شهادات ومذكرات

علي حسين: القراءة هي أجمل هدية تلقيتها في حياتي

شعر بالانزعاج وهو يقرأ تصريح مؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس الذي قال فيه:" أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق ومن ثم للكتب "، تملكته حالة من الغضب بعد ان واصل غيتس سخريته من الكتب  والتي وصفها" بأنها اشياء عفا عليها الزمن ". التفت إلى زوجته وهو يردد: هذا انسان وقح.. لا يمكن أن أذهب للشاشة لكي اقرأ رواية.. فالكتاب يوفر الاحساس بالحميمية، والتركيز العقلي والعزلة الروحية ". يذهب باتجاه مكتبه، لا بد من الرد على مثل هذه الاكاذيب، ساعات من الكتابة ، لينشر بعد ايام مقالاً بعنوان:" لماذا نقرأ الأدب ؟ " اعلن فيه انه من دون الكتاب، سيعاني العقل البشري من خسارة لا تعوض، مختتما مقالته بهذه الجملة:" إذا اردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، وأن نقاوم اي مساهمة لإضعاف حريتنا، فيجب أن نقرأ -  " داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي -.

عندما سئل: لماذا يحب القراءة؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. ماريو فارغاس يوسا المولود في ليما عاصمة البيرو، في الثامن والعشرين من آذار عام 1936، يتذكر كيف انفصل ابوه عن أمه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، غضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي  الى طبقة برجوازية، في الوقت نفسه كانت الام تحرص على تعليم انبنها القراءة في سن مبكرة والتي ستشكل  أهم حدث في حياته:"ما زلت أذكر بوضوح هذا السحر، سحر ترجمة كلمات الكتب إلى صور، ما أغنى وجودي، محطما حواجز الفضاء والزمن، متيحا لي أن أجتاز مع القبطان نيمو في غواصته عشرين ألف فرسخ تحت أعماق البحار، أن أناضل إلى جانب دانتانيان وأتوس وبورتوس وأراميس ضد المؤمرات التي كانت تحاك ضد الملكة زمن الداهية ريشوليو، أو أن أتنزه في أحشاء باريس، لأصبح جان فالجان، حاملا على ظهره جسد ماريوس الهامد". كانت القراءة تحول عالمه الى احلام غريبة، تضع الكون بين يديه، وتملأ طفولته بالحماسة والمغامرات.يتذكر ان أمه كانت  تدمع عيناها حين تقرا اشعار بابلو نيرودا، وتنفعل  وهي تقرأ لابنها مغامرات الصبي دايفيد كوبر فيلد، فيما بعد سيكتب يوسا ان روايات تشارلز ديكنز تسللت الى عائلته مثل أفضل الأصدقاء وأقربهم. كان ديكنز قد قرر وهو في الحادية والاربهين من عمره  أن يقرأ رواياته على الجمهور، فصعد خشبة المسرح في كانون الاول عام 1853  ليلقي أمام ألفي شخص فصول من ديفيد كوبر فيلد التي صدرت عام 1849 ، كان آنذاك  الروائي الأوسع انتشاراً وشعبية في بريطانيا، وكان قراره الصعود إلى خشبة المسرح قد أثار  اعتراضات شدة من قبل ناشر رواياته الذي حذره من خطوره هذه الخطوة  على مبيعات رواياته، لكنه قال للناشر وعائلته أنه يريد ان ينظر الى وجوه الناس وهم يتابعون احداث رواياته، ثم اضاف انه يحقق امنيته التي تمناها في صباه ان يكون حكواتيا . وقد ظل تشارلز ديكنز يصعد على خشبة المسرح لمدة سبعة عشر عاما. حاول يوسا ان يقلد ديكنز عندما كان يطلب مه ان يقرا قصة او فصلا من احدى رواياته:"  شعرت أيضاً بتلك المعجزة المحيّرة التي يولّدها تجسيد الخيال وتقمّص الشخصيات الروائية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد –.

يعثر في مكتبة المدرسة على نسخة من رواية ثيرفانتس " دون كيخوته "، كانت محاولاته الاولى لقراءتها باءت بالفشل:" كانت تربكني الجمل الطويلة، والعبارات القديمة التي كنت أضطر للبحث عن معانيها في المعاجم "بعد سنوات سيعيد قراءة " دون كيخوته "، وسيفلح في الانتهاء منها خلال ايانم قليلة: "متمتعاً بكل جملة وكل صفحة، بقصة تلك الشخصيتين النقيضتين، الفارس المثالي الممشوق القامة، الذي يكرس حياته لتغيير الواقع كي يتشابه مع الكتب والأحلام، ومرافقه البراغماتي صاحب البطن السخي، الذي يحاول إبقاء سيده في دائرة الواقع المرير كي لا يتيه في ضباب الخيال والأحلام ".

في شبابه يخصص عشر ساعات من القراءة اليومية، قال لأحد محاوريه انه كان يريد آنذاك ان يتحول الى " وحش قراءة ". كانت والدته تقول له ان القراءة تجعل ذهنه صافيا، ويعارف ان القراءة كانت أجمل هدية تلقيتها في حياتي.في المقابل كان الأب يسخر من الكتب، وكانت مهمته في الحياة ان يزيد من صلابة ابنه ، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها،  هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية  ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم  الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلاً، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. عندما سافر الى فرنسا في السبعينيات كان يتمنى ان يلتقي بسارتر، خاف الاقتراب منه، ظلت صورة الفيلسوف المنكب على كتبه واوراقه ترافقه، المرة الوحيدة التي شاهد فيها سارتر كانت في تظاهرة شارك فيها فيلسوف الوجود والعدم  ضد الاضطهاد العسكري في البيرو:" كنت أقف بعيدا عنه، لكني كنت مضطربا وأنا أشاهده: كان شخصا مهما جدا! وقد قرأته باحترام كليّ ".

يعترف يوسا بان بان الكتب تمثل الجانب الاكثر اشراقا في حياته، وانها ساعدته في ان يرسم طريقا لحياته.. سبب عيشي. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، وفي جميع الظروف التي شعرت فيها بهزيمتي وبموتي وبأنني على حافة اليأس، كان انكبابي جسدا وروحا على  القراءة والكتابة  بمثابة النور الذي يشير إلى خروجي من النفق، خشبة النجاة التي ستحمل الغريق إلى الشاطئ ".

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

"يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة " حوار في الكاتدرائية " صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا  " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وقد قراه عندما كان في المدرسة الثانوية حرص على اقتناء جميع كتب الكاتب الامريكي الشهير، وكان فوكنر  صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

يردد يوسا أن القراءة كانت سبيله لولوج عالم الأدب منذ الطفولة. ومما يتذكره بشأن والدته، أنها قالت له لاحقاً، بأن كتاباته الأولى، تمثلت في تصور تتمات للقصص التي كان يقرؤها، ذلك على أساس أسفه كون أنها انتهت، أو لأنه كان يريد لها نهاية أخرى. ويضيف: " ربما أن هذا ما فعلته طيلة حياتي، من دون معرفة ذلك، عبر إطالة زمن قصص مغامرات الطفولة، بينما كنت أكبر وأنضج وأشيخ "، وهكذا يتحول  الحلم إلى حياة، فالقراءة- برأيه- توقظ الشهيّة لعمل الخيال، وتدفع الى الخوض في منعطفات عالم الكتابة. ولا يتردد يوسا في الاعتراف من ان أفضل ذكريات طفولته في، كانت مع  القراءة”، وليس مع رفاق المدرسة.

عندما سال ما هي الكتب التي لا يزال يحتفظ بها، قال انها الكتب التي لا يزال يحبها، وعلى راس القائمة رواية مدام بوفاري  ومعظم روايات فلوبير،  يتذكر عندما كان في العشرين  من عمره وقد وصل الى باريس قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، لم يكن يحمل الكثير من امتعة السفر باستثناء حزمة اوراق كان يحرص عليها بشدة،كانت مخطوطة روايته الاولى " المدينة والكلاب "، وجد شقة صغيرة جدا بالقرب من حدائق اللكسمبورغ، كان قد انتبه بوضوح إلى ميله ان يصبح كاتبا، لكن عليه في هذه المدينة أن يبحث عن عمل يؤمن عيشته، فوجد وظيفة في وكالة فرانس برس، واخذ يعطي دروسا في اللغة الاسبانية..يتذكر ماريو فارغاس يوسا انه ذهب ذات يوم إلى احدى مكتبات الحي اللاتيني تدعى "مكتبة متعة القراءة" ليشتري نسخة من رواية " مدام بوفاري ":" أمضيت الليل بكامله في قراءتها، أدركت عند طلوع الفجر أي نوع من الكتّاب أريد أن أكون، وأني، بفضل فلوبير، بدأت أتبين جميع أسرار فن الرواية " – يوسا جريدة الشرق الاوسط -.

بعد الانتهاء من الصفحة الاخيرة من " مدام بوفاري ادرك يوسا " ان لا أحد يرقى إلى مصاف الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير من حيث فضله على الرواية:" فمعه وحده ولدت الرواية الحديثة، فهو الذي الذي أرسى القواعد التي تحولت، بعد سنوات، إلى الأشكال والتراكمات اللامتناهية التي تفتقت عنها عبقرية جيمس جويس ليميزها نهائياً عن الرواية الكلاسيكية"، بعد فلوبير روايات وليم فوكنر، هذا الرجل رجل الطباع  الذي كان يعيش يعيش  في أقاصي ميسيسيبي، حيث استطاع ان يعطي للرواية مرونة في الزمان والمكان مكنته من كل التجاوزات،  لقد وجد  يوسا ان أكثر ما يذهل عند فولكنر لم تكن جرأته الرائعة التي أتاحت له أن يكتب روايات مثل " الصخب والعنف" أو "بينما أرقد محتضرة"، بل:" الحيل التي كان يخدع بها الصحافيين عندما يعرّف عن نفسه بأنه مزارع يحب الخيول، ويرفض الحديث عن تقنيات الرواية "وبضيف يوسا:" يعود الفضل إلى فلوبير، وجويس، وفوكنر، وثيربانتس في انشاء مكتبتي الشخصية ". تضم المكتبة ايضا "موبي ديك "  لملفيل، و"  الحرب والسلم" لتولستوي، و" مشاهد من حياة إحدى المحظيات" لبلزاك، و "يوليسيس " لجويس ، و  " دون كيخوته  " لسرفانتس ، ومؤلفات الفيلسوف الاسباني  خوسيه اورتيجا أي غاسيت، صاحب الكتاب الشهير " موضوع زكاننا، واعمال ابلروسي برديائييف والابله لدستويفيسكي والتي كانت مهمة جدًا بالنسبة لخ لأنها أعطتني فكرة الرواية ككل، ويضيف يوسا هناك بالتاكيد مئات العناوين وعلى راسها كتب جان بول سارتر وكتابات بودلير ولا ينسلى شغفه بحوزيف كونراد.

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد  اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه،في البداية كنت قلقا جدا،فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار،مسودتي الاولى كانت ضخمة،كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا،وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد،الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 88 " قبل يوم – 28 آذار  قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته التي عززتها القراءة والمشاهدة والعيش مع الكتب واحداث الحياة  اعلن عن اعتزاله الكتابه بعد ان اصدر اخر رواياته "أهدي صمتي"، وفيها يروي قصة رجل حلم ببلد توحده الموسيقى، وأصيب بالجنون راغبا في كتابة كتاب مثالي يرويه. قال في حوار معه:" أودع الرواية، و لا أتصور بأن هذه الحكايات،و التي انتظرت ثلاث أو أربع سنوات لتتشكل، في مكنتها الإحاطة بكل الدقة الضرورية في هذه المرحلة من حياتي.بيد أنه في الواقع سأستمر في الكتابة إلى آخر يوم في حياتي. ففي " أهديك صمتي " وضعت كل ما يعنيه لي بلدي البيرو: انسجامه،حزنه،،هذ الموسيقى التي لديها من العواء و النواح،هكذا أفهم الفالس البيروفي  و ثقافتي. هذه ما يميزنا في العمق، ولذلك، أعتقد أن هذه الرواية من بين ما أكن لها من حب، تصلني بجذوري وهو تكريم لإبداع بيروفي والتي بواسطتها نشعر بالفخر، أو أن أقول لقرائي أن يكتبوا ويقرؤوا دائما، وأن يغتنموا ويستمتعوا بخيالهم كل ما أمكن لهم ذلك" - حاوره:دافيد لامي ترجمة محمد العربي هروشي -

عندما حصل عام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد ".

بعد انفصاله  العام الماضي عن صديقته  إيزابيل بريسلر  يعود يوسا الى منزله في شارع فلورا في قلب العاصمة الاسبنية مدريد : "لقد عدت الآن محاطًا بكتبي" التي يقول انها اصبحت جزءا من حياته الاجتماعية، فالقراءة كما يصفها هي المهنة التي  لن يتعب منها بأية حال من الاحوال.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم