شهادات ومذكرات

تشيخوف في شارع الرشيد ببغداد

ضياء نافعياله من خبر جميل ورائع ومثير ! فقد اطلعت على مقالة د. فرحان عمران موسى في جريدة المدى الغراء بعنوان – (تقاسيم على الحياة .. بين معمارية النص ومعمارية التمثيل) بتاريخ 15/4 /2018، ثم على مقالة الاستاذ عبد الجبار العتابي في موقع ايلاف بعنوان – (مسرحية تقاسيم عن الحياة .. تهز الوسط المسرحي العراقي) بتاريخ 16/ 4 / 2018، وتذكرت رأسا (روح!!!) مقالتي التي نشرتها عن تشيخوف بمجلة الف باء في بغداد قبل اكثر من ربع قرن بعنوان – (تشيخوف في علاوي الحلة)، واقول (روح مقالتي)، لاني تحدثت عندها عن (احلامي الخيالية !) ليس الاّ حول هذا الموضوع، اما هذا الخبر، فانه يتحدث عن واقع ملموس ومحدد وواقعي، ولهذا فهو خبر رائع، اذ قدّم المخرج المبدع جواد الاسدي مسرحية بعنوان (تقاسيم عن الحياة) (ويا له من عنوان دقيق وذكي ورشيق شكلا ومضمونا)، والمسرحية هذه مأخوذة (حسب تعبير العتابي) او (مستلة) (حسب تعبير د. فرحان) من قصة تشيخوف الشهيرة (العنبر رقم 6)، كما جاء عنوان هذه القصة في بعض الترجمات العربية، والتي نسميها في العراق (الردهة رقم 6)، اذ ان الطبيب والمحلل النفسي والاجتماعي الكبير تشيخوف رسم (ولا اقول كتب) احداث قصته تلك عن الحياة في (ردهة) مستشفى، هذه ال (ردهة)، التي رأى فيها لينين (رمزا) لروسيا القيصرية، ورأت فيها الشاعرة أنّا أخماتوفا (رمزا) لروسيا السوفيتية (انظر مقالتنا بعنوان – تشيخوف وأخماتوفا)، ورأى فيها المخرج العراقي جواد الاسدي الان (رمزا) لكل مشاكل العراق الحالي، بعد ان تعامل ابداعيا معها طبعا (ان تحويل قصة تشيخوف الى مسرحية هو بحد ذاته يعدّ عملا فنيا وابداعيا كبيرا ومتميّزا محليا وعالميا ايضا)، وهكذا قدّم لنا الاسدي تقاسيم معزوفته عن الحياة العراقية من خلالها، وعلى خشبة منتدى المسرح العريق في شارع الرشيد ببغداد، وعلى مدى خمسة أيام باكملها، وبنجاح كبير لدرجة ان العتابي قال في عنوان مقالته انها (تهز الوسط المسرحي العراقي !)، اما د . عمران فقد أشار ايضا الى ذلك النجاح الباهر، رغم انه تكلم عن ذلك بلغة فلسفية معقدة ومتشابكة جدا، لدرجة ان أحد أصدقائي سألني عن معنى بعض جمله، وأردف سؤاله بسؤال آخر، وهو – (وهل يوافق صديقك تشيخوف نفسه على هذه (المعمارية !!!) اللغوية المبهمة ؟ فقلت له ان يتوجه بسؤاليه الى تشيخوف نفسه، اذ انني لا استطيع الاجابة عن هذين السؤالين، واعتبرهما ضمن ال (ترك)، وقلت له ايضا، انني استطيع – بشكل او بآخر - ان اساعده بترجمة هذين السؤالين الى لغة تشيخوف وتوضيحهما له، اذا طلب تشيخوف نفسه ذلك، في حالة عدم استيعابه للنص، فغضب صديقي، وقال لي انك تتهرب من الاجابة لانك لم تفهم معنى تلك الجمل مثلي، ولكنك لا تريد الاعتراف بذلك، فحاولت تهدئة النقاش مبتسما وتغيير مسارالكلام، وبدأت اتحدث معه عن قصة تشيخوف (الردهة رقم 6) واهميتها وقيمتها الفنية في تراث تشيخوف الابداعي وفي تاريخ الادب الروسي بشكل عام، وكيف ان تشيخوف سيفرح فرحا شديدا لو عرف، ان المخرج العراقي جواد الاسدي قد وجد في ثنايا قصته تلك جوابا شافيا عن كل الاسئلة والاشكالات الفكرية المرتبطة بالوضع القائم الان في بلد عريق مثل العراق، وذلك لان تشيخوف تناول هناك، كما في كل نتاجاته، معاناة الانسان، اي انسان بغض النظر

عن انتمائه القومي ومجتمعه، وسيفرح تشيخوف اكثر، اذا عرف ان المخرج العراقي قد احتفظ حتى باسماء ابطاله كما في النص الروسي رغم التعامل الابداعي التفصيلي مع تلك القصة، اي التعامل الفني الضروري جدا كي تصبح احداث القصة متلائمة مع ما يريد المخرج ان يقوله للمشاهد من افكار وهو يقف في شارع الرشيد في قلب بغداد . وذكرت لصديقي ان هذا الحدث كبير جدا في مسيرة العراق الثقافية والفكرية عموما، ويجب علينا ان نشيد بهذا العمل، وان نسانده بكل امكانياتنا، وبدون البحث اللغوي التفصيلي بمفردات مبهمة ومعقدة هنا وهناك، وذلك لان هذا العمل الابداعي يعني، من جملة ما يعنيه ، ان العراق يسير بشكل حثيث وصحيح للخروج من ازمته الفكرية الرهيبة التي انحدر اليها منذ اواخر القرن العشرين والى حد الان، وان دور المثقفين العراقيين أخذ يبرز اكبر وبصورة اكثر سطوعا في الوقت الحاضر، وهذه مسألة ضرورية جدا (اي دور المثقفين) للمساهمة في عملية انقاذ العراق من ايدي هؤلاء الذين خذلوا الوطن وارادته، فتقديم تشيخوف في شارع الرشيد يجسّد رمزا لاستخدام المثقف العراقي لجواب تشيخوف نفسه على الازمة الفكرية في بلاده انذآك، وهو جواب عميق جدا من كاتب بمستوى تشيخوف، كان يهتّم جدا بمفهوم الحرية الانسانية ويحاول الدفاع عنها وصيانتها والمحافظة عليها بغض النظر عن النظام السياسي السائد في البلاد، وهي مسألة مطروحة الان وبشكل شديد وحاسم امام الانسان العراقي .

تصفيق حاد للمخرج العراقي جواد الاسدي ولكل الفنانين العراقيين الذين ساهموا معه في تنفيذ هذا العمل الابداعي الكبير!

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم