شهادات ومذكرات

مدني صالح مرة أخرى

علي المرهجكنت قد كتبت من قبل أكثر من مقالة عن أستاذي مدني صالح، ولكن لفرط ما فيه من غزارة معرفية وفكر مؤنسن، سأبقى أنهل من ذكرياتي معه وقراءاتي لكتاباته، فهو فرات آخر منبعه (هيت) ومصبه فيض حياةً ومحبة على كل روافد العراق وتفرعاتها.

مدني صالح شجرة غربية، روحها شرقية، تفيء بظلالها وتُطعم من فيض ثمارها المعرفية كل شغوف بالمعرفة.

كتب الشعر في أوائل حياته، وهجره لا لأنه لا يُجيد كتابته، بل لأنه كما حدثني عن أسباب تركه للشعر، أنه وجد في شعر السياب والبياتي ما يُغنيه عن كتابته.

فتحول لقراءة الفلسفة، وقد درسها بجامعة بغداد في أوخر العقد الخمسيني من القرن العشرين، ولشدة تميزه وتفوقه طُبع بحثه للتخرج من البكالوريوس على نفقة جامعة بغداد، وهذا أمر نادر الحدوث في جامعاتنا إلى يومنا هذا، وقد نُشر تحت عنوان "الوجود ـ بحث في الفلسفة الإسلامية"، وبعد ذلك حصل على بعثة لدراسة الفلسفة الإسلامية في بريطانيا بجامعة (كامبردج)، وقد حدثني قليلاً عن رحلته، فقد قال لي: (علي لقد ذهبت إلى بريطانيا، وأنا أُتقن الإنكليزية قراءةً وكتابةً، وأنا من القلائل الذين يلفظون كلمة تاريخ بالإنكليزية (هستري) وليس (هيستوري)، وكنت ألبس أفضل (ماركات الملابس) كما كُنت اظن لأنها هي الأفضل في العراق، إلَا أنني بعد تواجدي في بريطانيا عرفت أنها في بُلداننا هي (ماركات) يُشار لها بالبنان، ويمشي مُتبختراً من يلبسها، ولكنها في بريطانيا هي (ماركات) من الدرجة العاشرة!!، وتلك صدة أولى لي بعد تبخترٍ.

وبعد إتمام أوراقي للقبول في جامعة (كامبردج)، قيل لي أنك ستدرس في (معهد الدراسات الشرقية)، وهو برأي مدني صالح معهد مُهم، إلَا أنه لا يُعلم الفلسفة بقدر ما يُعلم ما يُسميه (الإستشراقية المُلائية) التي لا همّ لمفكريا سوى تكريس مفهوم (المركزية الغربية) في عقول الطلبة الدارسين، وهناك طلبة عرب ومسلمين يأتون من كل حدب وصوب، كي يُسجلوا في هذا المعهد الذي يمنح شهادات لكل من (حقق (كصكوصة) (أي مخطوطة في التراث)، ولا يُعيرون فيه أهمية لتطوير كفاءة الشُبان القادمين من فيافي أرض العرب والإسلام، فهم سيعودا لبُلدانهم دكاتره!، ومن أراد منهم التعلم، فليكن ذلك خياره هو.

قبل أن يستقر على عنوان أطروحته للدكتوراه عن فلسفة ابن طُفيل، عانى كثيراً في اختيار العنوان، فكلما اختار عنواناً ذهب إلى مكتبتيّ جامعة أكسفورد وكمبردج، ليتفاجئ أن عنوانه الذي اختاره قد كُتب عنه بالمئات إن لم يكن بالآلاف، فأول مرة يختار عنواناً جلبت له موظفة المكتبة عربتان، وفي المرة الأخرى بعد أن غير الموضوع جلبت له ثلاث عربات مُحملة كُتبت عن موضوعه، وثالثة أشد وأمر، فقال ليَ حينذاك تنهدت وأخذت أتأمل عظمة النتاج الغربي، وبعد ذلك توصلت إلى نتيجة مفدها أن الإتيان بجديد أمرٌ ليس بالهين، ومن ذلك الحين عرف مدني صالح أن الجديد هو في طريقته في المُعالجة وأسلوبه في الكتابة، وقد فعل ذلك بالفعل لا بالقوة، بلغة أرسطية، فهو من القلائل من أساتذة الفلسفة في العراق ممن يتميز بفرادة الأسلوب، ومن يمتلك مُعجميته الإصطلاحية، وهو مُغاير مُختلف في المُعالجة لقضايا الفكر والفلسفة وربط الفكر بالواقع.

قال لي أنه حينما سجل أطروحته للدكتوراه عن فلسفة ابن طفيل، فضّل من يعرفه أن يُشرف عليه في موضوعه هذا المُستشرق المعروف (آربري) فذكر ليَ أنه ذهب إليه، فوجد صفاً من الطلبة العرب والمُسلمين كل منهم ينتظر دوره للقاء (آربري)، بعضهم طبيب وآخر مُهندس، وغير ذلك من الاختصاصات، ولكن جميعهم جاء ليحصل على الدكتوراه في الدراسات الشرقية من ذلك المعهد، وحين تمكن بعد لأي من لقاء (آربري) طرح عليه رغبته في أن يكون مُشرفاً على أطروحته، إلَا أن (آربري) أظهر له أسفه، لأنه سيذهب للجزيرة الفُلانية ليتعلم اللغة الثالثة عشر من أهل هذه الجزيرة!. ونصحه بالذهاب إلى (دوكلاص دنلوب)، فأخذ بنصيحة آربري، وذهب إلى بيت (دنلوب) فرق الباب، فُفتح الباب بعد حين، وإذا بكلب يخرج له، هو كلب (دنلوب) ولأن مدني صالح كما هو حال كثير من الطلبة العرب المُسلمين، يُحبون الكلب حامياً لهم لا صديقاً، فقد تحسس في بداية الأمر، وبعد ترحيب (دنلوب) به والتحاور معه، وبكل ما في (دنلوب) من وداع وطيبة وتقدير كما يذكر إستاذي مدني صالح، إلّا أنه لم يجد فيه ما ينشده، فعند مدني معلومات أوفر مما عند (دنلوب)، وقد إنبهر هذا المُستشرق العتيد بمقدرة هذا الشاب وسعة إطلاعه!.

في إحدى ذكرياته في بلاد الضباب ذكر ليَ قصة شاب صعد إلى قمة جبل إفرست من سلسلة جبال الهملايا، وبعد أن أتم الشاب مُهمته بنجاح، كانت كل وسائل الإعلام المرأية والمسموعة والمكتوبة بانتظاره لتسجيل حوار صحفي معه، ولكن هذا الشاب تعجب من وجودهم، وأخبرهم أن الشهرة لا تعنيه، ولم يصعد هذا الجبل للبحث عنها، إنما هو صعجد ليلفت أنظار حبيبته!.

لذلك لم تشغل مدني صالح الشهرة يوماً، ولم يبحث عنها، إنما هي التي بحثت عنه، ولم يكن يفرح بتكريم له ولا يحضر مراسيمه، لا تكبراً، بل لأنه يؤمن أن هُناك مراحلاً من الحياة يحرقها فوات الأوان.

مرة رغب بعض الصحفيين بتسجيل حوار معه، ولكنه بادرهم بالقول: (كثير من السكوت صراخُ، وليس عندي ما فيه نفعٌ لكم، فمد يده لهم مُصافحاً، ليقول لهم بأدب جم في الرفض رافقتكم السلامة!.

كان لماركس، وبرتراند رسل، وسارتر، ووليم جيمس، وجون ديوي، حضورهم في مُتبنياته الفلسفية والسلوكية في الرفض والنقد لكل ما هو سائد في ثقافتنا.

وقد كان لابن طفيل في قصته (حي بن يقظان) تأثير له فعل السحر في كتباته وتوظيفه الرمزي للأدب والفلسفة.

وقبل ذلك كانت له رؤيته في الفلسفة السفسطائية والدفاع عنها بوصفها فلسفة واقعية، شوهها إفلاطون بفلسفته المثالية (الحالمة)، وهو في رؤيته هذا يتماهى مع الوردي في الدفاع عن السفسطائية، ومدني من الذين يضعون للوردي مكانة خاصة سواء على مُستوى علاقته الشخصية به، أو على مُستوى التأثر برؤاه النقدية.

 

 د. علي المرهج - استاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم