شهادات ومذكرات

علاء اللامي: من التراث المقاوم (2): معركة القسطل

معركة القسطل: عبد القادر الحسيني ورفاقه في مواجهة خيانة الرسميين العرب ودموية الصهاينة!

حدثت معركة القسطل قبل النكبة وهزيمة جيوش الحكومات العربية التي شاركت في الحرب المهزلة ولكن في السنة ذاتها (1948). جرت هذه المعركة في قرية القسطل وهي من مداخل مدينة القدس الدفاعية الاستراتيجية. وقاد المقاومة الفلسطينية فيها الشهيد السيد عبد القادر موسى كاظم الحسيني (ولد في القدس في 1908 واستشهد في 8 نيسان/ أبريل 1948، والده هو شيخ المقاومين المجاهدين في فلسطين موسى كاظم الحسيني الذي شغل بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية متنقلاً في عمله بين اليمن والعراق ونجد وإسطنبول ذاتها بالإضافة إلى فلسطين).

عملية القسطل هي عملية عسكرية بدأت بها العصابات والمليشيات الصهيونية التي كان هدفها الاستيلاء على مدينة القدس بالكامل. يقول بن غوريون في كتابه "بعث إسرائيل" ما يلي: "ما أن أطلّ شهر نيسان/أبريل 1948 حتى كانت حربنا الاستقلالية قد تحولت بصورة حاسمة من الدفاع إلى الهجوم. لقد بدأت عملية (نخشون) باحتلال الطريق المؤدية إلى القدس حيث نقف الآن وكذلك بيت محيسير وتوّجت باحتلال القسطل التلّة الحصينة قرب القدس".

بدأت المليشيات الصهيونية بدعم بريطاني بتنفيذ عملية نخشون لفك الحصار عن القدس في مطلع أبريل 1948، ولكن المقاومة الفلسطينية تصدت لها وهزمتها في المعركة الأولى وبقي طريق باب الواد إلى القدس مغلقاً إلى ما بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين.

كما هاجم المجاهدون الفلسطينيون مستعمرة مشمار هاعمك أثناء انهماك الصهاينة في الهجوم على القدس القديمة لتصفية قوات "الجهاد المقدس" التي كان يقودها الحسيني وفي محاولة فك الحصار المضروب عليهم بفتح الطريق إلى تل أبيب.

في الثاني نيسان/إبريل من عام 1948 قامت قوات مليشيا الهاجاناه الصهيونية بمهاجمة قرية «القسطل» غربي القدس، واستولت عليها وطردت كل سكانها منها وكانت القسطل تشكل بداية لخطة يهودية لاحتلال الجزء الأكبر من فلسطين قبل الإعلان رسميا عن إنهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو من عام 1948.

واستباقا لما سيحدث قام القائد عبد القادر الحسيني بمواجهة هذا الهجوم بقوات فلسطينية متفرقة وقليلة مجهزة بأسلحة بدائية وقليلة الفعالية في الحروب، ولم تتلق هذه الجماعات المقاومة الفلسطينية أي دعم من حكومات البلدان العربية.

أخذ القائد عبد القادر الأمور على عاتقه، وفي 5 نيسان / إبريل من عام 1948 توجه بقواته البسيطة نحو القسطل، وليس معه سوى 56 مقاتلا، واستطاع فعلا أن يحاصر القسطل، لكن قبل أن يضرب حصاره على القسطل، توجه إلى جامعة الدول العربية يطلب عبثاً إمداده بالسلاح والذخيرة من حكام العرب مستغيثاً بهم واحدا تلو الآخر وهم يرفضون المساعدة ويماطلون فيها.

تتحدث كتب التاريخ عن لقاء بين عبد القادر الحسيني واللجنة العسكرية العربية. يقول الحسيني أن اللجنة العسكرية طالبته بعدم افتعال تصرفات فردية، وأن جامعة الدول العربية قد أوكلت قضية فلسطين إلى لجنة عسكرية عليا تتولى تحرير فلسطين، وطالبوه بعدم الذهاب نحو القسطل، فقال ردا عليهم:  "إنني ذاهب إلى القسطل وسأقتحمها وسأحتلها ولو أدى ذلك إلى موتي، والله لقد سئمت الحياة وأصبح الموت أحب إلى من نفسي من هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة، إنني أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين، إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين ".

وبعدها قَدِمَ الحسيني إلى القسطل بقواته وأسلحته البسيطة، وصادف أن كانت إحدى الجيوش العربية بقيادة إنجليزية موجودة ومتمركزة في رام الله (أرجح أن يكون المقصود هو الجيش الأردني الذي كان يقوده الجنرال البريطاني جون غلوب)، فطلب عبد القادر من هذا الجيش مساندته وتزويده بالسلاح، فاعتذر قادة الجيش وطلبوا منه تأجيل القتال حتى يحدث الانسحاب العسكري البريطاني في 15 أيار/ مايو من عام 1948.

لم تكن الدول العربية تريد مواجهة مع بريطانيا، ورأت أن أي عمل عسكري الآن سيعني مواجهة حتمية مع بريطانيا وفقدان الدول والحكم الذي وعدتهم بريطانيا به، ولكن الحسيني بدأ يرسل المتطوعين في فلسطين ومصر إلى جبهات القتال ضد المليشيات الصهيونية، ثم إنه طوق القسطل وبدأ يستنجد مرة أخرى بالقيادة العسكرية، وأرسل إليهم بأنه بمساعدتهم سينهي الوجود الصهيوني فيها، بيد أن القيادة العسكرية للجامعة العربية أصرت على موقفها. وأثار ذلك الترنح في مواقف الجامعة العربية حفيظة الحسيني، وثارت ثائرته فأطلق صيحته قائلا: "نحن أحق بالسلاح المُخَزَّن من المزابل، إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين، وإنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم".

وقد ذكرت «جريدة المصري» أن اللجنة العسكرية العليا التابعة للجامعة العربية جعلت تسخر من عبد القادر الحسني، وضعف قوته وعتاده اللذين يحملهما لمواجهة الصهاينة، وسخر منه الضابط العراقي الملكي والذي أصبح رئيسا للوزراء لمدة شهرين سنة 1941 طه الهاشمي، شقيق رئيس الوزراء ياسين الهاشمي مرتين في الثلاثينات، وأخبره أن لدى اللجنة العتاد والسلاح، ولكنها لن تعطيه له (لعبد القادر الحسيني)، ولكنها ستنظر بالأمر بعد 15 أيار فكان رد الحسيني عليه: "والله يا طه باشا إذا ترددتم وتقاعستم عن العمل فإنكم ستحتاجون بعد 15 أيار إلى عشرة أضعاف ما أطلبه منكم الآن، ومع ذلك فإنكم لن تتمكنوا من هؤلاء اليهود، إني أشهد الله على ما أقول، وأحملكم سلفاً مسؤولية ضياع القدس ويافا وحيفا وطبرية، وأقسام أخرى من فلسطين".

ولكن أعضاء اللجنة لم يتهموا لقوله وسخروا من حماسه واندفاعه، فاستشاط عبد القادر غضبا، صرخ بهم: "إنكم تخونون فلسطين ...إنكم تريدون قتلنا وذبحنا!"

أما رفيقه المجاهد قاسم الرمادي فقد قال: "ليسقط دمي على رأس عبد الرحمن عزام (أمين الجامعة العربية)، وطه الهاشمي وإسماعيل صفوت (قادة القوات العسكرية التابعة للجامعة العربية) الذين يريدون تسليمنا لأعدائنا لكي يذبحونا ذبح النعاج، لكننا سنقاتل بدمائنا وأجسادنا، وليبق السلاح مكدسا في عنابر اللجنة العربية، وفي مزابلها، سنرجع إلى فلسطين لنحقق أمنيتنا بالفوز بإحدى الحسنين إما النصر وإما الشهادة ". ثم قفل عائدا إلى القسطل، وجعل يردد قول أخيه القائد الشاعر عبد الرحيم محمود الذي قُتل في معركة الشجرة:

بقلبي سأرمي وجوه العـداة... فقلبي حديد وناري لظى

وأحمي حماي بحد الحسـام... فيعلم قومي بأني الفتى

أخوفاً وعندي تهون الحياة؟! أذلاً وإني لـربي أبى؟!

ثم تَجَّمَعَ من المتطوعين مع عبد القادر الحسيني 500 رجل مجاهد انضموا إليه في حصار القسطل، في 8 إبريل من عام 1948 بدأ الهجوم الشامل على القرية، وانتهت المعركة بمقتل 150 يهوديا وجرح 80 منهم، وتم تحرير القسطل، ولكن بعد استشهاد عبد القادر الحسيني في المعركة. فحين قام الحسيني باقتحام قرية القسطل مع عدد من المجاهدين، وقع ومجاهديه في كمين الصهاينة وتحت وطأة نيرانهم فهبت نجدات كبيرة إلى القسطل لإنقاذ الحسيني ورفاقه، وكان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف، وتمكن رشيد عريقات في ساعات الظهيرة من السيطرة على الموقف وأمر باقتحام القرية وبعد ثلاث ساعات تمكنوا من الهجوم وطرد الصهاينة منها.

وفي التفاصيل نعلم الآتي: عند وصول فصيلي المدافع الفلسطينية إلى سفح مرتفع قرية «بدو» المشرفة على القسطل والقدس بعد ظهر 8 أبريل 1948 واجهتهم صعوبة وهي استحالة صعود السيارات قاطرة المدافع وحاملة الذخائر إلى ذلك المرتفع لوعورة الطريق. وكان يجب الاستعجال بوضع المدافع في مرابضها لدخول المعركة بأسرع وقت ممكن. وتقرر ترك فصيل الـ 75 مم في السفح ريثما يتم تعبيد الطريق إلى المرتفع، وبفك مدفعي الـ 105 مم، كل مدفع إلى أربع قطع، وحمل هذه القطع مع الذخائر على سواعد الرجال. وهنا الأهالي والقرويون من سكان المنطقة من رجال ونساء وصبية لمساعدة المجاهدين في حمل أجزاء المدفعَين والذخيرة، فحملوها وصعدوا بها إلى أعلى المرتفع بسرعة خارقة فاجأت الجميع! ثم إنهم عادوا جميعاً إلى الطريق وعبّدوه بالحجر ونظّفوه ليصبح صالحاً لتقدّم السيارات عليه. وتم تجهيز المربض للمدفع على مرتفع «بدو» في أقل من ساعتين مع فصيل 105 مم وذخائره جاهزاً للرمي على القسطل ومستعمرة مودسا التي ما كانت سوى حيّ شرقي لها. وفتحت النيران قبيل الساعة الخامسة على الأهداف المحددة، فصعق الصهاينة الذين فوجئوا تماماً بحضور المدفعية. وصمتت رشاشاتهم التي كانت تلعلع عند وصول القوة. ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى كان الصهاينة يلوذون بالفرار ويقوم مقاتلو "الجهاد المقدس" باستعادة القسطل. وعند غروب الشمس كان الطريق إلى مرتفع «بدو» صالحاً لصعود السيارات، فوصل فصيل الـ 75 مم وربض إلى جانب الـ 105 مم، ووصلت كل الذخائر.

لقد استشهد عبد القادر صبيحة الثامن من إبريل عام 1948، حيث وجد جثمانه قرب بيت من بيوت القرية، وجسده مثخن بالرصاص محتضنا بندقية رشاشة من طراز ستن (STEN)، فنقل جثمانه في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد، وقد استشهد وهو في الأربعين من عمره وهو في أوج عطائه الجهادي. المقاوِم.

يومها خرج جميع المقادسة الفلسطينيين لتشييع السيد عبد القادر الحسيني تشييعا مهيبا، وردا على هزيمتهم المخزية رد الصهاينة بارتكاب مجزرة جبانة أخرى بحق المدنيين فعمدت مليشياتهم إلى مهاجمة قرية دير ياسين غربي القدس وأبادت سكانها فلم يبقَ فيها شيء ينبض بالحياة سوى ركام المنازل وأشلاء المدنيين الفلسطينيين. وكانت العصابات الصهيونية التي ارتكبت هذه المجزرة الدامية بقيادة المجرم مناحيم بيغن الذي اقتسم مع أنور السادات جائزة نوبل للسلام بعد سنوات. أما كريتش جونز كبير مندوبي الصليب الأحمر فقد صرح بعد المذبحة قائلا: "لقد ذُبح 300 شخص في دير ياسين بدون أي مبرر عسكري أو استفزاز من أي نوع، وكانوا رجالاً متقدمين في السن ونساءً وأطفالاً رضع"!

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم