شهادات ومذكرات

جمال العتّابي: معطف ماوتسي تونغ

كنا في الوطن المصادر المحبوس نستغيث، حين انكسرت رماح تغلب وترادفت خيولها مهزومة في الحروب، لم نعد نطيق ضجيج الشعارات ولغو الكلام، نتفيأ تحت جدار مثل السخام، قبل بلوغ النهار ذروته، ننتظر مقدم عبد الامير عباس* (ابو شلال)، متلفعاً بمعطفه الاسود الطويل، متباهياً بقامته الطويلة التي لم تنحن لرياح الفصول، في الجلسة نتبادل آخر اخبار جرائم (الحلفاء)، وأكاذيب بوش الأب،

السماء ملبدة بالسموم والرصاص، البرد يقصم ظهورنا، ينخر في العظام، الناس تقتات من جوع على الحشف وطحين نوى التمر المشوي على مدفأة (علاء الدين) النفطية، ياهولها تلك الايام، التي فتحت أبوابها للجحيم، ياهولها فاغرة أشداقها تلتهم الصغار، وغولها يفترس النساء لحظة الوحام، كأنما مدن العراق ليل من مجون، في المساء نختار أحد بيوتنا المتقاربة، لنلتقي نستعيد ما بدأنا به وقت الصباح، (التشكيلي محمود حمد، المهندس سامي الكفلاوي، المعلم المتقاعد أسد نعمة، واحياناً ينضم الينا الشاب الكوردي طه جمال)، نتطلع بلهفة لزيارة صديقنا عقيل الخزاعي (أبو ذر)، كان يدوس على الخطر، ننتظر منه أن يدس بين ايدينا كتاباً ممنوعاً، نتداول قراءته بسرعة.

يا بختك يا ابا شلال كأنك لا تعطش ولا تجوع، ولا تشعر ببرد، سيان عندك إن تناوبنا على ارتداء معطفك ساعات الليل، حين يقصم ظهورنا البرد، حتى بتنا نردد قولاً شهيراً (لقد خرجنا جميعاً من معطف أبو شلال)، عوضاً عن (غوغول)، تُدثّرَنا بيديك الصلبتين، حين نملّ من خصامك، أم نكابد من ضجر نبحث عن بلاد تضم رفاتنا، ونهرب من قاتل يتوعدنا، يقايضنا برغيف أسود، وأسوء أنواع السكر والشاي، كنت تسخر منا حين يرسم الخوف بصمته من حولنا، تهمس لنا بنبؤاتك وتعيد لنا قصة (المعطف)، التي سمعناها منك مراراً، لا بأس من إعادتها هذه المرة، يقول أبو شلال:

في العام 1959، كانت موسكو وبكين محجة لنا، محظوظ من يظفر بزيارة لأحدى (قلاع الاشتراكية) يوم ذاك، كنت عضواً في أحد الوفود المدعوة لزيارة الصين الشعبية، كان الوفد يضم عدداً من الشخصيات النقابية والقيادات الحزبية، للأحزاب والقوى السياسية وقتئذٍ، تضمن برنامج الزيارة لقاءً بالزعيم الصيني (ماوتسي تونغ)، الذي كان يتمتع بقامة طويلة خلاف أبناء الصين المعروفين بقصرها، وأثناء المصافحة خلع (ماو) معطفه، وضعه على كتفي لألبسه، كنت (أرهى) منه، لم يتخيل أنني الأطول فأهداني إياه - وصادف ان ولدت زوجتي ابنتها البكر فاسميتها (بكين)، انتهت رواية أبي شلال- .

تبادل ماو وأبو شلال الابتسامات، ظلت تلك الابتسامات مطبوعة على محيا عبد الأمير عباس طيلة عقود من الزمن، كلما تحدث عن تجربة الصين (الاشتراكية)، لم يخفت بريقها حتى بعد انهيار النظام السوفيتي وأنظمة بلدان شرق أوربا في مطلع تسعينات القرن الماضي. حين اُغتيلت الأحلام، وتمزقت الأماني، ورغم ضرواة الشوق لدى أبي شلال لماضيه.

حين اشتد المرض على (أبو شلال) في نهاية التسعينات، كان يشتد معه الحصار والجوع، والأمهات يغلين الحصى لصبية من غير لحم أو فتات، أوشك عبد الامير أن يتضاءل عوده، ويصفر وجهه، ترى من يرد اليه قوة جسده وبياض يديه، واخضرار روحه؟ أي ليل يضم رفاتك أيها العامل النبيل؟ مَن مِن أولادك جدير أن يرتدي معطفك من بعدك؟؟

ضاق الليل بنا حين حملناك الى مجاهل القفار والظلام، وضاقت دموع محبيك حسرة على معطفك حين عرضه ولدك الأكبر (علي) للبيع، في سوق الباب الشرقي بخمسة آلاف دينار استلمها نقدا من أحد المارة.

***

د. جمال العتّابي

..............

* عبد الامير عباس عبد المحمدي، كان عاملاً في دائرة السكك الحديد، وأحد قادة التنظيم النقابي فيها منذ أربعينات القرن الماضي، بسبب انخراطه في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، تعرض للسجن والاعتقال عشرات المرات، في العهدين الملكي والجمهوري، كان من بين أسماء المجموعة التي ضمت سلام عادل، زكي خيري، ابو العيس، كريم احمد، عزيز الشيخ، عبد الرحيم شريف، عبد القادر اسماعيل، التي قدمت طلباً عام 1960،الى وزارة الداخلية في عهد عبد الكريم قاسم لإجازة (حزب اتحاد الشعب)، بعد أن رفضت الوزارة الطلب الأول، ومنحت الاجازة لجماعة داود الصائغ باسم الحزب الشيوعي العراقي. بتوجيه من الزعيم.

أحد أشقاء (ابو شلال) لاعب كرة القدم هادي عباس، الذي يلقب ب(خنتو) العراقي، كان يعد أشهر لاعب شغل مركز خارج اليسار في المنتخب العراقي في أعوام الخمسينات.

 

في المثقف اليوم