شهادات ومذكرات

ضياء نافع: عن بعض العراقيين الذين مرٌوا بموسكو(20)

diaa nafieهذه الحلقة من سلسلة مقالاتي خاصة بالدكتور اسماعيل شفيق محسن – سفير جمهورية العراق في موسكو منذ عدة سنوات، والذي قلدته وزارة خارجية روسيا الاتحادية بتاريخ 21/10 /2016 (لمناسبة انتهاء مهام عمله بموسكو) وسام (التعاون المتبادل)، وهو أعلى وأرفع وسام تقدمه الخارجية الروسية للسفراء والدبلوماسيين الاجانب، تقديرا لمساهماتهم في تعزيز العلاقات وتطويرها  بين بلدانهم وروسيا (ارتفع حجم التبادل التجاري بين العراق وروسيا عشرة أضعاف خلال فترة توليه مهامه سفيرا للعراق في موسكو). وهكذا اصبح السفير الدكتور اسماعيل شفيق محسن اول سفير عراقي يحصل على هذا الوسام الروسي الرسمي الرفيع  في تاريخ العلاقات العراقية – الروسية منذ تاسيس هذه العلاقات عام 1944 ولحد الآن ، وبالتالي اصبح واحدا من العراقيين القلائل جدا، الذين حازوا على اوسمة رسمية روسية. عندما سمعت بالخبر تذكرت رأسا المرحوم عزيز شريف (1904 – 1990)، الشخصية العراقية السياسية المرموقة، الذي قلدته الحكومة السوفيتية عام 1960 وسام لينين للسلام مع مجموعة من الشخصيات العالمية، وتذكرت ايضا كيف اخبرتنا مدرٌسة اللغة الروسية في الكلية التحضيرية لجامعة موسكو المرحومة فاليريا ايفانوفنا بهذا الخبر، الذي كان منشورا على الصفحة الاولى من جريدة (برافدا) السوفيتية آنذاك، وكانت الجريدة في يدها، وكيف كنا ننظر اليها (ونحن في مقتبل أعمارنا) مزهوين وبكل فخر واعتزاز، لأن عزيز شريف  - هذا المناضل العراقي الكبير قد حاز على هذا الوسام الرفيع في الاتحاد السوفيتي آنذاك .

الدكتور اسماعيل شفيق محسن كان سفيرا للعراق  في احدى دول آسيا، وكان يتوقع - في نهاية خدمته هناك - الانتقال الى اوربا الغربية، و ربما حتى الى لندن بالذات، ولكنه استلم أمر نقله الى موسكو، وتذكرالدكتور اسماعيل رأسا ثلوج روسيا وبعدها عن العالم وغرابة لغتها وعاداتها ووو... الخ تلك الصور العالقة في أذهان العراقيين عن روسيا لحد الآن، وهكذا وصل الى موسكو وهو متوجس جدا من هذه المهمة غير البسيطة ابدا، والتي انيطت به في هذا البلد البارد الغريب و البعيد . لقد سألته بشكل مباشر ودقيق  قبيل سفره من موسكو مغادرا – هل تغير رأيك حول روسيا بعد هذه السنوات من العمل فيها أم لا ؟ فضحك وقال – طبعا، وساشتاق لها حتما . طلبت منه ان يحدثني عن انطباعاته عنها بعد هذه الفترة غير القصيرة بالعمل فيها، فقال انه مندهش جدا من جغرافيتها المتنوعة وسعتها غير الاعتيادية ومن ثرواتها الطبيعية  الكثيرة، بل والهائلة فعلا، والتي تجعلها في طليعة بلدان العالم في هذا المجال  الحيوي والمهم، فاضافة الى النفط والغاز والمعادن الثمينة الاخرى، هناك المياه العذبة والغابات الكثيفة الهائلة، التي نراها ممتدة عبر مساحات واسعة جدا في طول البلاد وعرضها، وحتى الثروات غير المكتشفة اوغير المستغلة لحد الآن في مناطقها مثل سيبيريا وغيرها، وتحدث الدكتور اسماعيل عن اعجابه و اندهاشه الدائم عندما يزور مدينة بطرسبورغ، التي يعتبرها – (من اجمل مدن العالم  واغناها حضارة وتاريخا وثقافة !) . وسألته  طبعا عن الجوانب التي لم تعجبه في روسيا ايضا، فابتسم وقال – الروتين، الذي يتم تنفيذه ببطء شديد (حكى لي كيف انه شاهد مرة أحد كبار المسؤولين العراقيين وقد كاد ان يغفو وهو جالس على كرسي بانتظار اكمال معاملة جوازه !)، واستطرد قائلا – ولكننا عالجنا هذا الروتين بالمتابعة المستمرة، وغالبا ما كنا نناشد الاصدقاء الروس في وزارة الخارجية لمساعدتنا كي نذلل هذه العقبة او تلك، وأشاد جدا بوكيل وزارة الخارجية بوغدانوف (صديقنا الذي توجهنا اليه مرارا من اجل تسهيل مهماتنا) كما قال، وحكى لي السفير كيف اتصل به مرة حول احدى القضايا العالقة، فتبين ان وكيل الخارجية في زيارة الى أفريقيا، (ومع ذلك قال لي انه سيحاول من هناك ان يساعد في ايجاد حل لتلك القضية، وفعلا، اتصل بهم بعد ساعة واخبرهم بالحل، الذي وجده في موسكو، بينما كان هو في أفريقيا) . تحدث السفير طويلا حول بوغدانوف واريحيته وشخصيته المرنة ودبلوماسيته وعمق معرفته للغة العربية، و انه (اي الدكتور اسماعيل) كان شاهدا مرة، كيف  لعب بوغدانوف دورا في تقريب وجهات النظر المختلفة (بل المتناقضة) في بيت السفير اللبناني بموسكو عندما برز خلاف بين اللبنانيين انفسهم، او كيف قام بالدور نفسه (اي تقريب وجهات النظر المختلفة) عندما كان في ضيافة القادة الاكراد في كردستان العراق، وقال الدكتور اسماعيل، انه كان يرتاح دائما عند مقابلاته معه، ويخرج راضيا بعد المقابلة (حتى ولو ان  بعض القضايا تبقى عالقة)، بينما يكون الانطباع مختلفا عند مقابلة بعض المسؤولين الآخرين . قلت له أنا، ان المرحوم الدكتور جلال الماشطة (سفير جامعة الدول العربية في موسكو آنذاك) حدثني عدة مرات حول بوغدانوف وانه كان يرتاح له ايضا ويسميه عندما يتحدث عنه بكلمة - (صديقنا)، فقال السفير – نعم، وقد حدثت اثناء علاج المرحوم الماشطة مشكلة في المستشفى الروسي الذي كان يرقد فيه، اذ طالبوه بمبالغ كبيرة وغير معقولة تماما لأنه يشغل منصب سفير، وقد اضطر الدكتور اسماعيل ان يتصل ببوغدانوف حول ذلك، و قد تدخل بوغدانوف بالموضوع رأسا، وتم تسويته فعلا .

قلت للدكتور اسماعيل شفيق محسن وانا اودعه، انني أتذكر كيف تلقيت منه دعوة لالقاء محاضرة امام موظفي السفارة، وكيف اني كنت مندهشا لهذه المبادرة التي ترتبط باسمه وباقتراح منه بالذات، وكيف انها كانت غريبة ومتفردة في مسيرة السفارة وتاريخها، والتي يمكن اعتبارها اضافة نوعية في علاقات السفارة مع المحيطين بها من عراقيين وعرب واجانب، و انها – حسب رأي الكثيرين - علامة مضيئة فعلا في تطوير تجربة العاملين في السفارة واغناء معلوماتهم وتوسيعها، وقلت له انني لازلت اتذكر تعليقه الجميل بعد المحاضرة تلك (انظر مقالتنا بعنوان – روسيا في الوعي الاجتماعي العراقي)، وقلت له كذلك، انني لازلت اتذكر الدعوة التي أقامها لي شخصيا في حدائق السفارة (وكانت مفتوحة لكل العراقيين) عندما منحني اتحاد ادباء روسيا عضوية الشرف فيه، وانني سابقى ممتنا له  دائما على ذلك الموقف المشرف.

نتمنى للدكتور اسماعيل شفيق محسن كل النجاحات في عمله الجديد – سفيرا لجمهورية العراق في العاصمة الفرنسية باريس، ونحن على ثقة من تألقه هناك، مثلما تألق في موسكو، ونقول له، انه يمتلك في روسيا قلوبا وعقولا  ترحب به دائما، لانه كان (وسيبقى) رمزا لبساطة  الانسان العراقي وموضوعيته واريحيته واخلاصه المتناهي لعراقنا الحبيب.

 

في المثقف اليوم