شهادات ومذكرات

متعب مناف السامرائي.. منصة التفكير العراقية التي تأبى الرحيل

عبد الجبار عيسىكما هي العادة، نؤبن من ارتحل بفيض من العاطفة التي كم كان المرتحل بحاجة لها في حياته. كم أشعر بالأسى كوني أمارس هنا لصقَ تلك الماركة العراقية المسجلة على جدار القراءة.

إنه رحيل السوسيولوجي العراقي البروفسور الدكتور متعب مناف جاسم السامرائي البصري المولد ، البغدادي العيش والهوى، والذي رحل كغيره بصمت تاركاً وراءه لوعةً فراق عند من عرفه بصدق، ولوعة أخرى تتعلق بتعثر التواصل معه ً بعد 2003 بسبب الفوضى الاجتماعية والسياسية والأمنية التي تلت ذلك التاريخ.

في الواقع لم أعلم برحيل الدكتور متعب إلا من خلال مقالة الأخ د.علي المرهج أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد في صحيفة المثقف إلى مُتعب مُناف جاسم بعد فقدك*، وقد كانت لي وللزميل المرهج رفقة رائعة في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي مع الراحل متعب مناف حين كان يجمعنا في حلقة مع زملاء آخرين اختارهم بعناية ليشكل بهم نواة نخبوية يمكن ان تفكر في إيجاد موقف عقلاني إزاء التحديات المعاصرة من جهة ، ومن جهة أخرى تبحث عن إجابات لأسئلة العصر وعن الموقف من التراث والعولمة التي كانت تضرب بأطنابها في عمق المسلمات والحكايات الكلاسيكية التي يحفل بها تفكير تلك الحقبة من الزمن. كانت اجتماعاتنا أشبه بالاجتماعات السرية في أروقة كلية التربية ابن رشد في باب المعظم. كنا بحدود ثمانية أفراد من مختلف الاختصاصات نحضر في يوم الأربعاء من كل أسبوع، ولعلي كنت الوحيد الذي احضر من خارج بغداد،  فقد كنت أحاضر في جامعة ديالى التي كانت في بداية تأسيسها تتبع إلى الجامعة المستنصرية، وكان الدكتور مناف يقدر لي ذلك. ذات يوم أردنا أن نعطي اسماً لهذا الحلقة العلمية، فسألنا واحدا بعد الآخر عن رأينا. أتذكر إنني أجبته ببيت للشاعر الفلسطيني سميح القاسم (سنعطي الشوارع أسماء من لم يسيروا عليها طويلا) فهز رأسه مؤيدا وفهم ما رميت له. ولهذا ، وبسبب عدم تبلور الأفكار أيضا، كان دكتور متعب رحمه الله  يرى إن هذه الحلقة هي ابتداءاً منصة لأفكار اجتماعية وفكرية تنويرية ومن ثم ننتقل بعدها إلى تأسيس مركز أقترح هو بأن يُطلق عليه (مركز دراسات العولمة) حيث كان الراحل قد جعل من قضية العولمة والموقف منها سببا لإلقاء الضوء على الواقع  وسببا لمراجعة نقدية لتراثنا وضرورة تحديد موقفنا منه، فالعالم قد تطور تطورا هائلا وابتعد عنا مسافة كبيرة فيما بقيت مجتمعاتنا العربية بالدرجة الأولى ، والإسلامية بدرجة تالية، تعيش وفق منطق تاريخي مأزوم.

593 متعب مناف جاسم

 في حينها لم يكن من السهل قيام هكذا تجمعات ولا تأسيس مراكز في ظل سلطوية النظام الشمولي وآلته الأمنية المهيمنة على مفاصل التعليم العالي، لكن كانت الجامعة في تلك المدة تضم بين ظهرانيها أفكاراً خصبة تتضمنها عقول البعض من الأساتذة وطلبة الدراسات العليا، ونَهَمٌ للتعلم والانفتاح على التجارب المعرفية الحرة في العالم والبحث في تفكيك التراث والابتعاد عن الجدليات الثنائية الملازمة للتفكير العربي المعاصر.

كان الراحل من خلال أعماله (10 كتب و60 بحثا ) ومحاضراته غزير الفكر، تنويرياً بامتياز.لم يكن مؤدلَجا ولم يُقِم على اختصاصه فقط بل كان يتنقل بين حقول السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والأدب والسياسة والفلسفة. كان من نوع الأساتذة الملهمين الكبار.هو ذلك الطراز من الأكاديميين الخارجين على السكولائية التي تجعل الطالب متلقياً فقط لأساسيات العلم مع عدم اهتمام كبير بالمعرفة. كان له في الواقع فضل كبير على تكويني المعرفي في مرحلة مهمة من عمري.

 لم أكن حينها ، في بداية التسعينيات، قد تعرفت عليه بعد ، كنتُ في مرحلة كتابة رسالتي للماجستير في العلوم السياسية وأقضي معظم وقتي في المكتبة المركزية في جامعة بغداد في الوزيرية، وفي الوقت ذاته كنت أعمل مترجما للنصوص الانكليزية بمقابل مادي، جاءتني طالبة دراسات عليا ( الآن هي الزميلة الدكتورة ثناء محمد صالح في قسم الاجتماع) وأعطتني نصاً يمثل صفحة واحدة من كتاب لإميل دوركهايم قمت بترجمتها وسلمتها لها في اليوم ذاته، وفي اليوم التالي جاءتني بمجموعة كتب قائلة إن مشرفها هو الدكتور متعب مناف (وهو لديه ماجستير ودكتوراه من جامعة سيراكوز نيويورك في الولايات المتحدة ) كان قد أشار عليها بالأمس أن تعطي هذا النص لعدد من المترجمين ثم تجمع له الترجمات ليرى من هو الأفضل وقد أشار عليها بأن ترجمتي هي الأفضل، وهكذا بدأْتُ بالترجمة في مجال الفلسفة والسوسيولوجيا علم الاجتماع وهو ما حفزني كي أقرأ مزيدا من المؤلفات حول هذين الحقليين الأهم في العلوم الإنسانية. كان ذلك أيضا أحد الدوافع المهمة لكي أتخصص في علم الاجتماع السياسي فيما بعد ضمن دراستي في العلوم السياسية. كان ذلك بداية رحلة من الإلهام المعرفي ابتدأت مع الدكتور متعب مناف الذي شكل عندي قيمة مضافة إلى ملهم آخر في حياتي الأكاديمية في العلوم السياسية هو الراحل الدكتور صادق الأسود أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة بغداد والذي طالما استفز عقلي وساهم في تكويني المعرفي أيضا في ثمانينيات القرن الماضي.

لم أكن قد تعرفت بعد على الدكتور متعب شخصيا حين جاءتني دعوة منه لحضور ملتقى أو حلقة هو يديرها تتكون من أكاديميين وباحثين محدود عددهم للتباحث في شأن الموقف من العولمة، هكذا كان عنوان الدعوة. قبل أن أراه، كنت قد كونتُ عنه صورة نمطية، كهل أصلع قليل الكلام فيه تَرفُّعٌ أكاديمي، لكنه كان عكس ذلك تماما، كثافة شعره كغزارة علمه، متواضع إلى حد بعيد. أتذكر خلال اجتماعنا الأول إنه بادرني بسؤال يبدو غريباً: عبدالجبار ما هو رأيك في شعر المتنبي؟ وقد وقع سؤاله علي مسمعي وقعا جميلا وكأنه دعوة للعزف على آلة موسيقية أجيد العزف عليها، فقد كنت أعشق المتنبي وشعره فاسترسلت شرحاً وإلقاءاً لمقاطع من شعره وهو يصغي إلي بشغف (فيما بعد عرفت بأنه ناقد أدبي فذ)، ثم قال: حسنا، هل تعتقد بما يقوله البعض بأن العرب ظاهرة صوتية ؟ فقلت له: وماذا تقول أنت؟ قال: نحن هنا لنناقش ذلك. هكذا بدأت نقاشاتنا التي يأخذنا فيها متعب متنقلًا بين ابن رشد و دوركهايم وابن خلدون وهيغل والمقريزي وماكس فيبر وصولا إلى علي الوردي وفوكاياما وغيرهم كثير، وفي كل مرة يطرح علينا سؤالاً تنويريا مثل: إن تراثنا محمل بأعباء ثقيلة تشبه شخص محمل بالطين، ما هو موقفنا منه؟ هل نقتطع التراث من تفكيرنا، أم نقطع فترة منه، أم ماذا؟ ولنتذكر إن ذلك النقاش كان في تسعينيات القرن الماضي.  كان يحول الملتقى أحيانا إلى نادي للقراءة بأن يعطينا نصوصا معينة نناقشها في الجلسة القادمة. كانت النقاشات التي يديرها حاميةً أحياناً وفيها مشاكسات علمية ممتعة، كان أكثرنا مشاكسة وجرأة الراحل خضير ميري الذي كان مهووسا بمشيل فوكو،  في حين كان علي عبدالهادي المرهج أقل مشاكسة من الآن، بينما كنت ، في البدأ، أنا وبعض الزملاء (اعترف بذلك) لا نستسيغ كثيرا قضية نقد التراث الذي يشتمل على أنساق مقدسة طالما تشربت بها عقولنا. أتذكر ذات مرة وزع علينا الراحل متعب نصاً للمقريزي حول قضية شحة مياه نهر النيل في مصر، وكان للمقريزي رأي يخالف فيه تفسير العامة ورجال الدين الذين كانوا يرون إن ذلك سببه خطايا العباد، إلا أن المقريزي يقول بأنه سبب طبيعي يحدث بين مدة ومدة نتيجة لعوامل طبيعية ليس لها علاقة بالتفسيرات الغيبية.

للأسف الشديد لم تستمر لقاءاتنا حلقتنا تلك (المنصة) لعدة أسباب لعل أهمها إننا كنا نجتمع خارج كلية الآداب في كلية التربية ابن رشد بدعم من عميدها آنذاك نزار الحديثي لكننا وجدنا أنفسنا غالبا ، وبوتيرة متصاعدة ننتقد النظام السياسي على طاولة الاجتماع ، وهذا هو ديدن الفكر الحر، فالفكر المتنور لا ينمو إلا في بيئة حرة، فأصبح هناك توجس من أن يشيع الأمر، وهذا ما حدا بالراحل الدكتور متعب أن يفكر بتعليق الاجتماعات مؤقتا ريثما نجد مكانا آخر. لم نجد مكانا مناسبا، في حين سافر الكثيرون منا خارج العراق بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية. هكذا، لم يتحقق حلم تأسيس مركز دراسات العولمة، بل لم يتحقق مشروعي الذي فاتحتُ به الراحل وأعجب به كثيرا وهو تأسيس (مدرسة بغداد للدراسات الاجتماعية).

ورغم إن الراحل كان من المفترض ان يكون قطبا معرفيا رسميا في عراق ما بعد 2003، إلا أنه لقي الكثير من الإهمال من جانب الجامعة، بل وصل الأمر إلى فصله من الخدمة في نهاية عمره الأكاديمي ، حسب ما نقل لي، لكنه كان مُصراً على نشر عمله المعرفي التنويري متنقلا بين المراكز البحثية والعلمية كان آخرها بيت الحكمة في قسم الدراسات الاجتماعية. لقد صب معظم دراساته في السنوات الأخيرة حول الاجتماع العراقي وظل مخلصا ، كما هو دوما، إلى فكرة تفكيك البنى السوسيو والأنثروبولوجية العراقية، وكان غرضه من كل ذلك خلق جماعة اجتماعية كبرى تحمل هوية عراقية متماسكة رغم الوجود المكوناتي المعترف به.

من حسن الحظ أني التقيت به ثلاث مرات بعد عام 2003 الأولى في ندوة له في قسم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة بغداد. والثانية عام 2011 قدمت معه وبمشاركة الدكتور كاظم المقدادي ندوة عن الربيع العربي في جامعة بغداد في الجادرية كانت مادة لكتاب صدر فيما بعد، وأخيرا في عام 2013 وكان من أغزرها وأجملها، فقد كان اللقاء في مطعم في شارع 62 في منطقة الكرادة على هامش دعوة غداء بعد مناقشة دكتوراه لأحد الزملاء في قسم الاجتماع حين نسينا الطعام وانهمكنا بالنقاش. كنت حينها كمن يدرس لأول مرة على يد أستاذ ماهر في المرحلة الأولى من الدراسة. ولا أريد هنا أن أذكر ما قاله بحقي أيضا أمام الزملاء لكني أقول إن الرجل كان يغمرني بحبه وأبوته، بل انه أعطاني شحنة معنوية لأن أعدل عن قراري بمغادرة العراق حينها.

لم انقطع عنه ولم ينقطع عني، ولكن للأسف كان التواصل فقط عبر الهاتف النقال. وكان في كل مرة يتفقدني بها أشعر بأنه يرسم لوحة خضراء مليئة بالأمل.

بعد ما يقرب من20 سنة من سؤالك لي: ما هو رأيك بشعر المتنبي؟  أقول لك دكتور متعب: لا أملك في تأبينك هنا سوى هذا البيت للمتنبي نفسه: ( عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ .. بين طعن القنا وخفق البنودِ / لا كما قد حييت غير حميدٍ وإذا مُتَ مُتَ غير فقيدِ ).. كلانا كان يكره طعن القنا وخفق البنود، لكنك رأيت بعينك كيف كان طعن الحريات الأكاديمية فاضطررت أن تطاعن معرفياً، وكيف كان خفق البنود المنافق حيث خفقت أعلام وسقطت أخرى لكنك بقيت على بَندِك الإنساني الوطني. عشت حميدا ومتَ فقيداً، فزرعك لم يمت ولن يذبل، ومنصة التفكير التي ابتدءناها معك ستبقى.

 

أ.د. عبدالجبار عيسى عبدالعال السعيدي

أستاذ الاجتماع السياسي في الجامعة المستنصرية

.....................

* للاطلاع

 

إلى مُتعب مُناف جاسم بعد فقدك / ا. د. علي المرهج

 

 

 

في المثقف اليوم