شهادات ومذكرات

عبد الحسين شعبان: براغ.. وثمّة عـشـق!! (1-3)

abdulhusan shaabanحين دعاني "النّادي الثقافي العراقي" في براغ لإلقاء محاضرة، اخترتُ "العِشق" عنواناً لحديثي، بما له من مدلولات وألغاز وأسرار، خصوصاً حين نكون في حضرة براغ، حيث الثقافة وسرديّاتها المكتوبة والبصرية والمرويّة، تلك التي تجمّع بعضها في زوايا الذاكرة المُتعبة. قلت: لكنّها ليست محاضرة، بل هي بضعة خواطر مبعثرة ومتناثرة عن معشوقة، ظلّ العاشق يحتفظ بمنديلها المعطّر، فيشمّه كلّما شعر بالشوق إليها، ليستحضر صورتها ويستذوق طعمها ويلامس وجوهها المتعدّدة.

حاولت أن أستفزّ الذّاكرة لتخرج على غير نظام من زواياها، ولم أنتظر أنْ تكون لها منهجية أو تخطيطاً، فالمحاضرة تحتاج إلى قراءة ومراجعة واستحضار وكتابة، بما فيها من مقدّمة ومتن واستنتاجات واقتباسات وتدقيق ومناظرة ومصادر.

إذاً، فلنؤجل الحديث عن الهويّة وفرعياتها، والنجف وخصوصياتها، كما كنت قد وعدت من دعاني لإلقاء محاضرة لأكثر من مرّة، لمناسبة أخرى، وهو ما ذكرته في استهلالي "البراغي"، ولنترك الحديث ينساب عن براغ، فثمّة عشق معتّق.

وهكذا جاءت الأحاديث بعفويّة وبساطة، تكاد تكون أقرب إلى الارتجال والشفوية، لقناعتي أن الكلام عن براغ يخفّف من غلواء القسوة الماثلة أمامنا بكل جوانبها، وثانياً أنه يقرّبنا من بعضنا، حين يعيد استذكار الحميميّة العفوية الشبابية الأولى، وثالثاً أنه يسترجع تاريخاً يكاد يكون متّفقاً على خطوطه العريضة، وإنْ احتوى ألغاماً من الأسئلة، ورابعاً أنه تشجيع على البوح، فلكلّ من الحاضرين قصّته الخاصة عن المعشوقة "براغ"، التي يلتقي في حبها كثيرون، دون أن يشعر أحدهم بالغيرة من الآخر، ودون أن تعطي هي نفسها لواحد منهم، لأنها ملكٌ للجميع، ولكن بشروط العشق التي تحرص على مراعاتها، هكذا تقترب المعشوقة مِن كل مَن عشقها.

وأخيراً، إن المناسبة اجتماعية ثقافية، وهي أقرب إلى "احتفالية"، استجبتُ إليها، وأنا الذي أتردّد في قبول دعوات إلاّ باتفاقات وتهيئة مناسبة، ولذلك قلت: لا ينبغي الإثقال على الأصدقاء بمواضيع ذات طبيعة إشكالية، سواء بمعناها الأكاديمي أو الفكري أو السياسي، ولا بدّ لي من الاكتفاء بخبطة ثقافية، هي تصوير بانورامي عن لقاء العاشق بالمعشوق.

*        *        *

في براغ تستحضر معك:

الدهشة،

الإبداع،

الحميمية،

عبق التاريخ،

فكلّ شيء في المدينة يدلّك على حضورها البهيّ وجلال قدْرِها وجمال روحها وحُسن محيّاها وعظمة تاريخها. إنها مدينة مفتوحة، ساحرة وفاتنة، تُظهر بقدر ما تُخبّىء، وتبوح بقدر ما تكتم، وتتكلّم بقدر ما تصغي، وتسأل بقدر ما تُجيب.

هكذا هي براغ "المعشوقة"، حتى وإنْ كان طقسها مكفهّراً أحياناً وربما باكياً، وأبنيتها قديمة وأزقّتها ضيّقة وحاراتها متعرّجة، ولكن على الرغم من أن الطقس يبعث أحياناً نوعاً من التبرّم والكآبة، إلاّ أن الإنسان الذي يدخلها باكياً بصورتها الأولى، يخرج منها باكياً أيضاً، وهذه المرّة على فراقها، بعد أن يكون قد تعرّف على خباياها وخفاياها، ودخل في تفاصيل حياتها ونسائها وخمورها وأطايبها وعوالمها.

بصوتها ذات النّبرة الشاميّة المدهشة صاحت شيرين، حينها: "يا الله... العمى، تئبرني": ما أروع الخريف في براغ، لاحظْ ألوان الأشجار كيف تتغيّر كل يوم؟ الأشجار بلون البرتقال والورد والتوت والرمّان والكرز والمشمش... وأضافت كنت أعتقد أن الجمال في الربيع، ولكن خريف براغ هو ربيعها أيضاً، أما الصيف، فقلت لها: تبدأ المدينة فيه بالتحلّل من أثقال الشتاء وتخلع ملابسها قطعة قطعة، لتعود حوّاء كما خلقها الباري، وهي تقضم تفاحة آدم. أما الشتاء، فهناك الشلالات الفضيّة والسنديانات وأشجار البلوط، حيث تفيض براغ بالإبداع والثلج، تلك هي الطبيعة أمُّنا الحنونة.

وفي وصف براغ يقول الجواهري الكبير، (براها باللّغة التشيكية):

قف على "براها" وجب أرباضها / وسل المصطاف والمرتبعا

أعلى الحُسنِ ازدهاءً وقعت / أم عليها الحُسن زهواً وقعا؟

واستعرْ منها عيوناً جمّة / وتملَّ الناس والمجتمعا

وسل الخلاّق هلْ في وسعه / فوق ما أبدعه أن يُبدعا

وفي قصيدة أخرى حملت اسم براها، يقول:

(براها) سلامٌ كلّما خفق الصباحُ على الهضاب

وفي السهل الممتنع للجواهري عن براغ يقول:

أطلت الشوط من عمري / أطال الله من عمرك

ولا بُلّغت بالسوء / ولا بالشرِّ في خبرك

حسوت الخمر من نهرك / وذقت الحلو من ثمرك

ألا يا مزهر الخلد / تغنّى الدّهر في وترك

وقصائد الجواهري الخمسة عشر (15 قصيدة) عن براغ وحدها تكفي أن تكون ألبوماً لحياة براغ، ومن أبرز ما كتبه "يا غادة التشيك"، و"بائعة السمك"، و"آهات"، و"مونيكا"، وهناك مقطوعات شعرية في مجالسة مظفر النواب، وسميح القاسم، وهي تعدّ من الشعر "الإخواني؟!

وفي براغ نظم الجواهري قصائده الخالدة: يا دجلة الخير، وكردستان موطن الأبطال، وأبا زيدون، وبيروت ابنة الدهر، ووارشو النجمة التي تتلألأ، وقصيدته في تخليد جمال عبد الناصر، وقصيدة زوربا، وقصيدة الأرق، كما كتب قصيدته الرائعة:

لُمّي لهاتيكِ لمّا / وقرّبي الشفتينِ

كنت أتحدّث عن براغ في جمع يعيش فيها وقسم منهم قرّر ألاّ يغادرها، فخاطبتهم أنتم أدرى منّي بفنون براغ وعلومها، فأهل مكّة أدرى بشِعابِها، ولا يُفتى ومالك في المدينة، ومع ذلك فلكلّ منّا زاوية نظره لهذه المعشوقة، وهو ما أحاول أن أستعيده وأنا أزور براغ، ففيه شيء من استذكار واستحضار لمونولوج داخلي، إنه نوع من الحوار مع النفس، وكل حوار مع النفس، حوار مع الآخر، وهكذا تكون "الأنا" و"الأنت" و"الآخر"، في حوار لا ينقطع. أكرّر هذه الاستعادة مرّات عديدة في ذاكرتي، لتنفتح أمامي كتلة من ضوء باهر، أحاول الإمساك به، لكنه يتحرّك سريعاً، فكأنما أقبض على الريح، وريح براغ التي في ذاكرتي، هي خفيفة ومنعشة مثل تلك التي تسبق المطر.

حين أفقت من غيبوبتي، شعرت أن ضباباً كثيفاً يلفّني، فهل عدت إلى الحياة يا تُرى؟ أم أنني في العالم الآخر؟ كان ثمّة حنو ورأفة، هي مزيج من حنان عطوف ومشاعر بالرعاية تغمرني على نحو شديد، وتخيّلت، ولربما رأيت ثمّة ثلوج بيضاء فوق الجبال، تتوزّع على الحقول، وغيوم فضيّة تعلو السماء الزرقاء والداكنة، تتجوّل ببطء لينفرج بعدها صفاء لا حدود له. مرّ الأمر سريعاً تاركاً لي شيئاً أقرب إلى رائحة العشب، قلت مع نفسي وبين اليقظة والغيبوبة، لقد شممت مثل تلك الرائحة من قبل، فجاءني جواب من بعيد، تذكّر!!

وحاولت ثم غبت، وأفقتُ وغبتُ مرّات ومرّات، وبعدها أدركت أنَّ ذلك الشعاع الذي داهمني وسط زحام من العتمة كان بخيوط الفجر التي تأتي مع نور الشمس، وأن تلك الرائحة المحفّزة كانت تتسلّل إلى أنفي بعد تلك الارتعاشة العظيمة والآسرة، إنها المدينة التي تسهر معي لتطمئن على صحتي، لأنها تعرف مدى عشقي، وتعلّقي بها.

*        *        *

منحتني براغ هدايا كثيرة، ووهبتني عطايا عديدة، وأهم من كل ذلك صاحبتني طيلة عقود، ومعها وفيها وإليها كان ثمّة حلم طويل، يأتي ويذهب، متواصلاً ومتقطّعاً، مباشراً ومتعرّجاً، لا زلت أعيش هذا الحلم ومعه، وأجد كل يوم له تفسيراً جديداً، بل أحياناً أترك الأمور بلا تفسير، ويأتي الحلم بلا مواعيد أو إخبار، يطلّ برأسه من بعيد، حيث:

التحقّق،

والامتلاء،

والمعنى،

والدلالة،

وتلك علامات العشق وهذا له أحكامه. والعشق بقدر ما هو يقين فهو حيرة أيضاً، ولا هدى إلاّ بعد حيرة، والحيرة حركة، والحركة حياة، حسب ابن عربي.

براغ عاظمت من حيرتي وجعلتني أطرح السؤال بعد السؤال دون أن أجد الجواب، وكلّما ازدادت أسئلتي، زاد قلقي وارتفع منسوب حيرتي، ودائماً يظلّ الجواب عصيّاً عن الحضور، "هذا زمن تتقدّم فيه الأسئلة، وينهزم الجواب" حسب أدونيس.

مثلما للمكان دور، فللزمان دور آخر. "والزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد" على حدّ تعبير ابن عربي أيضاً. في المكان الذي نجلس فيه (اتحاد الطلاّب العالمي سابقاً) رمزية خاصة في ذاكرتي الأولى، فما بالك حين يجتمع بالزمان، وباجتماع الزمان بالمكان تنبجس حقيقة. "الزمكان" – تاريخ وحقائق، مثلما هو أحداث وقراءات وتأويلات وزوايا نظر.

كان ذلك أول لقاء لي بالمكان. وحين وصلت كانت ثمّة ندف ثلجية تنهمر من أعماق السماء. أما الزمان والمناسبة، فقد كانت للتحضير لمئوية عبقرية خلطت الفكر بالممارسة فأنتجت رؤية، وهذه الرؤية تحوّلت إلى فعل، والفعل استهدف التغيير، وهذا أصبح واقعاً، حتى وإنْ انقلب بعد حين، وليس أمامنا في قراءة الواقع التاريخي سوى التقويم وإعادة القراءة بتوسيع دائرة المعرفة، وتقليب وجهات النظر: إيجاباً وسلباً، فالماضي أصبح ماضياً ولا يمكننا استعادته، إنه مضى وإنْ ترك شيئاً فينا، لا يمكننا اقتلاعه، لأنه جزء منّا، فلنحسن إذاً التبصّر والاعتبار لما فيه من دروس وخبرات ومراجعات ونقد.

المكان هو المكان، والزمان غير زمان. كنّا نلتقي سابقاً في "نادي الصداقة" والمقصود الصداقة بين الشعوب، أما الآن فنحن نجلس تحت عنوان "الأقليّات". والأقليّة مفهوم ملتبس يحمل معنى التسيّد من جهة والاستتباع من جهة أخرى، وذلك لم يكنْ اختلاف الزمان فحسب، بل اختلاف رؤيا وتعاكس منظور وصراع في بطن صراع، وهكذا عاشت براغ موزّعة بين زمانين.

وكنتُ قد انتقدت إعلان حقوق الأقليّات لعام 1992 وإعلان حقوق الشعوب الأصلية لعام 2007 على ذات الأسباب الملتبسة التي تستبطن اختلال العلاقة بين مجموعة ثقافية وأخرى، بزعم "الأكثريّة" و"الأقليّة"، لأن المسألة لا تتعلّق بالعدد والحجم، بقدر ما تتعلّق بمفهوم المساواة والتكافؤ، فهو يندرج في موضوع الهويّة، وعلاقة الهويّات مع بعضها، فلا هويّة صغيرة وأخرى كبيرة، وهويّة عُلوية وأخرى سفلية، وهويّة تابعة وأخرى متبوعة.

فالهويّات ينبغي أن تكون متكافئة في الحقوق والواجبات، وهكذا ينبغي أن يتم التعامل معها قانونياً ومن منظور حقوقي، وإنساني، باعتبارها تعبيراً عن مجموعة ثقافية، سواء كانت إثنية أو دينية أو لغوية أو سلالية أو غير ذلك، أي أنها ينبغي أن تكون على قدر المساواة مع المجاميع الثقافية الأخرى، بغض النّظر عن حجمها وعددها، طالما هي تمثّل هويّة لها طابعها الخصوصي، والهويّة أياً كانت عامة أو خاصّة، شاملة أو فرعية ينبغي احترام حقوقها المتساوية، وفي التطوّر المستقلّ، والتّعبير عن ذاتها.

أتوقّف عند زاوية أخرى، في علاقتي الخاصّة، باستذكار المدينة، وهذه الزاوية لها علاقة بزمن الإيمانية – التبشيرية – اليقينية، أي زمن الوعد والشعارات الكبرى والحتميات، فقد كانت براغ بالنسبة لي، إحدى محطّات التأمّل والتّفكير والمراجعة نحو العقلانية التساؤلية الوضعية النقديّة، وإن ظلّت اليقينية تسير موازية للتساؤلية، ولكن كان ذلك لحين، حيث تراجعت الوثوقية التبشيرية بتغليب الثانية، خصوصاً بارتفاع موجة الأسئلة، وكلّما كانت هذه الموجة تعلوّ، كان السبيل يتعزّز لبناء المنظومة المعرفية.

ويقود طريق المعرفة إلى الكشف. وهي وإنْ كانت شقاء، فالجهل بؤس، والصراع بين المعرفة والجهل يتّخذ أحياناً طابع الصراع بين الشقاء الذي يكتظّ بالأسئلة والشكّ والبحث المضني عن الحقيقة، وبين البؤس الذي يحمل الاستكانة والخضوع والانحياز المسبق.

كانت براغ بالنسبة لي محطّة لتدقيق العلاقة بين المرئي واللاّمرئي، والمنظور والمستور، والحالم والواهم، والتبشير والتفكير، والأسئلة التي تلد أخرى وتظل تستفهم، والأجوبة المعلّبة والجاهزة، وهكذا يشتبك السكون بالحركة، واليقين بالشك، الأمر الذي يزيد من حجم الحيرة ويعاظم من القلق.

*        *        *

المدن مثل النّساء، وبراغ مدينة لأكثر من امرأة، هي جمع من النّساء، حيث يلتقي الذكاء والجمال والفتنة والإثارة والثقافة والعذوبة في بساتينها العامرة وفي حدائقها الساحرة، مثلما هي جمع من العشق يأتي عناقيداً ويتوزّع أغصاناً وثماراً وبذوراً. ومهما زعمت معرفتك بالنساء، لكن دهشتك تزداد مع كل جديد، ولهذا لكل مدينة مثلما لكل امرأة رائحتها ومذاقها، بوحُها وسرّها، سحرها وغموضها، روحها وشكلها. ومثلما المرأة لا تكشف أسرارها بسهولة، فإن براغ لا تستسلم من أول لقاء، وهي لا تبوح لك بأسرارها وتفسيرات ألغازها إلاّ بعد حين وبالتدرّج، إنها لا تعطي نفسها دفعة واحدة، بل تتأكد أن ثمة حبل سري أخذ يشدّها بالعاشق، بعد أن رمت بشباكها فاصطادته، حينها تفتح لك صدرها وقلبها وعقلها وتحتضنك بذراعيها بقوّة وحنان.

أحببت مدناً كثيرة، مثلما أحببت نساءً كثيرات، وقلت إنّني لا أستطيع العيش دون عشق، سأتحوّل إلى شجرة بلا ماء. "لا أتذكر قلبي إلاّ إذا شقّهُ الحبُّ نصفين، أو جفَّ من عطش الحب"، كما يقول محمود درويش. والإنسان بدون العشق يصبح خاوياً وكئيباً، بل ويفقد توازنه، فالعشق ضدّ الرتابة والنمطية. وإذا كان مارك توين قد قال: عندما تحاول اصطياد الحب: قامر بقلبك لا بعقلك، لكن كل مقامرة بالقلب، هي شكل من أشكال المقامرة بالعقل أيضاً، بحكم علاقة الجذب والتبادل بينهما.

 

في المثقف اليوم