شهادات ومذكرات

إذا هام بك الشوق للعراق فتذكر البصرة

ali almirhigللبصرة طعم التمر بحلاوته، وللبصرة طعم الحلاوة بمعاشرة أهلها، وللبصرة شط العرب وللبصرة المرفأ والميناء والراح والمُستراح، وإن لم أزور البصرة إلَا مرةً واحدةً حينما قررت اللجنة العلمية عام 2001 بجامعة الكوفة في كلية الآداب بقسم الفلسفة أن يكون أحد أساتذة الفلسفة وعلم الكلام مُناقاشاً لي من كلية الآداب/قسم الفلسفة بجامعة البصرة هو الأستاذ الدكتور محمد جواد الموسوي، أستاذ الفلسفة المؤسس للقسم في هذه الجامعة، فذهبت لتسليمه الأطروحة، فكان في غاية الخُلق والتفلسف. وقد كانت زيارتي هي الأولى والوحيدة لهذه المدينة، ولكن من محاسن القدر، قبل مُناقشتي للدكتواره في جامعة الكوفة أنني كُنت قد قُبلت في كلية الآداب جامعة بغداد في الماجستير، وكان من زميلتي أخت عزيزة من البصرة هي اليوم د.مها الغرابي كما أتذكر كتبت عن الأيديولوجي واليوتوبي في فلسفة إفلاطون بتوجيه من أستاذها الدكتور محمد جواد الموسوي. وهي من الحريصين والملتزمين بالدرس الفلسفي، وبعد سنين عرفت الدكتور عقيل عبد حسين العاشق للفلسفة، والأخ (أبو لواء) حازم البصري. ولا أنسى أخي الشاعر المٌميز "صفاء ذياب" الذي عاش معي الأيام الصعبة ببغداد، إبن قلعة سكر، البصري الهوى صاحب مكتبة شهريار المكتبة الأشهر اليوم في البصرة.

البصرة ظهر منها الجاحظ والفراهيدي وسيبويه والحسن ابن الهيثم والحسن البصري وأبو الأسود الدؤلي وإبن سيرين في العصور الإسلامية.

وقد قرأت لشعراء وكتاب ورائيين كبار من هذه المدنية، أولهم السياب وثانيهم البريكان، وممن يُشار لهم بالبنان الروائي الكبير محمد خضير والشاعر الألق كاظم الحجاج والشاعر والإعلامي المميز طالب عبد العزيز والأكاديمي والروائي الصديق د.لؤي حمزة عباس، ومن كان له رؤية في الفكر السياسي مؤلف كتاب "صورة الآخر" الدكتور محمد عطوان، ومن تميز في رؤاه الفلسفية النقدية د. سنا صباح في قراءتها لفلسفة نتشه، التي أعتز بأنني كُنت المُشرف على أطروحتها في الدكتوراه، ومن كان له هم التغيير في إعادة صياغة المشكل العراقي وفق الحل الفلسفي الكندي للسياسة هو الدكتور قيس ناصر، الذي كُنت رئيساً للجنة مناقشته بموضوعه هذا حول التعددية الثقافية في الفلسفة الكندية، وآخرون من طلاب الفلسفة من البصرة ممن درستهم ولا زالوا يكتبون رسائلهم.

من البصرة عرفنا كوميديا الموقف والضحك بجنون يملؤه الفنون مع سليم البصري الذي كتب ومثل أجمل دراما عراقية هي مسلسل "تحت موس الحلاق"، وأكملت دراما البصرة وحضورها الفنانة الأجمل في تاريخ الدراما العراقية "سليمة خضير"، وزادت جمال الحضور للبصرة أختها المُطربة "أمل خضير"التي إشتهرت بأغنيتها "الدنيا كرستال وذهب" التي لحنها المُلحن الكربلائي المُتميز محسن فرحان، وإستمرت بأغانيها العذبة التي منها: "يا ألف وسفه ويا حيف" و "فدوه فدوه فدوه" و "أتوبه من المحبه"..إلخ.

وللبصرة طعم أنغام الخشابة بإيقاع سعد اليابس، ومن البصرة شُغفنا بفؤاد سالم بأغانيه الأشهر "الشوك للبصرة" و "على درب اليمرون" و "ماتدرين ماتدرين" و "محلاها العيون" و "صابرين" و "ردتك تمر ضيف" و "ويلي ينغم"...إلخ، ورياض أحمد إبن التنومة، الذي أطربنا بمواويله المستقاة من أشعار مُظفر النواب وعريان السيد خلف، وأجمل ما فيه هو إتقانه للشجن في الطور الصُبي الذي أتقن الغناء فيه، فصار كل من يُغني طور "الصُبي" مُقلداً لتنغيمات رياض أحمد.

وأطربتنا سيتا هاكوبيان الأرمنية الأصل عراقية النشأة والمولد، التي بدأت بأغنية الوهم من شعر الكبيرة "نازك الملائكة"والتي نعتها الكثيرون بأنها "فيروز العراق". كان لموسيق صوتها بألحان البصري طارق الشبلي طعم العراق بنكهة لبنانية فيروزية، إستخدم فيها الشبلي الآلات الغربية من دون خدش للأُذن العراقية، فإخترقت سيتا شغاف قلوب العراقيين، لأنها صوت النقاء الذي ينطق بالحب، فهي من غنت "إصغيرة جنت وإنت صغيرون"  و غنت أغنيتها التي عزفت على أوتار المحبة "إبهيدة" وبفرح يملأ القلب غنت "لالي لالي لالي يا كمر لالي" وهي كلمات تُضيء بقايا العُتمة في الروح التي  أتمتها بأغنيتها "دار الزمان وداره وضيع عليه أخباره" لتهدأ أخبار الزمان بأُغنيتها الأشهر "إبهيده" ولتطأن الحبيب بأُغنيتها "شوكي" شوكي، شوكي خذاني".

كانت أغلب أغاني "فيروز العراق" من ألحان العذب "طارق الشبلي" الذي لحن للمطرب محمد الشامي "إيفر بيه هوى المحبوب يا يمه". ومن البصرة كانت أغنية ربيعة "هو وهاي وهو"  وأغنية البصرية الجميلة "سهى عبدالأمير" التي جُنت بسبب ظلم نظام زبانية صدام الذين أتخذوا منها غانية لا مُغنية، وهي التي أطربت أبناء جيلها بأغانيها ومن أهمها:"خلاني حُبك حايره" التي ذاع صيتها في الثمانينيات من القرن المُنصرم.

المهم ما أروم قوله أن للبصرة طعم التنوع في تمورها، فمنها اللغوي الكبير، ومنها الأديب المفوه، ومنها الروائي الذي حكي حكايا المرفأ والميناء وبقايا الأمل في البصرة الفيحاء، ومنها الشاعر الأكبر في شعر التفعيله أو ما سُمي بالشعر الحُر، ومنها المٌطربون الذين ساحوا بنا بسماء العشق والوله وما خفي من الوجدان بجما التطريب وبعذب الألحان. فهنيئاً للبصرة أنها بكل الحُزن والألم الذي مر بها منذ حربنا مع إيران، فخراب البصرة صار مثلاً يُقال لما ألم بها من ألم من نتاج الحروب المستعرة التي ختمها الأمريكان، فضُرب مثلاً طريق الموت في حربنا معهم، فخسرت البصرة سواد الأرض وإخضراها، ولكنها لم تخسر أبنائها الشُجعان ممن رسموا خريطة التضحية في دفاعهم عن عراق موحد ليس فيه خُسران، سوى خُسرانهم هم لأمول البترودولار التي وعدوا بها، ولكنهم وإن تمنوا الحصول عليها، ولكنهم صبروا وتصابروا من أجل الحفاظ على عراق موحد يُخذل به من ظن أن يتفرق رغم إختلاف مذاهبه والأديان، لأن فيه شعباً لا يرى في الذلة قبولاً ولا يقبل أن يُهان، فتوحده رغم التحديات صار أمراً مقضياً، رغم أنف المملكة العربية السعودية وإيران، والبصرة مثال التعايش السلمي بين سنة وشيعة، وهو أمر لا إخبار فيه بقدر ما فيه من رد على الطائفيين الذين لعبوا على وتر الطائفية فصار لعبهم في خبر كان.

وإن هامك الشوق للعراق فتذكر البصرة.

 

 

في المثقف اليوم