شهادات ومذكرات

عبد الأمير كاظم زاهد: علماء تنويريون من الوسط الشيعي

السيد محسن الامين العاملي

ولد السيد محسن بن السيد عبد الكريم الحسيني العاملي في قرية شقرا من جبل عامل سنة 1283هـ ونشأ فيها وأكمل مقدّماته العلميّة ثمّ هاجر إلى العراق قاصداً النّجف الأشرف بلد العلم والايمان ومدرسة المجتهدين، وأقام فيها سنوات يطلب العلوم الإسلاميّة وقد حرص السيد على تحصيل اكبر قدر من المعرفة فقد جدَّ في دراسته وحضر دروس المراجع والأعلام، وكان قويّ  الحافظة فطناً ألمعيّاً لبيباً شاعراً ينظم الشعر الممتاز، له في المديح والرثاء والحكمة ما يثير الاعجاب والثناء وقد انهى المقدمات والسطوح والمباحث العالية وحاز على درجة. الاجتهاد والفضل الواسع . من كبار المراجع وبعد اكمال السيد لمتطلبات الدراسة والتمكن وجد ان واجبه في بلاد اخرى فغادر السيد العاملي النجف الى مدينة دمشق الشام ليكون مدلا على الحقّ و مبشراً بالإيمان العلوي الصافي والصدق النفسي والتقوى، وقد بثّ في تلك البلدان مكارم الأخلاق والفضائل الإسلاميّة، وأقام في دمشق واعتبرها مركزه الدائمي. وهناك ظهرت دعوته الاصلاحية وأخلاقه الساميّة، وذاع صيته في البلدان الإسلاميّة كرجل مصلح وتنويري ومؤمن ايمانا صلدا، ولاجل ان تصل دعوته فقد أَلَّفَ وصنّف الكثير من الكتب والرسائل، وكان اكثرها اجابات عن الأسئلة التي ترده من اتباع المذاهب الاخرى فيجيب عنها. ثم جمعت فكانت جزءا مهما من مؤلفاته وله اراء تفرد بها في السلوك الطقوسي الشيعي.

ولاراء السيد العاملي مقدمات منها كتابات السيّد مهدي البصري (ت 1358هـ  (اذ له عدّة مقالات في الصحف العراقيّة ينتقد فيها بعض الممارسات في الشعائر الحسينيّة، وذلك بعد عودته من الكويت واستقراره في مدينة البصرة سنة 1343هـ، وكانت صحيفة "الأوقات" ـ التي تصدر في البصرة آنذاك ـ  قد ساهمت مساهمة كبيرة في نشر تلك المقالات.  ثم ألّف البصري رسالة مستقلّة دوّن فيها جميع انتقاداته وإشكالاته على بعض الممارسات في الشعائر الحسينيّة، سمّاها "صولة الحقّ على جولة الباطل" و طبعت في العراق سنة 1343هـ .

وفي عام 1344هـ صرّح السيّد محسن الأمين من مقرّ إقامته في العاصمة السوريّة دمشق بارائه في تاييد راي البصري في ضرورة تصحيح بعض الممارسات التي تعد من الشعائر الحسينيّة التي كان يُقيمها بعض محُبّي أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها ضرب الرؤوس بالسيوف (التطبير).

ولم يكتفِ الأمين بالتصريح فقط، بل دوّن آراءه في رسالة ألّفّها سمّاها "التنزيه في أعمال الشبيه"، أثبت فيها لزوم تنزيه مجالس العزاء من الأعمال غير المقبولة ودعا الى وجوب التحرّز من إدخال بعض المحرّمات في مجالس التعزية . وقد طُبعت هذه الرّسالة أوّلا بمطبعة العرفان سنة 1347هـ، ثم توالت طبعاتها، وتُرجمت إلى عدّة لغات.

وقد انتشرت هذه الرسالة وأحدثت ردود فعل عارمة في اكثر من مكان، ووجد الموافقون لآراء السيّد الأمين ان الرسالة معبرة عما في رأيهم من رغبة في اعلاء شان الحسين الشهيد بكل ما يليق به صلوات الله عليه فرفعوا أصواتهم عالياً مؤيدين دعوته،  وكأنّهم كانوا ينتظرون من يقوم بهذا الدور ممن هو على مستوىً رفيع كأن يكون من كبار المجتهدين،  فجاءت هذه الرسالة لتكون لهم صوتا دينيا معتبرا، لا سيّما أنّ صاحبها علم من الأعلام الذين لا يشكّ أحد في ولائه وإخلاصه وتفانيه من أجل الدين الحنيف. ولا في اجتهاده وعلمه الغزير فنشروا الرسالة في اوساط اهل العلم ومثلما وجد فيها المتوافقون معها فرصتهم للاعراب عن رايهم وجد فيها المخالفون لها فرصة للتنديد بآرائه التي تشكل خطراً يُهدّد في رايهم الشعائر معارضة شديدة وقاسية واستخدمت للمعارضة كل الوسائل ولقد عارضها بعض الناس ربما عن حرص ديني وخُلوص نيّة ومحبة للحسين ع وربما اتباعا لما الفوه من ممارسات  اسلافهم بحيث بدت عندهم تلك الممارسات فعلا مقدسا، وهم يعتقدون أنّ واجبهم الدينيّ يُحتّم عليهم ذلك وعارضها قسم منهم حماية لاوضاعهم الاجتماعية ومردوداتهم المالية .واستغلّها البعض الآخر ذريعةً لتمرير ألآعيبهم على النّاس البسطاء.

وكان السيّد مهدي البصري حادا في مقالاته ورسالته وشديدا في انتقاده لبعض الاعمال التي تقدم على انها من الشعائر الحسينيّة كضرب الرؤوس بالسيوف، وضرب الظهور بالسلاسل. وبعد أن كتبَ السيّد مهدي البصري رسالته "الصولة" وكتب أيضاً عدّة مقالات اخرى في الصحف العراقيّة ينتقد فيها بعض الشعائر الحسينيّة، وبعد ان ظهرت رسالة التنزيه للعاملي مؤيدا البصري وجّه أهالي البصرة عدّة استفتاءات إلى علماء النجف الأشرف يطلبون منهم بيان الحكم الشرعي لهذه الممارسات، فكان جوابهم بين مؤيّد لها ومعارض. فأيّد اقامة تلك الممارسات كشعائر الميرزا حسين النائيني (ت 1355هـ) والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (ت1373هـ)، وعارضها وحرمها وندد بها السيّد أبو الحسن الأصفهاني منتصرا للسيد العاملي الذي قام بالدفاع عن الآراء الواردة في رسالة "الصولة"، عندما شرع بكتابة عدّة مقالات في الصحف البيروتيّة، ينتقد فيها بعض الشعائر الحسينيّة كضرب الرؤوس بالسيوف وضرب الظهور بسلاسل الحديد. وعندها قام بتأليف كتابين مهمّين في هذا الموضوع هما: "إقناع اللائم على إقامة المآتم" ، و"المجالس السنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة وقد طُبعاً معاً سنة 1343هـ.

ان كتابه "المجالس السنّية" كتاب كبير يقع في خمسة أجزاء، ألّفه السيّد الأمين لكي يكون مرجعاً لخطباء المنبر الحسينيّ، فقد ضمّنه الوقائع التأريخيّة الصحيحة في حياة الأنبياء وأهل البيت (عليه السلام) ووقف عند الصحيح مما جرى في واقعة الطّف. الذي خصص الجزء الأوّل منه للواقعة وكان الجزء الثاني في قصص الأنبياء وغزوات نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، والثالث في حروب أمير المؤمنين (عليه السلام)، والرابع في أخبار معاوية والإمام الحسن (عليه السلام)، والخامس في أخبار جميع المعصومين وتواريخهم. وقد طبع عدّة مرّات، وتُرجم جزؤه الخامس إلى اللغة الفارسيّة. ويشار الى ان ممن وقف ضد رسالة ودعوة التصحيح عند السيد محسن الامين العاملي وعارضها الشيخ عبد الحسين صادق العاملي (ت 1361هـ) وهو آنذاك من أكبر رجال الدين في النبطيّة بلبنان وكان لموقفه في ذلك الوقت ردود افعال مضادة ومؤثرة على رسالة "التنزيه" من مختلف طبقات المجتمع: علماء، وفضلاء، وخطباء، وشعراء، وعامّة الناس. واختلفت اساليب هذه الردود حسب مستوى الناس وثقافاتهم: فمنهم من اكتفى بكلمات الاستغفار والدعوة لصاحب الفتوى بالهداية، وأظهر آخرون معارضتهم لها باللسان والكتابة والشعر، وتجاوز البعضُ الحدودَ فاتّهم السيّد الأمين بتُهم باطلة، وتجاسر آخرون عليه وعلى مؤيّديه بالسب واللعن  لكن السيد كان يتحلى بالخلق الكريم فلم ينزل الى مستوى السباب والاتهام والافتراء كما تحلى بشجاعة عالية تعامل مع معارضةَ عددٌ كبير من رجال الدين، وفي مقدّمتهم مراجع دين، ومجتهدون، وكتّاب معروفون،كانوا يؤيدون تلك الممارسات او يخافون التصريح بمعارضتها من عموم الناس ولم ينته الجدل فقد بدأ ولا يزال يتصاعد بين اوساط المتعلمين والمثقفين ومعهم المتمسكون بالاعراف التي ورثوها عن ابائهم في طقوس عاشوراء.

السيد هبة الدين الشهرستاني

وهو السيد محمد علي بن حسين العابد يعود نسبه الى الشهيد زيد بن علي بن الحسين ولد في مدينه سامراء في٢٤ رجب ١٣٠١ هج وتعلم الاساسيات وهاجر مع والده الى كربلاء في١٣١٨ هج وبعد سنتين وهو في مقتبل العشرين  من عمره مكث بالنجف للدراسه  مدة خمس عشرة سنه ودرس على الشيخ حسين النوري وعلى الاخوند الخراساني واليزدي وتولى تدريس المعارف الدينية فكان من تلامذته الشيخ جعفر النقدي ومحمد رضا الشبيبي والشيخ علي الشرقي وغيرهم وقد انشا علاقات مع الشيخ محمد عبده ومع صحف الهلال والمقتطف وطاف في اغلب البلدان العربية والإسلامية وتعرف على الثقافات المختلفة.

له من المولفات مايقارب ٥٣ مخطوطا و ٢٥ مطبوعا منها الدين في ضوء العلم وكتابه الشهير نهضة الحسين ع وانشا الرجل عددا من الجمعيات الإسلامية لنشر الثقافة واصدر مجلة اسماها مجلة العلم كما اسس مكتبة ممتازة في الكاظميه كان يريدها ان تكون موسسة ثقافية كبرى

شغل السيد  هبة الدين مجموعة مهام منها  توليه وزارة المعارف عام ١٩٢١ وقاضي القضاة الجعفري ورئيس مجلس التمييز الشرعي لمدة ١٢ سنه وتوفي رحمه الله في ٦ شباط ١٩٦٧ ودفن في مكتبته بالكاظمية.

يعد كتابه نهضة الحسين ع من الكتب المهمة التي يجب الاطلاع عليها ففيه حدد معنى الخلافة عن النبي انها رعاية الملهم لتعليم الامه ارقى العادات وازكى العبادات وافضل المعاملات وهو هنا افلاطوني وفارابي النزعة اذ يرى ان مشروعية السلطة للمدبر الاعلم المربي للامة ويرى انها اخت النبوة وعلى هذا المعيار تساءل من من الخلفاء لديه هذه القدرة وهو بهذه المواصفات ليكون ولي امر الامه واشار الى اهلية امير المومنين والحسن ثم الحسين ع وعلى اهلية الحسين اعتبر السيد هبة الدين ان الحسين لا يزال وليا للامة ومعلما لها وعلينا ان نتعلم دائما من الحسين فهو الفلسفة لكل الحركات التقدمية وهو الاساس لكل المباديء العادلة وقد سرد السيد حركة الحسين بتفاصيلها من مكة الى كربلاء وما حصل فيها من احداث حتى استشهاده يوم العاشر من محرم ٦١  هج وما جرى لعياله ودور السيدة عقيله بني هاشم في مواصلة الثورة ثم تناول تاريخ العزاء الحسيني من عصر البويهيين حتى عصره رحمه الله

وقد اشاد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بالكتاب فقال ما زلت احث على قرائته رعاية للحق والعلم والمروءة فانه من الاثار الخالدة ومن أجل كتب الدهر وليس من كتب العصر ومن الابداعات الجاريات الى الابد وليس من الساريات الى امد

والجدير بالذكر انني حينما تابعت مصادر الكتاب وجدته يقف عند المصادر الموثوقة التى تنال احترام المحققين  ولم اجده يقف عند تلك التي أشار العلماء فيها الى الخلل   ويذكر السيد ان ما حدا به لتاليف الكتاب غفلة الناس عن اهمية ثورة الحسين ع فعرضها عرضا موضوعيا واجتماعيا رائعا.

طبع الكتاب في عام ١٩٦٩ لكنه قد فرغ منه في ١٣٤٣ اي  مطلع ستينات القرن الماضي ولكنه لم يطبعه خوفا من جهلة الناس

 وفي هذه السنه كتب السيد مهدي القزويني مقالات عن نهضة الحسين يدعو فيها الى تطوير شعائر الحسين واصلاحها وضمنها بكتاب.

 وكذلك السيد محسن الامين العاملي في كتابه اقناع اللائم على اقامة الماتم وكتابه المجالس السنية فكانت الاحتجاجات على السيد محسن الامين قد جعلت الكثير ممن يرى رايه ولكنه لم يفصح خوفا من جهله العامة الا السيد هبة الدين الذي ناصره علنا وقد عارض السيد محسن الامين الشيخ النائيني ومحمد حسين كاشف الغطاء والشيخ عبد الحسين صادق العاملي والشيخ محمد جواد البلاغي رغم ما بينهما من صداقة وطيدة.

اما من وافق السيد محسن الامين المرجع الامام السيد ابو الحسن الاصفهاني والشيخ عبد الكريم الجزائري وهبة الدين الشهرستاني والشيخ جعفر البديري والشيخ محسن شرارة العاملي ولكن الكثرة الكاثرة ناغمت عوام الناس الذين تحركهم العاطفة.

لقد كان الاولى بدل هذه المعركة حامية الوطيس ان نتساءل كيف نستقدم الحسين ع من عالمه العلوي ليكون موجهنا لحياه ارقى وكيف نتوسل به لكي يرشدنا الى طريق بناء الانسان الارقى لاننا نعتقد ان الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة كما وصفه جده المصطفى ص.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

في المثقف اليوم