شهادات ومذكرات

إلينورا كيج: طنجة 1969

بقلم: إلينورا كيج

ترجمة: صالح الرزوق

***

حملت أمي بين ذراعيها معزاة صغيرة تكافح للإفلات، ونعلا بوطها الشامواه البنفسجي يغوص في الوحل، وحولها حلقات صغيرة من الأولاد، يتابعونها ويصيحون "سينيورة، سينيورة". كانت قد خرجت مع زورا، وصيفتها، إلى الشرف - وهي بقعة متواضعة في أرض زراعية أمام بوابة المدينة تماما.

كانت أمي قد قررت شراء عجل معزاة،  وتوقعت أنها ستكون حيوانا منزليا أليفا ومؤنسا، ولم تنتبه لخطئها إلا بعد أن أسكنتها في أعلى شرفة من فندقنا المتداعي، فقد التهمت هناك بقايا ثيابنا الداخلية.  وبعد أيام قليلة، أهدت المعزاة لمحمد موزع الحشيش ليتركها لأبنائه.

أصابنا جميعا طفح جلدي، باستثناء والدي، فقد تجنب البثور الغريبة التي تسبب بها الفيروس، أو سوء التغذية، أو كلاهما. كنا حينذاك نعيش في طنجة، المغربية، المدينة البيضاء، وسبق لوالديّ أن جاءا إليها حسب رواية أمي " ليكتب أبي رواية أمريكية عظيمة". المغرب ثاني بلد أجنبي عشت فيه، مع أنني لم أتجاوز العامين من عمري. وبحوزتي صورة تذكارية، ولكن دائما أتساءل كم أتذكر من المغرب فعلا، وكم هي القصص التي نسجتها مما أخبروني به.

وعن طريق الوالدة علمت أنه بعد ست أسابيع من ولادتي، أخذتني هي ووالدي، معنا أخي، وعلبة كارنيشن عملاقة من الحليب المجفف، وعلبة بامبيرز، وميراث أمي المحدود جدا، وذهبنا إلى كويرنافاكا في المكسيك. وهناك استأجرنا بيت مالكوم لوري القديم، وتخيل والدي أنه سيكتب فيه شيئا يرقى إلى رواية "تحت البركان". كسب والدي من لوري نوباته الكحولية، وملأ دفاتره بخطوط مبهمة وليس كلمات، باستثناء العنوان على الغلاف وهو - "أحمق متهور". وأضاف له كولاجات ترمز لسرب من الديكة وكرات.   ثم نوهت له الوالدة  برواية "السماء الواقية" لبول بولز. وقبل نفاد النقود، قررا أن المغرب هو المكان المناسب للثوار والمتمردين الشرفاء، وهناك سيتمكن والدي من اكتشاف فنانين يمكنهم إلهامه. أي مكان في عام 1969 أفضل من شمال إفريقيا لكتابة رواية أمريكية عظيمة؟.

في المغرب كنا نحتاج لرحلة مشاق لنجد الحشيش والأفيون ومادة LSD التي تفيض في مرفأ المدينة المزدحم. بحث والداي عن آثار كتاب مثل ألن غينسبيرغ ووليام بوروز وجين وبول بولز، وفي النهاية وجدا أنهم لجأوا إلى مجتمع الوافدين الفاسد الموجود في مخيم المدينة والحي الفرنسي.  استغل والدي سحر هيئته  الصبيانية الهادئة ووقاحته لفتح عدة أبواب مغلقة. واستثمر أيضا ما يعرف عن بول وبوروز من رغبة بالفتيان الذكور.

وزاد تعاطي أمي للحبوب. فقد أتت إلى المغرب سعيا وراء الموسيقا والتصوف، ووجدت نفسها حبيسة غرفة في فندق مع ابن بكاء وبلد يعزل النساء في البيوت كأنهن سجينات. لا تستمتع المغربيات إلا بالشمس والسماء التي تلمع على وجوههن في باحات المنزل، أو على أعلى شرفة من بيت تحيط به جدران مرتفعة ومحرومة من النوافذ.  أخبر محمد أمي في إحدى المرات وهو يتناول شراب الشاي بالنعناع: "نحن نحب حجب نسائنا عن الأنظار". ويئست أمي من الهرب. فقد كنا لدينا جواز سفر عائلي واحد، وكانت مربوطة بزوجها الأنيق والطائش، مع أنه بخيل ومخمور ويغيب عنا أحيانا عدة أيام متواصلة.  وفي الأيام التي يختفي فيها، تجد القليل من الهناء، ولكن سرعان ما يخيم عليها الخوف حينما تسمع صوت خطواته على السلالم، وتبدأ بالتكهن عن المزاج الذي عاد به.

ثم جاءت فرقة رولنغ ستون إلى المدينة.

كتب والدي، على قفا شهادة ميلاده، يقول إنه ينتعش بوجودهم، وألقاها على طاولة الاستقبال في فندقهم. كانت أمي عاشقة لبرايان جونز ومهووسة بمايك جاغر. وكانت تستمع لألبوم "ما بعد الحدث الهام" مرارا وتكرارا، وهي تهز قوامها النحيل على سجادة قطن مندوف ممدودة على الأرض، وتغطي نفسها بملاءات بربرية زاهية الألوان، مصدر التدفئة الوحيد في الفندق. (وللأسف فاجأ والديّ الشتاء المغربي البارد والرمادي بالمقارنة مع الحرارة الساطعة في المكسيك).

كان الكيف والحشيش وفرقة ستون أشياء متلازمة بالضرورة. وهكذا أمكن لأمي أن تنسى أوجاعها. وغالبا ما كانت تلتف من رأسها إلى أخمص قدميها بوشاح تخفي به الطفح الجلدي المتورم الذي يغطيها بالكامل، حتى أنه ظهر في أذنيها وأنفها.  أما المرأة التي يشاطرها أبي الفراش فقد تعرفت على الستونز في يبيزا  وأحبت مرافقة والدي ومحمد لحضور حفلهم. لذلك أودعوا ابنيها برعاية أمي. وقال لها الوالد: "تحلي بالصبر معهما". وهبط السلالم وهو يلتفت ويصيح:" لا يمكنك أن ترافقينا وأنت تعانين من هذا الطفح الجلدي". وقبل أن يغادروا، استفسرت الوالدة من محمد بحياء عن المعزاة.

قال وهو يغطي شفتيه:"بحال جيدة".

وذهبوا لمشاهدة حفلة الستونز في فيلا متهاوية في القصبة التي تمتلكها تاتيانا، وهي كونتيسة روسية مدعية، وتدير قاعة.

وصلت أمي إلى خط النهاية. مرت أمسية أخرى بفلولها وهي تحدق من الشرفة نحو الأسفل. كانت الأبنية البيضاء ملتفة بظل بارد رمادي، وقامات الرجال، الذين تأنقوا بالجلابيات البيض، تدخل وتخرج بحرية في أبواب الضباب العائمة تحت في الشارع. أما حبتا المخدر الاثنتان اللتان تناولتهما فقد خففتا شعورها، وهي تنظر من فوق قمم الأسطحة إلى المدينة البعيدة المغسولة بلون أبيض. وكان أخي ذو الخمس سنوات يتعلم اللغة العربية والحساب ويرتل القرآن في مدرسة حكومية. تجولت على الشرفة، وهبطت حفاضتي المبلولة وأنا أراقب أمي كيف مدت يدها داخل ثوبها المنقوش بصور الورود الحمر، وانتزعت حمالة ثدييها وحشوتها، وألقت الصدر الصناعي على الإسمنت. جذبني هذا الشيء فاقتربت منه حين كانت أمي تعتلي جدار الشرفة المتحجر. أخبرتني لاحقا أنها كانت تسمع صوت مايك جاغر يناديها، وهو يسبح بين موجات الأثير ويمر بالمآذن البيضاء. وكان يغني قائلا:" أنا أنتظر… أنا أنتظر…". كأنه أذان يستهدف سمعها فقط، وينفذ من السماء الملوثة الوضيعة. وفي أحد الأيام أخبرتني أنها لم تتعمد أن تقتل نفسها، ولكن أرادت أن تلاقي ربها، وهي ترتل وتنشد بصمت ودون صوت: "إن كان هناك رب عادل، أنا إذا بريئة. وإن لم يكن للرب وجود، فأنا لا أعلم الحقيقة". وحينها وازنت بين الاحتمالات، إذا لم تقتلها السقطة، وانتهت بعاهة أو ضرر جسيم، على الأقل سيتركها والدي وشأنها، ويمتنع عن شتمها بقوله: "أيتها البنت المسكينة الصغيرة الغنية". ولكن في تلك اللحظة، من تلك الفترة البعيدة، بدأت أولول وأمي تطوي نفسها بشكل كرة صغيرة،  وتتدحرج من الشرفة إلى الأسفل أمامي.

ثم سقطت من ارتفاع ثلاث طبقات، واعترضتها الأسلاك الكهربائية، وصعقتها، ولكن خففت من قساوة سقطتها، وهي ترتطم بها، ثم تحط في حاوية نفايات محشوة بزجاجات كلوروكس، كانت قد تخلصت منها مصبغة في الأسفل. ما يدعو للدهشة أن السقطة لم تخلف آثارا ظاهرة على جسمها. ولكن تضررت رقبتها وكتفاها، وانكسرت من الداخل، ولم يمكن رؤية شيء. أسرعت السيدات المغربيات من البيوت المجاورة بالخروج، وحسروا الأغطية عن وجوه موشومة وهن يدمدمن بامتعاض خافت، ثم حملن بحرص كتلتها من النفايات، وعدن بها إلى داخل الفندق. كان الانتحار بنظر القانون المغربي جناية، وعقوبته تصل إلى الإعدام إذا كانت الجانية امرأة. ولكن غطى هذه المفارقة ابنتها بحفاضتها المبتلة، وهي تصيح بأعلى صوتها، وفي يديها زوج من الأثداء المطاطية لا زال دفء أمها فيهما، وكانت تتساءل: هل ستشاهد أمها بعد الآن.  

***

.....................

* إلينورا كيج Ellenora Cage: كاتبة وسينمائية أمريكية معاصرة.

في المثقف اليوم