شهادات ومذكرات

عبد الحسين شعبان: براغ.. وثمّة عـشـق!! (3-3)

abdulhusan shaabanللمبدعين العراقيين مكانة في نفسي "البراغية"، وقد رويت جزءً منها في كتابي عن "الجواهري – جدل الشعر والحياة"، ولو كتب الجواهري قصيدة "يا دجلة الخير" لوحدها، لكان الشاعر الأكبر، فما بالك حين يوجد له 20 ألف بيت، بل عمارة من الشعر.

"حيّيت سُفحكِ عن بعد فحيّيني          يا دجلة الخير يا أمّ البساتين"

وفي حواراتي معه، كثيراً ما جئنا على براغ، ومعشوقاته، وكان قد أهدى إليّ مذكراته وكتاب الجمهرة، ومعها أبيات كتبها في براغ:

أبا ياسر وأنت نعم الصحيب / وقلّ الصحاب ونعم الخدين

لقد كنت في محضر والمغيب / ذاك الوفي وذاك الأمين

وفي ذكرياتي كنت الصميم / سمير المعنّى وسلوى الحزين

ورويت في كتابي عن أبو كاطع "شمران الياسري" – "على ضفاف السخرية الحزينة"، مقاطع من حياته البراغية، قبل عودتي إلى العراق، وكان قد جاء "لاجئاً" غير سياسي على حد تعبيره. كتب فيها حكاية موت الكلبة مرزوكة، وقصة "بائع عرق السوس"، وحاول استكمال قاموسه الشعبي، وأكمل الجزء الأول من قضية "الحمزة الخلف"، وكتب حكاية "حدث هذا في مملكة الضبع الأكبر". وأعاد نشر يا شجرة التفاح.

ومن اللقطات التي لا أنساها، حين شاهدتُ أبو كاطع، وهو يتكىء على الحائط في الممرّ المقابل، لقاعة الدفاع عن أطروحتي للدكتوراه 13/9/1977 (كلية الحقوق – جامعة جارلس)، فحين عانقني، قال: كان التأجيل أوجب، "وهي حسجة عراقية"، وفهمت أنه لا يرغب في مغادرتي براغ إلى بغداد، خصوصاً وأنني كنت مطلوباً لأداء الخدمة الإلزامية، وحاول معي كثيراً، لكن موّال العودة كان برأسي وهو منسجم مع موقعي، فكيف لرئيس الطلبة الذي يعلن ليل نهار "التفوق العلمي والعودة للوطن"، أن يتخلّف عن تنفيذه، وهو الشعار الذي كنّا نرفعه. وكان أبو كاطع قد عاد هو الآخر "بقرار حزبي" قبل عودتي، وغادر على مسؤوليته، حين كان مُحالاً إلى "محكمة الثورة"، بتهمة "المتاجرة بالأسلحة".

وكيف أنسى محمود صبري وواقعية الكم. كنتُ قد قدّمته إلى الجمهور في نادي الصداقة العام 1972، بعد انقطاع أو غياب أو تغييب، والمحاضرة كانت بعنوان: فن جديد لعصر جديد، بشّر فيها بنظريته حول واقعية الكم، وقد طلب منّي الصديق رواء الجصاني أن أكتب عنه بعد رحيله وفي ذكراه، وهو ما وضعته في برنامجي، وأرجو أن يسعفني الوقت، لكي أفي بالتزامي الأخلاقي والثقافي، إزاء رموز وشخصيات نافذة، خصوصاً من الذين عرفتهم عن قرب وارتبطت مع بعضهم بصداقات متينة وفي مقدمتهم الفنان محمود صبري.

وأتذكّر لقائي مع مظفر النواب في براغ، بعد وصولي إليها ببضعة أشهر "خريف العام 1970" واحتفالنا به في مطعم "أوفليكو U Fleků" الشهير، الذي تعود واجهته الأمامية إلى القرن الثاني عشر، وهو مطعم يقدّم البيرة السوداء. وألقى النواب بعضاً من قصائده في جلسات خاصة، وصاحبه في الغناء لقصائده الصحافي جعفر ياسين.

وكان مظفر النواب قد التقى بالجواهري في مقهى سلوفانسكي دوم، الذي كان "مقراً" للجواهري، يرتاده كل يوم تقريباً، وهناك دارت الكؤوس حيث تزدان مدينة براها "براغ" وكأنها "حلم العذراء في يقظتها" جامعة كل الفصول والجمال والحُسن والفتنة. وقصة لقاء الجواهري بالنواب من الطرافة بمكان، وكنت قد رويتها في كتابي "الجواهري – جدل الشعر والحياة"، كما نشرت القصيدة الموسومة "محمد المصباح"، والمقصود مظفر النواب، والمعنونة "فاتنة ورسام"، في كتاب "الجواهري في العيون من أشعاره" العام 1986.

وفي سلوفانسكي دوم ومن مشارفها كتب الجواهري قصيدته المملّحة إلى الفريق صالح مهدي عماش الذي جمعته به صداقة حميمة (أيار / مايو 1969) وكان حينها وزيراً للداخلية، والقصيدة "الرسالة" هي تعبير عن وجهة نظر مغايرة واحتجاج "شجاع"، إزاء حملة الأجهزة الأمنية على ما سمي حينها "الميني جوب" وميوعة الشباب، بحجة مجافاة ذلك للأخلاق، وجاء في مطلعها:

وفّى لها نذراً فوافى / وسعى بها سبعاً وطافا

إلى أن يقول:

أ"أبا هدى" شوقٌ يُلحُّ / ولاعجٌ يُذكي الشِّعافا

نُبئـتُ أنّكَ توسع الـ / أزياء عَتّاً، واعتسافا

تقفو خطى المتأنقا / تِ كسالكِ الأثرِ اقتيافا

وتقيس بالأفتار أر / ديةً بحجّة أن تَنافى

ماذا تُنافي؟ بـل وما / ذا ثمَّ من خلُقٍ يُنافى؟

حوشيتَ، أنت أرقَّ حا / شيةً، ولطفاً، وانعطافا

وأشدُّ لِصقاً بالحجى / وألدُّ بالعدل اتصافا

أترى العفاف مقاس أقـ / ـمشة؟ ظلمتَ إذن عفافا

هِوَ في الضمائر لا تخا / ط ولا تقصُّ، ولا تكافى

وفي زيارتي الأولى إلى براغ في العام 1969 قبل أن أستقر بها بعد عام ونيف، زرت الجواهري في صومعته في سلوفانسكي دوم، وكانت القصيدة "الرسالة المملّحة" قد سرت في بغداد مثل النار في الهشيم – كما يقال –، خصوصاً لدى النّخب الثقافية، ومن متذوقي شعر الجواهري، وحدثته عن تأثيرها المعنوي الشديد الأهمية، وعن تردّد ثم تراجع السلطات لاحقاً عن إجراءاتها التعسفية المتعلقة بالحريّات الشخصية، وكم كان وجهه مشرقاً وعيناه تلمعان وهو يستمع إلى تلك الأخبار التي قد يكون لديه الكثير منها، لكنني نقلتها بعفوية واعتزاز مصحوبة بالإعجاب الشبابي وروح التحدّي.

جدير بالذكر أن الجواهري بدأ بكتابة تلك القصيدة على قصاصة ورق لفاتورة حساب صغيرة، صباح أحد الأيام في براغ، ثم اكتملت القصيدة في عصر ذلك اليوم، حتى أرسلت بالبريد المسجل إلى الفريق عمّاش، وقد نشرت القصيدة في "جريدة النور" في 11 أيار (مايو) 1969.

وكان الجواهري قد أحيط باهتمام كبير ورعاية خاصة من فريق الحكم الجديد، في بداية عودته إلى العراق من المنفى، وخصوصاً من الفريق عمّاش وعبد الله سلوم السامرائي وزير الإعلام وخلفه صلاح عمر العلي والشاعر شاذل طاقة، والشاعر شفيق الكمالي، والصحافي حسن العلوي، وغيرهم ممن كانوا يتصدرون الواجهة الثقافية الرسمية، ثم خصص له مجلس قيادة الثورة راتباً تقاعدياً، وذلك بمرسوم جمهوري. وقد أقيم له احتفال كبير في بغداد يوم 3 كانون الثاني (يناير) 1969 في "كازينو صدر القناة"، وألقى قصيدته الشهيرة:

أرح ركابك من أين ومن عثر / كفاك جيلانِ محمولاً على خطرِ

كفاك موحشُ دربٍ رُحتَ تقطعهُ / كأن مغبرَّهُ ليلٌ بلا سَحر

ويا أخا الطير في وردٍ وفي صدر / في كلِّ يوم له عشٌ على شجر

عُريانَ يحملُ منقاراً وأجنحة / أخفَّ ما لمَّ من زادٍ أخو سفرِ

وافتتح وزير الداخلية صالح مهدي عمّاش الاحتفال بقصيدة على وزن هذه القصيدة، التي يقول فيها:

أرحْ ركابكَ من أين ومن عثر / هيهات مالك بعد اليوم من سفرِ

فما كان من الجواهري أن مازح صديقه عمّاش بقوله: يعني هل ستستخدم صلاحياتك لمنعي من السفر؟ وتلك شجون وشؤون ثقافية أخرى لا مجال للتوسّع فيها.

وفي براغ تعزّزت علاقتي مع الجنرال غضبان السعد، وهي علاقة عائلية بالأساس، وكان قد زارها لمرّتين متتاليتين، وصادفت زيارته مع زيارة والدي الذي كثيراً ما كان يستأنس بصحبته، كما أعطى اهتماماً خاصاً بأخي حيدر، وكان يدعوه بالزميل، على الرغم من تفاوت السن بينهما، وكان حينها حيدر في السابعة عشر من عمره، وكثيراً ما كانا يترافقان ويسهران معاً، وكان يمزح ويعلّق "دع أخوك للكتب" حيث كنت مستغرقاً بكتابة أطروحة الدكتوراه، و"دع الحاج للعبادة والتأمل" و"دع لنا الحياة". وقد تألّم كثيراً حينما علم لاحقاً في الشام أن حيدر وقع أسيراً، واستمر يسأل عنه كلما التقينا، وعندما عرف أن شقيقتي سلمى تمكّنت من زيارته خلال فترة أسره التي استمرت ثمان سنوات، حمّلها تمنياته وقال لها: أبلغيه أن "الزميل" بانتظاره.

يعتبر العقيد غضبان السعد من العسكريين القلائل الذين يتمتعون بثقافة موسوعية، حيث كان يجيد عدّة لغات ويتمتّع بعقل نقدي، ورؤية استراتيجية، كما كان لمّاحاً وسريع البديهة، وقد كتب وترجم العديد من الكتب والمؤلفات، إضافة إلى عشرات الدراسات ومئات المقالات وكان بعضها قد أخذ طريقه إلى النشر في جريدة "طريق الشعب" في السبعينات، وبعضه قدّمه إلى مركز الدراسات الفلسطينية في الشام، ومنظمات فلسطينية أخرى.

وفي زيارته الثانية سكن معي في المبنى الذي أسكن فيه، كنّا أبو كاطع الذي جاء من بغداد، وأنا نسكن في الطابق الثالث، وكان السعد في الطابق الثاني، وصاحبة المبنى السيدة "كلودوفا Kloudova" في الطابق الأول "الأرضي"، وكان نقاشنا يومياً يدور حول الوضع في العراق. وكان رأيه أنه يميل إلى التدهور سريعاً، وهو ما كان رأينا أيضاً.

أما بخصوص التجربة التشيكية، فكان السعد كثير الملاحظات ودقيق التشخيصات للنواقص والثغرات والعيوب التي تعاني منها، وكثيراً ما كان يردّد بسخرية تعليقاً على كلام الزعيم السوفييتي خروشوف الذي اشتهر في حينها بحديثه عن "اشتراكية الكولاج"، إذ كان قد استكثر على الشعب الهنغاري "أكلة الكولاج"، التي اعتبرها دليلاً للرفاه والسعادة. وكانت أجهزة الدعاية الصينية و"وكالة شينخوا" بشكل خاص قد ضجّت بتقريع "اشتراكية خروشوف" ذات الطبيعة الكولاجية.

في الشام كان غضبان السعد يستعيد معي أيام براغ، ونستذكر بعض حكايات أبو كاطع. وكان يختم حديثه أحياناً بالقول: "بلابوش دنيا". وحين رحل عن دنيانا بعد حياة من العذاب والألم، كتبت عنه كلمة رثائية بعنوان: "يا سيد الحزن والورد"، نشرتها في مجلة "الهدف" الفلسطينية في 3/12/1989، كما نشرت المادة مجلة "لدنيا" اللبنانية، وأعادت نشرها نشرة "مرافىء" العراقية التي تصدرها رابطة الكتاب والصحافيين والفنانين العراقيين.

وكان السعد قد فُصل من الجيش ثلاث مرات، الأولى في العام 1941، والثانية في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، حيث كان قد سجن، ثم غادر إلى النمسا – فيينا لدراسة الطب ووصل إلى السنة الرابعة، ولكنه عاد بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وعيّن ملحقاً عسكرياً في موسكو، وعند انقلاب شباط (فبراير) 1963 فصل من الجيش للمرة الثالثة، وسجن أيضاً. والتحق بعدها بقوات الأنصار لغاية العام 1970. واضطرّ إلى مغادرة العراق في أواخر العام 1978، وعاش في المنفى حياة زهد أقرب إلى العوز، ومات وهو يصارع السرطان، لكن الابتسامة والسخرية لم تفارقه.

وأشعر شخصياً أنني في صحبتي البراغية مع غضبان السعد والتي امتدت إلى بغداد ودمشق استفدت من آرائه ووجهات نظره ومعلوماته. وفي الشام التقيته لأكثر من مرة مع عبد الرزاق الصافي، وفي كل زيارة لنعمان سهيل التميمي "ملازم خضر" – (أبو رائد) وأحمد الجبوري، كنّا نلتقيه ونستمتع بأحاديثه وانتقاداته وسخرياته.

ونتذكّر لقاءات حميمة مع الشاعر اللبناني ميشال سليمان، وأنطولوجيا الشعر، وقصة "المملكة الزندية"، التي استلهمها موسى أسد الكريم "أبو عمران" من اسم ولقب "عصام الحافظ الزند"، وذلك حين سأله عن علاقته بكريم خان الزند "الملك العادل"، فأجابه أنه جده السادس، وهنا راح خياله ينسج حكايات وقصص وتنبؤات عن الإطاحة بشاه إيران محمد رضا بهلوي، وانبعاث "الدولة الزندية" الثانية، بتنصيب عصام الزند سليل الأسرة الزندية الشرعي ملكاً مصوناً غير مسؤول، وكان أبو عمران قد قدّم عصام الزند إلى الشاعر ميشال سليمان بقوله: أقدم لكم حفيد كريم خان الزند، فما كان من سليمان وبحركة مسرحية، أن رحّب بالزند قائلاً: "مولانا هذا شرف عظيم أن تشرفنا وأن يعود العرش إلى أصحابه الشرعيين".

ثم كلف ميشال سليمان بكتابة (البيان رقم 1) الذي سمي "الرقيم الأرقم"، وكان محتواه "نحو التطوّر اللاّبهلوي صوب المملكة الزندية" وهي مشاكلة مع فكرة "التطوّر اللارأسمالي صوب الاشتراكية" الذي كان مطروحاً بقوة شديدة في تلك الأيام. وزادت التعليقات والتخيّلات والسخريات بين الممكن والمستحيل، التي جاءت على لسان أبو كاطع ومجيد الراضي ومحمود البياتي وعلي كريم وعصام الزند وكاتب السطور.

وإذا أردتُ أن أتوقف قليلاً عند موسى أسد الكريم الذي سبق أن ذكرته عدّة مرات وفي مناسبات مختلفة، فهو شخصية أثيرة، لا يمكن لزائري براغ من الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية الكبرى في تلك الأيام، إلاّ أن يلتقوه أو يلتقيهم، فقد كان بحيويّته وحبه للمساعدة وقدرته في بناء العلاقات، وجهاً مألوفاً ومقبولاً وله حضور كبير. وأبو عمران واسع المعارف والاطّلاع ويهتم بالأشياء والقضايا من أصغرها حتى أرقاها، وهو يمتلك صداقات واسعة ولغات عدّة، وقلماً رشيقاً، وتجارب حياتية لا حدود لها.

وفي براغ جمعتني هيئة واحدة مع الشاعر الشعبي زاهد محمد، وتطوّرت إلى صداقة، وكان هو الآخر قد درس وتخرّج من براغ، وامتاز بالظرافة وخفّة الظل، كما كان سريع البديهة، وحلو المعشر، لا يترك فرصة إلاّ ويمرّر فيها بعض مملّحاته حتى في الاجتماعات التي ضمتنا، والتي شملت: خضير عباس "أبو سهيل" وكريم حسين، وحميد برتو، وصباح محمود شكري، وجبار الريحاني، ومهدي الحافظ، وكاتب السطور، إضافة إلى مشاركاته في المناسبات المختلفة، ومنها "مناسبة وثبة كانون" التي شارك فيها أيضاً عبد الستار الدوري، الملحق الثقافي حينها والسفير لاحقاً، بكلمة مؤثرة نالت إعجاب الجميع.

كان زاهد محمد، صاحب رأي حتى وإن كان صادماً أحياناً، وسواءً اختلفت أو اتفقت معه، فإن حبل الودّ لن ينقطع، وكان من المتحمسين للتحالف مع حزب البعث الحاكم، وعبّر عن تلك القناعات بشكل صريح وواضح، في كونفرنس حزبي، مثل ما كان خطيباً ذرب اللسان، وقد عمل في الإذاعة التشيكية القسم العربي في حينها، كما عمل في التسعينات في الإذاعة السعودية الموجهة نحو العراق بعد مغادرته، وتعزّزت علاقتي به في المنفى الجديد، خصوصاً خلال زياراته المتكرّرة إلى لندن والتي استقرّ فيها قبيل رحيله، ولا زلت أحتفظ بالعديد من رسائله ومملّحاته.

وقد عرفتُ أن القصيدة التي ألقيتها، حين حملني المتظاهرون، وأنا فتى صغير متأثراً بأجواء العائلة اليسارية، في تظاهرة العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر ضد العدوان الثلاثي، كانت من نظمه، وأنا الآن أستعيدها بعد ستة عقود من الزمان، ويقول فيها:

ناضل يا شعب واحقد على العدوان

تجلي من الشعيبة وقلعة الذبّان

وامحي هالعبيد الباعوا الأوطان

والغي للأبد صك العبودية

*        *        *

ليش الشعب جايع ما يحصل القوت

والكادح أطفاله من المجاعة تموت

أنابيب النفط ملك الشعب وتفوت

كل أرباحها بجيب الحراميه

*        *        *

يا جيش السلم ومحطّم العدوان

يا حامي الشعوب وحارس الأوطان

ذكرك من يمرّ يبعث ثقة وإيمان

مية مرحبه باسمه وطاريّه

*        *        *

كل احنه نناضل لاجل الاستقلال

أحرار الشعب والفلح والعمال

وبالجبهة يخوتي نحطّم الأغلال

ونحرر شعبنه من العبودية

وفي براغ تعرّفت على محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي ومبدعين فلسطينيين ومن قيادات شتى وزعماء ورؤساء وسياسيين ونقابيين من ذلك الزمان، عراقيين وعرب وأجانب، بينهم ثلاث سفراء عراقيين ربطتني بهم علاقة طيبة وهم: محسن دزئي ونعمة النعمة وعبد الستار الدوري، وتطوّرت العلاقات مع دزئي والدوري إلى صداقة حميمة.

لن أكون منصفاً وعادلاً إذا اختزلت ذلك على بعض الأسماء أو تعدادها، الأمر يحتاج إلى حفز جديد للذاكرة، ووقت ميسور، ومناسبة أخرى للحديث أو الكتابة عن شخصيات ثقافية وفكرية ومهنية، عراقية وعربية، كان لها حضور بارز في براغ، كلٌّ في مجال اختصاصه، ولكن ذلك سيكون مؤجلاً وهو على ذمّتي لمناسبة أخرى، فما أن تضيء النجوم الفضية المشرقة، سماء الذاكرة، حتى يرنّ جرسي الداخلي فأبادر لوضعها على الورق، كي لا تفلت أو تختفي، أو يتسلّل الوهن والضعف إلى الذهن فيتشتّت.

حين أستعيد ذلك مع براغ، كأنّي أهمس على نحو لذيذ بأُذن المعشوقة، لأسمع نبضها وأتحسّس رقّة مشاعرها، وكأنها تخاطبني بما كان جلال الدّين الرومي يقوله:

اخفض صوتك: فالزهر ينبته المطر، لا الرعد

براغ كانت حمولة كاملة لمخاض طويل تجمّعت فيه مثلما هي الذاكرة، قطرات نور تقبل بالمفاجىء الذي يتكىء أحياناً على الحلم، ويحق لنا الاقتباس من الشاعر الكردي المبدع شيركو بيكسه قوله الذي أتمثّله وكأنه يقوله في عشق براغ:

الريح تنحني للخريف

الخريف ينحني للعاشق

باحترام

العاشق للعشق

العشق للخيال

والخيال لي

وأنا للشعر

 

د. عبد الحسين شعبان -  أكاديمي وأديب عراقي

.....................

* الأصل في هذه المادّة، محاضرة ألقاها الباحث في براغ، بدعوة من النادي الثقافي العراقي، بتاريخ 8 يونيو (حزيران) 2016.

 

في المثقف اليوم