحقيقة وادعاء امتلاك الأفضليات ستقود إلى نتائج أخرى في ظل غياب النقد ، وهو ما حاول الباحث تسليط الضوء عليه باعتباره الأساس في فقه الأزمة.

وإنْ كنت قد قدّمت قراءات انتقادية للحركة الشيوعية وتاريخها، فلأنني معني بها أكثر من غيرها وما أريده لها أن تكون معافاة وسليمة، كما إنني عندما استرجع جزء من التاريخ، فلأنه يحتاج إلى إعادة نظر بروح رياضية ودون خشية من النقد والاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها، والأمر قد ينسحب على الإدارات المسؤولة التي ارتكبت الكثير من الأخطاء، وظلّت تنكر أو تتصرّف باعتبارها فوق النقد، خصوصاً في ظلّ غياب المساءلة والشفافية، الأمر الذي يحتاج إلى نقد شفاف وجريء دون تجريح أو إساءة، بقدر ما يهمّ تاريخنا وعلاقاتنا الرفاقية ونظرتنا المختلفة إلى الماضي وإلى الحاضر وإلى المستقبل، ناهيكم إلى الحياة ذاتها بما فيها من مستجدّات ومتغيّرات، بما فيها محاولة قراءة الماركسية بروح القرن الحادي والعشرين وبمنهج ماركس الذي لا يزال يمتلك حيوية، لا بتعاليمه التي تصلح لعصره، وعفا الزمن على الكثير منها.

وأخيراً فالنقد لتاريخنا الشيوعي هو نقد من الداخل، وهو نقد مسؤول للذات ونقد لمسار يعني جميع الشيوعيين والماركسيين، بل وعموم الوطنيين، وكل من هو حريص على المستقبل الشيوعي، إذْ لا يمكن الحديث عن تاريخ الدولة العراقية، دون المرور بالقلم العريض على تاريخ اليسار العراقي الذي لعب دوراً مهماً منذ تأسيسها.

والهدف من النقد تسليط الضوء على بعض النواقص والثغرات في مسيرتنا الكفاحية المقدامة، لكي لا تتكرّر، ولكي يتعرّف عليها الجيل الحالي والمستقبلي وينتفع منها، ونقد التاريخ هو أيضاً نقد للبرامج والسياسات والممارسات وما علق به من سلوكيات غريبة. ولعلّ أهم خدمة تقدّم إلى العدو هو إخفاء أخطائنا والزعم بصواب سياستنا على طول الخط، فتلك المهمة الإيمانية التبشيرية الاستكانية لا تصلح الاّ للدعاة والمروّجين المنحازين، وهي غير المهمة النقدية العقلانية التساؤلية، التي يضطلع بها من يبحث عن الحقيقة.

سأتوقّف بعد هذا الاستهلال في القسم الأول بالقراءة والنقد والأزمة، وخصوصاً في التوقف عن مأزق المثقف الشيوعي، خصوصاً بمحاولة السياسي إخضاع المثقف والعلاقة بين الحزبي وبين الحزبي وبين الشيوعي الثقافي لمناقشة مقوّمات الأزمة والقراءة النقدية لها. وقد حاولت المرور على الذاكرة والمعرفة والحلم كثلاثية يكمّل بعضها البعض، ولاسيّما للمثقفين.

أما القسم الثاني، فكان بعنوان " المثقف والموقف من الآخر" المثقف والموقف من الآخر، وهو يتناول حدثين يتعلّقان بكتابين أساسيين وكتب أخرى، فالعمر لديّ لا يعني شيئاً بدون كتب وأوراق وأقلام. والحدثان فيهما دلالة لمنهج التفكير الشمولي والعقل الإقصائي، وحتى لو اختلفت المواقع، فالأمر لا يختلف من حيث الفعل. الكتاب الأول: النزاع العراقي – الإيراني، وقد صدر في العام 1981 وقدّم له باقر ابراهيم عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي في حينها ، والثاني: عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل، وصدر في العام 2014، أي أن الفارق بينهما نحو 33 عاماً، وهو فارق تاريخي بلا أدنى شك، وكذلك في الموضوع والتناول وجهة النقد، لكنهما أثارا بعض ردود الفعل الغاضبة وإن كان توجّهات أصحابها مختلفة، بل ومتعاكسة، لكن التواشج الإلغائي كان بمثابة الحبل السري، للرضاعة من ثدي واحد، حسبما يبدو، وحليب إلغاء الآخر، هو الذي تشرّب منه البعض ولا يزال على الرغم من كل ما حدث لنا من كوارث. ففي الكثير من الأحيان يستعير الضحية أساليب جلاّده ويحاول تقليده شكلاً ومضموناً.

وحسب بابلونيرودا فإن تعاقب الحلم يجعل المرء يقوى على تحمّل الكثير من المشقّات وحين يستحضر الإنسان ذلك استذكاراً وقراءة ونقداً فإنه سيجد إن الكثير مما يفترض أن يدوّنه التاريخ قد أمحي وعفا عليه الزمن أو غدا غباراً لا يهدأ " كمثل زجاج جريح ليس يبرأ"!

ولعلّ واحداً من أهداف هذه الاستعادة التاريخية هو الحرص على الحقيقة كي لا تضيع بما فيها من آلام وعذابات ودروس وعبر، وهو ما حاول الباحث فيه تسليط الضوء على بعض الجزئيات التي يهتم بها بما فيها المنسي أو المهمل أو غير المرغوب استذكاره أو غير المسموح الحديث عنه، كي لا تندثر أو تتبدّد أو يطويها النسيان وذلك استكمالاً لصورة المشهد من زواياه المختلفة. وإذا كانت هذه إحدى جوانب القراءة المؤدلجة والإغراضية، فإن القراءة المفتوحة ودون عقد مسبقة، كانت هي الأكثر استقبالاً وحفاوة للنصّين، دون أن يعنيها الانحيازات الجاهزة الصنع. وهو الأمر الذي ينطبق على كتب أخرى ومواقف مختلفة.

أما القسم الثالث، فيسلّط الضوء على المثقف والرقم الصعب ويتناول فقه الأزمة ومتفرّعاتها من خلال الثقافة ودور المثقف واختلال العلاقة بالسياسي، ويبحث في هذا القسم ظاهرة عامر عبدالله " طائر الفينيق" الذي ما إن يزاح عن مواقعه، حتى يعود إليها منبعثاً من الرماد، ولكن على نحو أقوى، وتحت عنوان المعلن والمستتر يدرج الكاتب خمسة أسباب وراء استهداف عامر عبدالله وفي ظروف المنفى إضافة إلى التراكمات القديمة، ويضيف هذا القسم إشارات ودلالات جديدة إلى قضية ثابت حبيب العاني، ويتساءل أين مذكرات عامر عبدالله ؟ ويكشف عن البعثيين الذين لم ينتموا، ويناقش في خط انسحابنا من بشتاشان واستراتيجياتنا في أوضاع مختلفة. ويختم الكاتب بشيء عن الماركسلوجيا.

في المثقف اليوم