شهادات ومذكرات

بوشكين صحفيا

من الوقائع التي لا زلت مندهشا امامها - منذ ان عرفتها ولحد الان - في تاريخ الادب الروسي، هو ان بوشكين في يوم مبارزته مع خصمه الضابط الفرنسي دانتيس ذهب الى عمله الاعتيادي، وكان رئيس تحرير مجلة سوفريمينك (المعاصر)، وهناك مارس عمله اليومي الاعتيادي، اذ قام بتصحيح بعض المقالات كما يجب وكتب بعض الهوامش اللازمة عليها هنا وهناك، ثم ذهب بعد ذلك الى المبارزة، والتي – كما هو معروف – اصيب بها وتوفي على أثرها بعد يومين من المعاناة وكان عمره آنذاك 38 سنة . من الممكن – عند تأمٌل هذه الواقعة الحقيقية – ان نصل الى العديد من الخلاصات والاستنتاجات المرتبطة بها، منها مثلا شجاعة بوشكين وقوة اعصابه ورباطة جأشه والاصرار على حفظ كرامته الشخصية وايمانه القوي والعميق بحقه ...الخ، ولكن يمكن ان نضيف الى كل ذلك ايضا حبه واحترامه لعمله الصحفي والتزاماته تجاهه وارتباطه الحيوي والروحي بهذا العمل وطبيعته .

بوشكين – ظاهرة ثقافية وفكرية كبيرة في تاريخ روسيا، فهو قبل كل شئ شاعرها الوطني الاول، وواضع اسس لغتها المعاصرة، ولا يمكن بالطبع ألكتابة باختصار عن مكانته الفكرية واهميته التاريخية لروسيا، وأظن ان كلمات الناقد الروسي ابولون غريغوريف حول بوشكين تختصر ذلك، اذ انه قال عن بوشكين كلمة اصبحت مشهورة جدا في تاريخ الادب الروسي وهي – (بوشكين – هو كل شئ)، وهذا ينطبق ايضا – وبلا شك - على تاريخ الصحافة الادبية الروسية طبعا . لقد بدأ بوشكين بنشر نتاجاته في تلك الصحف والمجلات التي كانت موجودة في روسيا بداية القرن التاسع عشر، وهناك احصائية طريفة في تاريخ هذه الصحافة تشير الى ان بوشكين نشر 50 نتاجا من نتاجاته في تلك الصحف، بما فيها في جريدة (ليتيراتورنايا غازيتا) (الصحيفة الادبية) التي كانت تصدر في ذلك الحين، والتي لازالت تصدر لحد الان في روسيا وهي تحمل في عنوانها صورتين لاديبين هما الكساندر بوشكين الذي ساندها بقوة ونشرنتاجاته الادبية فيها وساهم في دعمها، ومكسيم غوركي الذي أعاد اليها الحياة بعد ثورة اكتوبر 1917.

كان بوشكين يحلم ان تكون له جريدة او مجلة خاصة به، يستطيع من خلالها ان يطرح وجهة نظره الخاصة به في شؤون الادب والفكر بشكل عام، وهكذا استطاع الحصول على الموافقات الاصولية اللازمة باصدار مجلة فصلية تصدر اربع مرات بالسنة عنوانها – (سوفريمينك) اي (المعاصر) وذلك عام 1836، وقد أصدر فعلا في ذلك العام أربعة أعداد منها . لم تستطع مجلة بوشكين – كما هو الحال بالنسبة لمعظم الصحف والمجلات الروسية في ذلك العصر – ان تكسب المردود المالي اللازم لضمان استمرارية صدورها، اذ انها حصلت على 600 مشترك ليس الا، وهو رقم متواضع جدا لا يمكن ان يموٌل تكاليف الاصدار، مما اضطر بوشكين في العددين الثالث والرابع ان يكتب اكثر من نصف موادها وباسماء مستعارة ليخفف ويقلل من مصروفاتها المالية . لقد كانت مجلة المعاصر ذات مستوى ثقافي رفيع جدا، اذ انها نشرت العديد من نتاجات غوغول مثل قصتة الطويلة المشهورة – (الانف)، ومقالتة النقدية حول حركة المجلات الادبية، وساهمت اسماء لامعة في دنيا الادب الروسي فيها مثل الشعراء جوكوفسكي وتوتشيف وكولتسوف وغيرهم، وحاول بوشكين ان يجذب بيلينسكي للكتابة فيها، ونشرت المجلة موادا متنوعة من شعر ونثر ودراسات ومقالات نقدية وتاريخية واثنوغرافية متنوعة جدا، ونشر بوشكين نفسه نتاجاته فيها ايضا مثل - (التاجر البخيل) و(رحلة الى ارضروم) و(ابنة الآمر) وغيرها.

بعد المبارزة التراجيدية ووفاته، قرر اصدقاء بوشكين الاستمرار باصدار تلك المجلة، وهكذا صدرت المجلة عام 1837 باشراف مجموعة من اصدقاء بوشكين وبنفس الحجم والشكل وكتبوا على غلافها – (سوفريمينك / مجلة بوشكين الادبية / تصدر لدعم عائلة بوشكين / يحررها فيازيمسكي واسماء ادباء آخرين.. ..)، وقد استمرت المجلة بنفس النهج السابق لها، ونشرت بعض نتاجات بوشكين التي لم يستطع نشرها في حينه، واستطاعت ان تتحول الى مجلة شهرية . توقفت هذه المجموعة من الادباء الروس عن اصدار هذه المجلة عام 1846 وباعتها الى الشاعر الروسي نكراسوف، الذي استمر باصدارها واستطاع ان يكسب اليها مساهمة ادباء روس كبار مثل تورغينيف وغانجروف وغيرتسن وتولستوي وأستروفسكي ...الخ، ثم جاء الى المجلة الناقد والمفكر الروسي الثوري تشرنيشيفسكي وزميله الناقد الادبي دوبرالوبوف وتحولت المجلة الى لسان حال الديمقراطيين – الثوريين، وحدث بسبب ذلك انشقاق في هيئة تحريرها وانسحب منها تولستوي وتورغينيف وغريغورفيتش، ثم تم غلقها من قبل السلطة القيصرية عام 1866 . هذا هو التاريخ المختصر جدا والوجيز جدا لمجلة بوشكين سوفريمينك (المعاصر) منذ اصدارها من قبله عام 1836 حتى اغلاقها عام 1866 .

لا توجد – حسب معلوماتي المتواضعة – دراسات تفصيلية شاملة حول تاريخ الصحافة الروسية باللغة العربية، واظن انه من الضروري جدا كتابة ذلك بلغتنا العربية كي ندرس هذا التاريخ الحيوي والمهم جدا لاستيعاب وفهم خصائص دولة كبرى مثل روسيا وتاريخها الفكري ، والذي يقتضي – قبل كل شئ – ان يستعرض الوقائع التاريخية الخاصة بهذه المادة بشكل عام، والوقائع التاريخية بالصحافة الادبية بشكل خاص، اذ ان هذا التاريخ يعني – بالنسبة لنا - دراسة وتحليل المجتمع الروسي بمختلف جوانبه الفكرية بلا أدنى شك، وكم اتمنى ان يأخذ أحد الباحثين العرب الشباب هذه المهمة، ويدرس تاريخ الصحافة الادبية الروسية، ويقدمها للقارئ العربي، وفي مقدمتها مجلة بوشكين الادبية – سوفريمينك (المعاصر)، وذلك باشراف احد المتخصصين العرب في هذا المجال في احدى الجامعات العربية التي يوجد فيها قسم خاص بالادب الروسي وتاريخه، وهذا يقتضي بالطبع – وفي ألاقل - تقديم فهارس كاملة لتلك المجلات وخلاصات وافية لمحتوياتها وآراء تحليلية وموضوعية لتلك المحتويات، وهي مهمة ليست بسيطة في كل الاحوال .

دعونا نتمنى تحقيق ذلك .

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم