شهادات ومذكرات

علي حسين: أوبنهايمر.. بروميثيوس الحائر بين العلم والأخلاق

يمكن اختصار حياة عالم الفيزياء الامريكي روبرت أوبنهايمر بهذه العبارة القصيرة "إنسان طارده الشك بعد أن قدم للعالم اختراعاً غيّر تاريخ البشرية". مبتكر القنبلة الذرية يعود للواجهة من جديد بعد أن حصد الفيلم الذي انتج عن حياته ومواقفه سبعة جوائز أوسكار، وكأن هذه الجوائز تكفيراً عن الذنب الذي ارتكبته امريكا بحق هذا العبقري الذي قال عنه اينشتاين انه: "رجل يسبق زمانه وطالما تمنيت أن يكون ابني البكر".

ياخذنا الفيلم في ثلاث ساعات مليئة بالاسئلة والتشويف ليكشف لنا، اللحظات الأساسية في حياة روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي عَّجل بنهاية الحرب العالمية الثانية وادخلنا عصر الاسلحة الذرية، ثم بعدها سوف يعيش حياة مليئة بالقلق والشك والمعاناة ينتابه الشك بشأن ابتكاره الذي استحال أداة تدميرية فتاكة تهدد البشرية. الفيلم الذي حقق ايرادات تجاوزت المليار دولار وفاز مخرجه كريستوفر نولان باوسكار ايضا، اعتمد على سيرة روبرت أوبنهايمر التي اشترك بكتابتها كاي بيرد ومارتن شيروين وصدرت بعنوان " بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة جي روبرت أوبنهايمر".حيث تقدم هذه السيرة شخصية جمعت بين الحلم بتطور العلم وكابوس الحروب المدمرة، وقد فازت هذه السيرة بجائزة "البوليتزر" عام 2005، وصفتها صحيفة التايمز بانها:" حكاية تمنحك إحساساً بالرجل وتعقيده وتناقضه فيما كان يفعل"، فبعد أن عرف أوبنهايمر المجد بوصفه " عراب السلاح النووي "، أصبح غارقاً في الندم على عواقب اختراعه، ومتهما خطيرا تطارده الاجهزة الامنية.

عندما سئل المخرج كريستوفر نولان عن سبب اختياره أوبنهايمر قال لأن:" حكايته لا توجد فيها إجابات واضحة لقصته، فهي تحتوي على مفارقات رائعة ومؤلمة في نفس الوقت "

تُعد قصة روبرت اوبنهايمر من أغرب القصص في تاريخ العلوم. فقد بدأ العالم يسمع باسم اوبنهايمر للمرة الاولى عام 1945 عندما القت امريكا القنبلة الذرية على هيروشيما، وسمي آنذاك " ابو القنبلة الذرية " اعترافا بقيادته لمجموعة من العلماء الذين صمموا اول قنبلة ذرية في معامل لوس الاموس تحت اسم مشروع " مانهاتن " - اصر مخرج الفيلم نولان على اعادة بناء معامل لوس ألاموس في سهول جنوب غربي الولايات المتحدة –، بعد ان حصد أوبنهايمر التكريم والاوسمة يعود اسمه من جديد وهذه المرة باعتبارة متهما لا بطلاً ، حيث بدأت في ايلول عام 1953 محاكمته بتهمة معارضته لتطوير الاسلحة الذرية وانتاج القنابل الهيدروجينية، اتهمته المحكمة بأنه يمثل خطورة على أمن الولايات المتحدة الامريكية، فيما أصر المدعي العام الامريكي على ان أوبنهايمر كان ينتمي الى منظمات يسارية وانه عضو في الحزب الشيوعي. استمرت المحاكمة ثلاثة اسابيع، وقد انتهت المحكمة الى نتيجة اعتبار اوبنهايمر يمثل خطرا على أمن البلاد لأنه عارض بقوة انتاج اسلحة نووية جديدة، فقد كان ضميره يعذبه بسبب قنبلة هوروشيما.. في المقابل اتهمه البعض بالتردد في مواجهة القضاة، وأنه فقد شجاعته، وبدت محاكمته كأنها تكرار لموقف غاليلو عندما حاكمته الكنيسة لنظريته حول دوران الارض.3553 ابونهايمر

ولد يوليوس روبرت اوبنهايمر في 22 نيسان عام 1904، لاب مهاجر الماني وصل امريكا عام 1888، عمل في بعض الاعمال التجارية في نيويورك، ليصبح بعدها احد اثرياء المدينة، والدته لإيلا ني فريدمان عرفت بعشقها للقراءة واحترافها الرسم، كان الابن الاكبر للعائلة، انتبه الاساتذه في المدرسة الابتدائية الى نبوغه، في العاشرة من عمره اصبح عضوا في جمعية ابحاث نيويورك بعد ان قدم بحثا عن المعادن. درس الفيزياء في جامعة هارفارد، بعدها درس الفلسفة الطبيعية والكيمياء في جامعة كمبردج بانكلترا. سافر الى المانيا ليدرس الذرة في جامعة غوتنجن. عام 1927 حصل على درجة الدكتوراه، عين استاذا لمادة الطبيعة في جامعة كاليفورونيا، وفي الوقت نفسه يعمل على تأسيس اول مركز متخصص للطبيعة الذرية في بيركلي. ولم يكن اهتمام أوبنهايمر مقتصرا على العلوم، فقد كان شغوفا بالفلسفة والشعر وهواية الرسم التي ورثها عن امه، اضافة الى دراسة اللغات حيث كان يجيد ثماني لغات منها الاغريقية واللاتينية لولعه بقراءة كتب ارسطو والابيقوريين اضافة الى مسرحيات سوفوكليس، في هذه الفترة استهوته الحركات اليسارية وأخذ يتقرب من الحزب الشيوعي الامريكي ليتزوج عام 1940 من ارملة احد اعضاء الحزب قتل زوجها في الحرب الاسبانية، وكانت هي ايضا عضوة فاعلة في الحركات اليسارية، ألا انه بدأ يفقد حماسه للشيوعية بعد الانباء التي كانت تنشر عن حملات التطهير التي كان يقوم بها ستالين في الاتحاد السوفيتي. عام 1941 دعته وزارة الدفاع الامريكية للعمل في مركز ابحاث الدراسات الذرية، بعد عامين يقترح أوبنهايمر تاسيس انشاء معمل لوس لآلاموس للعمل على نصنيع القنبلة الذرية.. كان قبل هذا التاريخ وبالتجديد عام 1939 عبر اينشتاين عن الخوف من امتلاك المانيا الهتلرية القنبلة الذرية، وارسل رسالة الى الرئيس الامريكي روزفلت يبلغه ان المانيا استولت على الآف الاطنان من اليورانيوم عندما اجتاحت بلجيكا، وأن هتلر ينوي بناء مفاعل نووي كبير. استمر العمل ثلاثة اعوام كان فيها أوبنهايمر قلب المشروع وروحه، فهو الذي قام باختيار العلماء الذين يساعدونه، وبعد تجارب وعمل طويل فقد خلالها اوبنهايمر اكثر من 40 كيلو غرام من وزنه أعلن عن انتاج القنبلة الذرية حيث اجريت اول تجربة صباح يوم السادس عشر من تموز عام 1945 في صحراء مكسيكو، عندما حدث الانفجار العظيم ردد أوبنهايمر عبارة كان قد حفظها " البهاغافاد" كتاب العندوس المقدس والتي تقول:" الآن أصبحت الموت، أصبحت المحطّم للعوالم ". لم تكن تمضي اسابيع على تجربة نيو مكسيكو حتى فوجئ العالم بنبأ القاء اول قنبلة على هيروشيما اليابانية. وفي دقائق معدودة فقد مئات الالاف ارواحهم. وبعد يومين تكررت الضربة وهذه المرة في ناجازاكي لتعلن اليابان استسلامها.

بعد القنبلة الذرية شعر العالم بانه يقف على عتبة عصر جديد.. يكتب المسرحي الالماني برتولد بريشت في دفتر يومياته " لقد كان نصرا.. لكنه ينطوي على هزيمة "..فيما وجد العلماء انفسهم امام مسؤولية اخلاقية كبيرة فقرروا انشاء رابطة علماء لوس آلاموس كان هدفها " الدعوة الى استخدام التقدم العلمي في صالح البشرية ". وكان رأي العلماء ان الاسلحة الذرية سوف تتطور وتزداد خطرا وتدميرا، إلا ان محاولات العلماء لم تلق صدى عند القيادة الامريكية اعلن الرئيس ترومان ان:" وجود هذه القوة التدميرية في ايدينا ثقة مقدسة لاننا نحب السلام ". كان أوبنهايمر آنذاك اكثر العلماء تعاسة، فهو يرى ان السيسة تلعب لعبتها مع الطاقة النووية، ولم تنفع تحذيرات العلماء في وقف تطور الاسلحة، واعلن ان الحرب انتهت وعلى العلماء ان يتحرروا من سطو الساسة، الامر الذي دفع بعض المسؤولين الى التشكيك بولاء اوبنهايمر للولايات المتحدة الامريكية فاصدر ايزنهاور امرا يقضي " باسدال ستار كثيف بين اوبنهايمر والاسرار الذرية " وصدرت توصية بطرده من العمل، رفض اوبنهايمر الاتهامات وابدى استعداده للمثول امام المحكمة التي تولت البحث عن ارتباطات اوبنهايمر السياسية، امام القضاة الثلاثة وقف اوبنهايمر ليعلن انه رفض المساهمة في انتاج القنبلة النتروجيمية، لا رغبة منه لمساعة الاتحاد السوفيتي، او لأنه يساري، ولكن لانه ببساطة ضد هذه القنابل. صدر الحكم بعدم منح اوبنهايمر ترخيص امن وابعاده عن الاسرار الذرية، ورات المحكمة انه يعاني من بعض العيوب في شخصيته.

عاش أوبنهايمر في الظل حيث اتجه الى تاسيس مركز للاداب والفنون، واخذ يهتم بالفلسفة، بعد توقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية بين الاتحاد السوفيتي وامريكا عام 1963، قررت رابطة العلماء منحه جائزة " انريكو فيرمي " والتي تمنح لمن يسهم بجهود كبيرة في ابحاث الطبيعة الذرية، قال اوبنهايمر وهو يتسلم جائزته:" لقد ارتكب الفيزيائيون خطيئة، في معرفة لا يمكنهم أن يفقدوها "، بعد عام سيبقي محاضرة بعنوان: "آفاق في الفنون والعلوم" بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لحق الإنسان في المعرفة، حيث أوجز فلسفته وأفكاره حول دور العلم في المعرفة.

بعد محاكمته تجنب أوبنهايمر الصدام مع الاجهزة الحكومية حيث رفض التوقيع على البيان الذي اصدره برتراند رسل واينشتاين عام 1954 ضد الأسلحة النووية . عام 1955، نشر أوبنهايمر كتاب العقل المنفتح، وهو عبارة عن مجموعة من ثماني محاضرات ألقاها منذ عام 1946 حول موضوع الأسلحة النووية والثقافة الشعبية.

اواخر 1965 تم تشخيص إصابة أوبنهايمر بسرطان الحلق، فقد كان مدخنا شرها، اجريت له جراحة خضع بعدها لعلاج كيميائي وشعاعي لم ينجح في وقف السرطان. في الثامن عشر من شباط عام 1967، اعلن عن وفاته عن عمر يناهز 62 عاما.

عند مشاهدتي فيلم " اونهايمر " تذكرت مسرحية الكاتب الالماني هاينر كيبهارت " قضية روبرت اوبنهايمر " التي صدرت ضمن سلسلة المسرح التي كانت تصدرها دار الفارابي في الثمانينيات، ثم صدرت بترجمة اخرى عن سلسلة المسرح العالمي الكويتيه عام 1991. كانت المسرحية بالنسبة لي آنذاك واحدة من الكشوفات المسرحية. كان مسرحا من نوع جديد يهدف الى وصف الواقع من اجل تغييره. وكان كيبهارت ممثلا بارزا للادب الملتزم فكريا وسياسيا السبعينيات، كان كيبهارت يقول:" تقنيتي التي استخدمها دائما تتمثل في اشراك القارئ والمشاهد في القضية التي تدور في نفسي "

هاينر كيبهارت مولود في المانيا عام 1922 وتوفي عام 1982.درس الطب والفلسفة والعلوم المسرحية. بعد قيام جمهورية المانيا الديمقراطية انتقل اليها، لكنه سرعان ما سيختلف مع المسؤولين فيعود الى مدينته دوسلدوف في المانيا الغربية ثم ينتقل ليستقر في ميونخ. عام 1964 اخبر اصدقائه بانه انتهى من مسرحية تتناول قضية عالم الذرة أوبنهايمر.. قدمت المسرحية في ميونخ وقام باخراجها اشهر رجال المسرح " بيسكاتور ". في مسرحية كيبهارت تفشل محاولات اوبنهايمر للتوفيق بين ولاءه للبلاد والولاء للبشرية. قال بيسكاتور ان هذه المسرحية تسلط تالضوء على عهد مكارثي وهو وجه مقيت من وجوه جياتنا. انعدام التسامح ازاء المتفاوت وصاحب الراي المختلف، والقضاء على وجوده. والميل محو دولة الرقابة

استخدم كيبهارت وثائق المحاكمة لعرض ومعالجة الصراع الأساسي بين العلم والحكم. لا أوبنهايمر في المسرحية بطل، بل هو يعيش تضارب كامل لأفعاله المتناقضة في شخصيته ونقاط ضعفه الخاصة، ومنها الغطرسة الحادة.

الموضوع الذي يناقشه كيبهارت ا هو دور العلم، والعلاقة بين الاكتشافات العلمية والأخلاق الإنسانية. إن تردد أوبنهايمر الأخلاقي في ابتكار أسلحة الدمار الشامل هي التهمة الموجه لرجل العلم: "هل ولاؤك للإنسانية أم للحكومة الأمريكية أكثر؟"، تطرح لجنة التحقيق السؤال. وهكذا، يفرض على أوبنهايمر الفصل بين آرائه الذاتية ومهمته العلمية الوظيفية، فيرد أوبنهايمر: "هذا الفصل معناه أن يتحول العالم والمخترع إلى آلة بلا ضمير، بلا قلب، بلا قدرة ذاتية على الحكم الأخلاقي أو الجمالي".

يمكن القول أن شخصية أوبنهايمر في فيلم المخرج: كريستوفر نولان إنما هي مرآة لعالم الفيزياء صاحب الشخصية التي تعاني من المتناقضات، فهو لا يشعر بالراحة تجاه القنبلة وإرثها، ورغم أنه لا يدفع باتجاه تطويرها كما فعل آخرون، ولكن من أجل الضوابط والتعاون الدولي، تذبل "هواجسه الأخلاقية" تحت الخوف من الاستجواب والمحاكمة، وحينما اعترف للرئيس الأميركي "هاري تومان" أن "يديه ملطختان بالدم"، يعطيه الرئيس منديلاً للوجه. يتقبل أوبنهايمر بصمت السقوط من موقعه المتميز، مثيراً غضب زوجته التي تعترض قائلة: "هل تعتقد أن العالم سيسامحك إذا سمحت لهم بوصمك بالعار؟" فيرد قائلاً بهدوء: "سوف نرى".

قبل مسرحية هاينر كيبهارت قرر المسرحي الامريكي الشهير ارثر ميلر كتابة مسرحية عن محنة اوبنهايمر، لكن المشروع لم يرى النور وبقى مجرد تخطيطات احنفظ بها ميلر.. وقد روى ميلر، تفاصيل لقاء أجراه مع أوبنهايمر أوائل الستينيات،. يقول ميلر إنه وجد أوبنهايمر شديد الحزن، يائساً من كل شيء. ولم يكن ذلك بسبب اكتشافه اصابته بمرض السرطان، فقد كان يعرف أنه سيموت قريباً لا محالة، بل لأن أوبنهايمر لم يبرأ أبداً من الحزن والاكتئاب اللذين أصاباه بعد أن أسقط الأميركيون سلاحهم النووي الفتاك على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. فأوبنهايمر، كان يشعر أنه صاحب مسؤولية في ما حدث، وكان يرى أن حالته تستدعي بحثاً معمقاً حول مسؤولية العالم إزاء النتائج التي يسفر عنها علمه. والحال أن ما كان يقلق أوبنهايمر طوال العقود الأخيرة من عمره كان يمكن تلخيصه في جملة واحدة العلم في مواجهة الاخلاق.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم