شهادات ومذكرات

إلى مُتعب مُناف جاسم بعد فقدك

علي المرهجسأخاطبك بعيداً عن كل الألقاب التي تستحقها (البروفيسور) و(عالم الاجتماع)، سأخاطب (سماحتك)، لا بسلبية هذا الوصف حينما يُطلق على بعض رجال الدين بقدر ما عرفتك فيه من وصف يليق بك كُله جللُ.

عرفتك عن قُرب وعشتُ بعض لحظات مع (سماحتك) التي لا تمنحها إلَا لمن يستحق السماحة حقاً لأنك (مُتعب) وهي من سمات إسمك المُتعبُ لأولئك الذين لا يفقهون ما يقولون، وأشهد أنك (مُتعبٌ) لمن هُم لا يعرفون طبيعتك و(طبيعة المُجتمع العراقي) من بعض أساتذة علم الاجتماع الذين يخشون سماع صوتك قبل معرفتهم بوجودك، لأنك ستُعّريَ عقولهم الخاوية.

سأخاطبُ عقلك البهي وروحك الندية لا تزعل علينا نحن من أحبتك من الذين لا طاقة لهم سوى التعبير عن محبتك.

نستميحك العُذر سيد المعرفة في فضائك المعرفي لأننا لم نُتقن التعبير للوفاء لك إلّا بعد فقدك.

أعترف بأننا أناس نُجيد النقر على الطبل ساعة الحُزن، ولكننا لا نُحسن التعبير عن المحبة ساعة الحاجة لها.

أعتذر لك وأنا حاسر الرأس مُنكسرُ بأنني من أتباعك الذين خذلوك، ولم يدر بخُلدي أن مثلك سيموت فمن أمثالك في عُرفي سيخلد.

لا تنم قرير العين، لأننا لم نُعطكِ حقك وأنا أولهم وكم مثلي كثير لأمثالك يخذلوا.

عرفتك وأنا غظُ طريٌ، في المرحلة الثانية في كُلية الآداب ببغداد/ قسم الفلسفة، حينما سمعت أن هُناك أستاذاً في علم الاجتماع سيُلقي مُحاضرة عن الحضارة والعُمران عند ابن خلدون في مكتبة كلية الآداب التي أُفتتحت حديثاً ـ آنذاك ـ وكنت أعرف بعض أفكار هذا الفيلسوف لأنني ابن (شارع المُتنبي)، وطالب الفلسفة، وحين دخولي وجدَتُ بعض من الأساتذة والطلبة يملأون باحة المكتبة التي عُقدت فيها المُحاضرة، وبلحظات إمتلأت القاعة وبعد برهة طلَ علينا شخص مُتوسط الطول مُحدودب الظهر قليلاً، نحيل الجسم، فجلس على كُرسي المُحاضر، وبعد أن قدمه أحد الأساتذة بدأ بالحديث فساح وصال وجال في مُحاضرته ينتقل بنا تارة للحديث عن انجازات ابن خلدون وتارة أخرى يُقارنها بنتاجات (توينبي) و(شبنجلر)، ولم يكن تُفارقه لغته الاصطلاحية ومُعجميته الاجتماعية المُستمدة من عُلماء الاجتماع أمثال (دوركهايم) و(كارل مانهايم)، وبين الفينة والأخرى يحضر اسم (علي الوردي)، ولم أكن من قبل أعرفه كما يستحق أن يُعرف.

خرجتُ من هذه المُحاضرة وأنا مزهواً بهذا الأستاذ، ومزهواً بنفسي فقد ملأ عقلي بطاقة إيجابية منحتني ثقةً بأنني قادر على اكتشاف المُضمر في المعرفة، وسيكون بمقدوري ادراك القيمة المعرفية لكل هذه الأسماء والمصطلحات التي سمعت بها.

حاسبت السنين التي مضت وهي قليلة لأأنها لم تمنحني فُرصة النهل من معرفة هذا الكبير في خُلقه ومعرفته، فآثرت التواصل معه، وكسب ودَه، وبعد مُضيَ سنوات أربع وحال تخرجي من (الباكالوريوس) وعودتي للدراسة في الماجستير، أول عمل قُمت به هو الذهاب لمتعب مُناف والحديث معه في مكتبه في قسم الاجتماع بكلية الآداب بغرفة كان يُشاركه فيها أكثر من تدريسي، فرحب بي كعادته مُبتم المُحيا في ترحيبه لمن يُحب، فتحاورنا حواراً كسبت فيه ودَه حقاً، وأقول حقاً لأنه ودَعني كمن يودَع الأب ابنه، فعشقته، فآثرت زيارته كُلما تمكنت، فكُنت بين مُدَة وأخرى أتحين الفرصة وأختلق المُناسبة لزيارته، وكان يستقلبني خير استقبال، فيقول ليَ (علاوي أنت عقلك حلو، ظلَ هالشكل تعترض وتشاكس) لأنني كُنت كثير الاعتراض على بعض مما يطرحه، وبعد زمن قصير سمعت أنه تعرض لمشكلة مع د. نزار الحديثي، كما أذكر، لربما لا تخص د. نزار بقدر ما تخص القسم، أي قسم الاجتماع، لكنني سمعت أن المُشكلة حُلَت بحلٍ لا يرتضيه د. متعب بنقله إلى كُلية التربية المُقابلة لكُلية الآداب، فزُرته بعد حين ولم أرغب في تذكيره وسؤاله عن تفاصيل هذه المُشكلة التي أدَت إلى نقله لأنني كُنت راغباً حقاً برؤيته، لا بإثراة شجونه، وحالما وصلت إلى مكتبه وسلمت عليه قال لي: (علاوي، جمعت مجموعة من الطلبة النابهين وأنت منهم كي يكونوا ضمن فريق للدراسات الاجتماعية والفكرية سمَاه كما أتذكر "المنصَة"، وهو يروم منه أن تكون منصَة للتعبير الحرَ عن مشاكل مُجتمعنا بطريقة أكاديمية عقلانية، أتذكر منهم: علي وتوت هو اليوم أستاذ علم الاجتماع بجامعة القادسية، وأسماء جميل هي اليوم أستاذة الاجتماع بجامعة بغداد، وعبدالجبار هو اليوم أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية، وعلاء حميد هو اليوم دكتواره أنثربولوجي يعمل في الشبكة العراقية وآخرون لا تُسعفني الذاكرة لتذكرهم، فكُنَا نجتمع في مكتبة كُلية التربية، كما أتذكر، فكان د. متعب يبتدأ الحديث ليُناقش قضايا مُجتمعية مُهمة، منها قضية المرأة، ومُشكلة التخلف، وإشكالية التراث والحداثة، وبعدها يترك الحديث لنا نحن مريديه، فيُنصت لنا ويُصغي ويتداخل معنا بأبوَة فيُزيدنا ثقة به وبأنفسنا.

593 متعب مناف جاسم

نتيجة للفقدان الحُرية في العمل الأكاديمي لم تستمر هذه الحلقة بالانعقاد، فصار كُل منَا يُحاول إكمال دراسته والإنشغال بحياته الاجتماعية، فمرَت السنوات، وحصل جُلنَا على الدكتوراه، وتفرقنا بين الجامعات العراقية أشتاتاً، وبعد سقوط النظام الديكتاتوري الذي لم يُنصف د. متعب كُنَا نأمل أن مثله سيكون له حضوره الذي يستحقه في النظام الجديد، ولكنه لم ينل منه سوى المُعاناة فانطبق عليه المثل العراقي القائل (لا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي) فجاء هذا النظام بصبغته الطائفية المقيتة فصنَف السُنة بخانة السلطة (المُستفيدين) وصنَف الشيعة (المظلومين)، ولم يُميَز قادته بين سُنة مُعارضين فيُنصفهم، وشيعة مُطبلين فيُقاضيهم، فخسر السُنة اللاصداميين ممن لا يُجيدون اللعب على الحبال والضحك على الذقون، وربح الشيعة الصداميين من الذين يُجيدون الرقص على الحبال والضحك على الذقون، وخسر الشيعة اللاصداميين الأشبه بالسُنة اللاصداميين، وكسب السنة الصداميين الأشبه بالشيعة الصداميين، وتلك من مهازل التاريخ!!.

إلتقيت صدفة بدكتور متعب ببيت الحكمة بعد سقوط النظام في مؤتمر، فكُنت فرحاً بلقائه وقد بادلني الشعور ذاته، وكُنت من قبل لم أستخدم كُنية (المرهج) في الكتابة، ولكنه كما يبدو كما هو أستاذي المرحوم مدني صالح كانا مُتابعيَن ليَ، فبادرني بالقول: (ها ابن مرهج شلونك) وكُنتُ من قبل قد سمعت ما يشبه هذه الجملة على لسان أستاذي مدني صالح ـ رحمه الله ـ قبل وفاته ـ بزيارة له وكان يعرفني باسمي (علي عبد الهادي) إلَا أنه بزيارة لي له لأُسلم عليه قال لي (أها علي المرهج خوش تكتب).

بعد حديث طويل ذو شجون تبيَن ليَ أن د. متعب يمر بمُعاناة لا حصر لها يُحيق به المرض من جهة وكيد الكائدين من جهة أخرى، وعرفت أمر فصله من كُلية الآداب، ودَعته على أمل اللقاء به مورورق العينين لا قُدرة ليَ ولا دراية بكيفية مُساعدته.

بعد مُدة من الزمن دعاني للعمل معه الصديق العزيز د. صائب عبد الحميد (المؤرخ المعرف) للعمل في (مؤسسة الأبحاث والتنمية الحضارية) التي كان يشغل فيها منصب المُدير التنفيذي، وهي مؤسسة مجتمع مدني مُستقلة، فعملنا معاً فترأست قسميَ الفلسفة والدراسات المُستقبلية، وكان من أقسام هذا المركز هو قسم الدراسات الاجتماعية، ولم يكن له رئيس فكُنت أكلف ببعض أعمال هذا القسم، فطرحت على د. صائب استضافة بعض الأسماء المُهمة في علم الاجتماع، ومنهم د. متعب، الزميلة العزيزة د. أسماء جميل فوافق على الفور، فرتبنا أمر الضيافة فاستقدمت د. مُتعب الذي أبهر الحضور بخزينه المعرفي الاجتماعي والفلسفي الهائل، ومنذ ذلك الوقت أُعجب به د. صائب، بل وأُعجب به المُشرف العام على المركز د. إحسان الأمين.

بعد هذه المُحاضرة القيَمة للدكتور متعب انعقدت صداقة طيبة بينه وبين د. صائب، فمرَت الأيام وأُقفلت (مؤسسة الأبحاث والتنمية الحضارية) بسبب العجز المالي وقلَة التمويل.

بعد طولَ زمن تمكن د. صائب من تأسيس (المركز العلمي العراقي) بدعم من (التيار الصدري)، فباشر د. صائب بعمله كمدير عام لهذا المركز، فاستدعى بعض من يرغب هو في العمل بمعيته، فكان د. متعب واحداً منهم ليترأس قسم الدراسات الاجتماعية، وقد زرتهما في هذا المركز فكان د. صائب في مُقدمة المُرحبين، لما فيه من دماثة خُلق وفيض علمٍ، وبعد جمال هذا الترحيب كان لا بُدَ لي من العرفان لصاحب العرفان أستاذي الحبيب د. متعب، وبمجرد أن أدلف لغرفة مكتبه الذي يجتمع فيها مع د. علي مطشر عميد كُلية العلوم في الجامعة التكنولوجية ببغداد.

نظرته ليَ نظرة محبة في عينيه قبل مبسم شفتيه ترحيب بصوت أجش (أها المرهج وينك غايب) فأستحي مه ولا ردَ ليَ عليه، (علاوي أشتاق لمشاكستك، وك ظل هيجي لا تبطل) فأسأله عن جديده، ليُجيبني مُبتئساً وهل من جديد يُستحق أن يُكتب وسط هذا الخراب يا مرهج؟. لكن والحق يُقال أنه كان نبعاً للمعرفة لا ينضب، وفي كل حين عنده جديد.

بعد أن تسنم د. إحسان محمد الأمين منصب أمين عام بيت الحكمة وقد عرف د. متعب حينما قدَم مُحاضرة في مركز الأبحاث والتنمية الحضارية الذي كان يشغل فيه منصب الأمين العام أيضاً ولاعجابه به من فرط ما تحدثنا عنه بوصفه قيمة وقامة معرفية عراقية استدعاه د. إحسان ليترأس قسم الدراسات الاجتماعية ببيت الحكمة البغدادي، وكنت قد شاركت في مؤتمره الدوليَ الأخير الذي عقدَه قسم الدراسات الفلسفية بعنوان (دور الأفكار الفلسفية في الحوار الثقافي الإسلامي ـ إيران والعالم العربي) في 21 ـ 22ـ شباط 2018، فجلستُ بقُربه، وهو كعادته مزهواً بنفسه لا يُعجبه في البحث سوى ما يكتب هو ومن يظن بهم خيراً، وكُنت أنا منهم كما يُخبرني وهو قادر على ابداء قناعاته لا مُجاملة عنده لمن لا يظنَ به خيراً في المعرفة والنظرية وتحسس مُتغيرات الواقع.

تركنا هذا البصري الولادة بألمعيته الأخَاذة السامرائي الأصل جيناته الوقَادة بما يحمله من نكهة عراقية بطعم البرحي البصري المسقي بنهر الفرات، ورقي سامراء المُمتلئ من سُكر ماء دجلة وعذوبته ، كلاهما البرحي والرقي عالٍ سُكرهما وطيب مذاقهما، وتلك من مآثر المعرفة عند متعب مناف عالٍ في المعرفة طيَب تذوقها عند من أدرك مقاصده وتقرب من ضفافه. أما من غوته حلاوة أطروحاته وغاص في أعماق تكوينه المعرفي فهو كمن أغوته تُفاحة آدم سُيطرد خارج المنظومة الأكاديمية التقليدية المُحافظة وسيجد نفسه كما وجد متعب مناف نفسه خارج أسوار الجامعة العراقية التي برَ بها ولم تبَر به وا أسفاه!، فقد فُصل هذا العالم الجليل من وظيفته بعد أن مرض وذهب لسوريا لللعلاج، ولفورَة الأحداث الطائفية، ولكبر سنه لم يستطع المُباشرة في الدوام الرسمي، فما كان لكلية الآداب من بُدَ سوى فصله، ولم تجد له عُذراً...!!.

تلك هي الدُنيا تفتح أبوابها مُشرَعة لمن يُتقن اللعب بـ "البيضة والحجر" كما يقول أخواننا المصريون، أو (الكلاوجية) بلهجتنا العراقية. ولأن متعب مناف لا يُتقن صناعة (الكلاوات) و تزوير الأعذار، فمن المؤكد أنه سيخسر وظيفته كأستاذ أول وعالم فذ في كلية الآداب بجامعة بغداد، وهذا ما حصل، ولربما هُناك مُلابسات أخرى، ولكنها لن تكون عُذراً لرئاسة الجامعة التي تخلَت عن مفخرة عراقية وأيقونة أكاديمية كان في تخليها عنه سوء تقدير بأقل وصف وجهل بقيمته وقامته المعرفية لا يليق بجامعة مثل بغداد أن تُصف به.

أظن أن في موته حشرجة في (الزردوم) لكل من يعرف قيمته، وندمٌ عند من لم يعرفه لأنه لم يُعطه ما يستحقه إن كان في جبينه بعض من حياء.

لا توديع لأمثالك، فالحاضرون الفاعلون لا توديع لهم.

فأنت (فاتحة) المعرفة، فلا يُغني (الفاتحة) أن نقرأ على روحها (الفاتحة)، ولمن يرغب بقراءة (الفاتحة) على روحك الزكية الندية فهو مُحبٌ صادقٌ، ونحن صادقين في قناعتنا بوجودك بيننا.

كلانا نعشقك، من يظن أنك (فاتحة) في المعرفة، ومن يهوى قراءة سورة (الفاتحة) على روحك التي تهيم بالعراق عشقاً من جنوبه إلى شماله عكس المعهود لأنك هكذا تنظر للهرم مقلوباً، وأمثالك قليلون.

لا أقول لك وداعاً لأنك تسكن الروح والقلب والوجدان، لكنني سأقول إلى اللقاء يا نقي وتقي وأبي وبهي وشجي....

 

ا. د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم