شهادات ومذكرات

جواد غلوم: كومونة عراقية ناهضة

jawadkadom gloomدعيتُ مؤخرا من قبل أصدقاء مثقفين لزيارة قريتهم والاستضافة عندهم أمَدا فاعتذرت اول الامر لأني – وفقا لظني – لم أجد مايروق لي بهذا الوطن المحترق ويسعى لحرق أهليه ويذروهم رمادا بخساً، ففي بلادي استحال كل شيء الى خراب ودمار، وقلت في نفسي ما الجدوى من الزيارة ان لم اجد ما يبهج، وبعد إلحاح ووعودٍ باني سأرى شيئا مختلفا ؛ أذعنت لرغباتهم فشددنا الرحال متجهين الى محافظة القادسية التي تبعد عن العاصمة بغداد مسافة 180 كم

وعلى مبعدة من مركز المحافظة بحوالي 30 كم ؛ توجد هناك قرية صغيرة لايزيد عدد بيوتها عن الثمانين بيتاً ليست نائية عن المحافظة من حيث المسافة، ولكنها نائية عن كل مايجري من صراعات حزبية ومناكفات إثنية وقبلية ونزاعات حول المكاسب والامتيازات ؛ تلك الضيعة الجميلة التي وطأت اقدامي بأرضها المباركة تسمى قرية " البو ناهض " اتخذت مسارا مختلفا عما يجري في مركز المحافظة وما يدور في العراق ككل من إرباكات وسيادة الفوضى واتساع الجهل والخصومات السياسية التي أثقلت كاهلنا وعطّـلتنا عن مسار النهوض والتقدم الى الأمام

1064-jawad

 

وقبيل بضعة شهور من زيارتي هذه ؛ وانا أتفحص درجات نجاح احد أحفادي فقد أظهرت نتائج الامتحانات للدراسة المتوسطة لكل مدارس العراق ان ثلاثا من بنات هذه القرية أحرزن نسبة نسبة نجاح أقلّها 98% وان فتيانها المثابرين يتحصلون على الاولوية في الفوز في الفعاليات الرياضية حيث تجد في وسطها ملعبا تم تخصيص جانب منه مضمارا للركض ومضمارا آخر للدرّاجات الهوائية وقد نال أحد أبنائها المرتبة الاولى في الركض وتفوّق على كل عدّائي العراق في مباريات الماراثون ويشارك الان في بطولات دولية وله مبادرات السبق عربيا وعالميا في أنشطته الرياضية باعتباره عدّاءً من الطراز الرفيع وهذا المسار المختلف الذي اتخذته القرية وساكنوها هو ما لفت انظار الصحافة وميديا الاعلام المرئي على زيارتها والتعرّف على مايجري هناك من مبادرات ثقافية ورياضية وسلوك سويّ رائق لم نألفه في بلادنا الكسيحة الواهنة في الوقت الحاضر

مما أسعدنا أكثر هو وجود مكتبة ومركز ثقافي داخل هذه القصبة وزيادة على ذلك لديهم ايضا مكتبة متنقلة على عربة كما نطلق عليها " التوك توك " تم تحويرها وصنع رفوف فيها لحمل الكتب والكراسات سمّوها " المكتبة الخضراء " يستطيع كل قارئ ان يقرأ مايستسيغه ويعيد الكتاب الى مكانه وقد تنتقل تلك المكتبة الجوّالة الى مكان اخر في شوارعها النظيفة المؤثـثة بإشارات المرور البارزة والدَلالات المكانية ليقرأها آخرون في الجانب البعيد من القرية نفسها وقد بدأت المكتبة أول الامر بمئتي كتاب يتم تداولها بين القرّاء وتضاعفت كثيرا بفعل مبادرات مثقفي ومؤلفي العراق لتعزيز رصيدها من الكتب وزيادة أعدادها وقد خُصص يومان للقارئات أسبوعيا الى النسوة بسبب الظروف الاجتماعية بشأن الاختلاط بين الجنسين

الشيء الجميل ان اكثر ما اثار انتباهي هو ان وجهاءها ومثقفيها عملوا جهدهم الاستثنائي اولا وقبل كل شيء على منع التدخين نهائيا في مرتعهم الجميل الوديع واستخدموا طرائق النصح والإرشاد والتوجيه لا الإرغام لكل مدخّني القرية بالإقلاع عنه وترى على جدران البيوت لافتاتٍ معلقة تقول لك ولكل العابرين والسابلين (لا للتدخين) وقد انصاع الجميع لهذه المبادرة وقد آلوا على أنفسهم ان يجعلوا من جنّـتهم الصغيرة هذه ان تكون مصحّة بدنية ونفسية فلا تكتلات دينية تثير القرف ولا صراعات حزبية بين السكان اذ يمنع الجدل والنقاش السياسي بين الجموع، ولا مساعي نحو النفوذ والطمع والجاه والثراء غير المشروع حتى وصل الأمر الى منع تداول وبيع المشروبات الروحية ولا حتى المشروبات الغازية وعدم استخدام منبه السيارات وسط القرية وشوارعها وأزقّـتها منعا للضوضاء والإزعاج وتحديد السرعة القصوى الى 30 كم / الساعة

أينما تذهب في شوارع القرية وأركانها ترى لافتات منبهة تنهيك الاّ تقطع شجرة ولا ترمِ النفايات بغير أماكنها المقررة وتمنعك من التدخين وتشير الى السرعة المسموح بها في عربتك وترى الشوارع زاهية بالنظافة الفائقة وكل الخدمات البلدية على افضل مايرام ومراكز ثقافية ورياضية على صغرِها تستقبلك وتقول لك على الرحب والسعة

ففي وسط كل هذه العتمة والظلام الدامس الطاغي على بلادنا ينبثق ضوء لامع من قصبة صغيرة تكاد تكون عيّنة رائقة ومتفوقة لقرية فاضلة ويوتوبيا الحلم الذي ننشد وتعصم نفسها عن المناكفات السياسية الضالة المضلّة وتختار الأسلوب الأمثل والأسلم لأبنائها في العيش بسلام ووئام ووعيّ وعافية للعقل والجسد معا وهذا ما لمسته من سكان القرية ووجهائها الذين سلّموا مقاليد ترتيب العمل والارتقاء بالقرية الى مجموعة من مثقفيها رعاة النهوض لتكون أنموذجا لمجتمع مصغّر قائم على المحبة والتآزر وبثّ الوعي الثقافي الجمعي وتطوير قابلياتهم العقلية والبدنية على افضل مايرام

ولا أخفي انني ازددت سعادة بهذه الزيارة التي لم أكن اتوقع قبلا هذا النماء والوعيّ الشامل من لدن أهل القرية ونخبتها من أصدقائنا المثقفين الساكنين فيها ولاسيما صديقنا المهندس المثقف والاديب السيد كاظم حسون الذي كانت له اليد الطولى في إظهار الوجه المشرق للقرية بالتعاون مع نخبة مثقفة من فتيان وشباب القرية ودعم من زملائه المثقفين في داخل العراق وخارجه لتكون انموذجا يحتذى بها وقد أباح لي ان لديه مشروعات اخرى طموحة لتعليم شبابها وصغارها وتطوير مهاراتهم الفنية في الرسم والغرافيتي لتزيين جدران القرية واظهارها بالشكل الرائق وتعزيز الانشطة الرياضية والادبية والعلمية من خلال اعداد دورات لهم وتنمية هواياتهم وتوسيع أفقهم العقلي في المستقبل القريب وهناك بعض المنظمات والشخصيات خارج العراق التي لاتتوانى عن دعم القرية وخطواتها ومساعيها من اجل بثّ الوعي الحضاري لأجل الارتقاء بها أكثر فأكثر

حقا انها كومونة وادي الرافدين الصغيرة الناهضة كاسمها سيتّسع ضؤوها أكثر فاكثر ليشمل كل بقاع وقصبات وضياع ومدن العراق فهي الأمل وان تباطأ الخلاصُ لكنه سيصل حتماً ليعمّ بلادي كلها وتصير مثل مرتع " البو ناهض " لو عملت جماعات الانتلجنسيا في أمكنتها بعموم البلاد مثلما عمل زملاؤهم في هذه القصبة السعيدة

 

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم