شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: دويب حسين صابر.. عاشق القانون العام

علمتنا الحياة بأنه لا تعيش أي أمة بلا عدل، فإن غاب اضطربت الأحوال، وهامَ الناس على وجوههم حائرين مغبونين قانطين حانقين، ينظرون إلى الحياة من زاوية ضيقة حرجة لا تلبث أن تسْوَدَّ فى عيونهم، فيكسو الظلام كل شىء.

ولهذا فقد اهتم ديننا الحنيف كثيراً بكل عناصر العدالة، وشملت منظومته كل ما من شأنه أن يحقق العدل على أرض الواقع، حيث لا ينبغي أن ينصب الاهتمام على التشريعات والقوانين وترك من يطبقونها من دون إعداد وتأهيل، أو تركهم يطبقونها بأسلوب عشوائي خال من الانضباط والنظام.

ولهذا ربما لا أكون مبالغا إن قلت بأنني لست من أنصار وأتباع من يكابرون ويتبرمون على الجهر بالحقيقة وفي وقتها القانوني دون أن تطالهم صافرة اللوم والنقد والعتاب مهما يكن من أمر أو تشتد بهم العواصف العاتية والرياح الهوجاء التي قد تجرفهم في تيارها الواسع البعيد في نقطة اللاعودة، ولأن أستاذ القانون العام كما اعتقد هو ذلك الكيان المسكون والمخلوط بروح العطاء الخارق، فهو يمثل الرسالة البيضاء المليئة والمتدفقة في كل الجامعات والمحافل الفلسفية أينما كان وحيثما وجد فلولا هذا الأستاذ ما أطلت علينا نسائم وبشائر التفوق في عالم القانون، وما شعرنا بقيمة الرجال العظماء والمفكرين الأفذاذ، وما تلذذنا بطعم الكلمات والتعليقات الساخرة واللاذعة التي تقطر بها أقلامهم وتلهج بها ألسنتهم وتخطها أناملهم في كبريات المؤتمرات غير عابئين أو مكترثين بما يعترضهم من مصاعب ومشاق.

والدكتور دويب حسين صابر – أستاذ القانون العام وعميد كلية الحقوق الحالي، بجامعة أسيوط، يعد واحداً من الأساتذة المصريين الكبار الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في القانون العام من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارما إلي أبعد حد: فالنص التشريعي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه في مجال القانون العام.

ونظرة عامة في سيرته الذاتية فقد كان الدكتور "دويب "، حيث  تم تكليفه قبل صدور قرار تعيينه عميدا لكلية الحقوق بقرار رئيس الجمهورية- الرئيس عبد الفتاح السيسي،  خلال الأشهر السابقة بالقيام بأعمال عميد كلية الحقوق، ووكيل كلية الحقوق للدراسات العليا والبحوث؛ وكان قبل ذلك شغل الدكتور دويب منصب رئيس قسم القانون العام، كما شغل منصب المشرف على قسم القانون العام، والمشرف على قسم المالية العامة، والمشرف على قسم تاريخ القانون، كما تم تكليفه بالقيام بأعمال عميد لكلية الحقوق بجامعة جنوب الوادي، ومستشار قانوني (خبير قانوني) بمجلس الشوري بسلطنة عمان.

ومن هنا أقول بعد هذا السرد : لقد جمع الدكتور " دويب " في شخصه الكريم، نزعة دينية أخلاقية نابعة من خلال تبنيه الاتجاه العقلي في تمحيص القوانين العامة المرتبط بتصور شامل للعلوم الإسلامية الشرعية إلي جانب البحث الدقيق العميق، تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة، وسلوكه الإسلامي الذي ألتزم به في الحياة العامة، وكان تجسيد لنظريات القانون العام بجانبيه النظري والعلمي، وعند المتخصصين في القانون العام هناك علاقة قوية بين الجانبين، فقد كان باحثاً فاحصاً محققاً، مثالاً، ونموذجاً وواقعياً حياً للخلق الإسلامي، محتذياً بأساتذته الأجلاء .

وهو بالإضافة إلي ذلك بأنه يعد الدكتور "دويب "نموذج عملاق للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الاكاديمية والوظيفة علي أحسن ما يكون الأداء أو في ارتباطه بطلابه في علاقة إنسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي.

والدكتور "دويب " يمثل في نظري ظاهرة تستوجب الاحترام وتستحق التقدير فدراساته المتنوعة حول القانون العام تجمع بذكاء بين روح القانون وواقع الحياة السياسية دون مغالاة أو شطط، فقد علمته الحياة دروسًا تراكمت في وجدانه، مثلما تراكم العلم في عقله؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه يتمتع بذكاء خارق ومقدرة ظاهرة وكامنة أتاحت له في بعض الأحيان العمل على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة من دون كلل، وكان حيوياً ونشيطاً في عمله.

وفي كل ذلك فإن الدكتور "دويب" يمثل شخصية إصلاحية بامتياز، معتدلة من غير ذي عوج، منفتحة بلا ذرة انغلاق أو تعصب، متسامحة بكل ما يعنيه التسامح من تعايش وقبول للآخر، خاصة بعد أن أستطاع، الجمع بين ثوابت الإسلام ومتغيراته، وبين عطاء الحضارة الإسلامية العربية والحضارة الغربية، وبين الواجب الشرعي والواقع العملي جمعًا صحيحًا.

هذا بالإضافة إلي كونه بحاثة من طراز متفرد، يصغى إلى نوره الداخلي، يحمل في خلاياه هموم كل البشر والمخلوقات، خاصة البسطاء؛ أوجاعهم في أضعف لحظات العجز، وأحمالهم الثقيلة، وأحلامهم المتكسرة، في وقت ربما لا يجيد العديد منا سوى الشكوى من أبسط عثراته الشخصية.

فتحيةً أخري للدكتور "دويب" ذلك الرجلٍ الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل تاريخ القانون العام من بوابة واسعة متفرداً.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

في المثقف اليوم