شهادات ومذكرات

وجوه الطب النفسي (2): مارشا لينهان التي لم تمت جبانة

هنالك اليوم حوالي ٤٠٠ طريقة علاج نفسي كلامي لا يملك أغلبها دليلاً علمياً على فعاليته، لذلك لا تذكر الكتب الاكاديمية للطب النفسي سوى تلك العلاجات التي أثبتت فعاليتها ومنها (العلاج السلوكي الجدلي)، وهو ما سوف نركز عليه اليوم أو بالأحرى على مؤسسته (مارشا لينهان). نقرأ في (كُتَيّب handbook أوكسفورد للطب النفسي) أن (مارشا لينهان) ترفض تصنيف العلاج السلوكي الجدلي على انه علاج جديد أو ما يسمى بالموجة الثالثة من العلاج المعرفي السلوكي، بل هي تفضل وصفه على انه (علاج معرفي سلوكي) مضاف إليه (تقنيات التقبل acceptance strategies).

ويبدو أنها من علماء النفس المعاصرين القلائل الذين جرت ترجمة بعض كتبهم للغة العربية مثل كتابيّ (العلاج المعرفي السلوكي لاضطراب الشخصية الحدية)، و(التدريب على مهارات العلاج الجدلي السلوكي: الأدلة وأوراق العمل).

حياة مارشا لينهان الشخصية

إلا أننا نقرأ فقرة تبدو غريبة وفريدة من نوعها في كتاب (شورتر أوكسفورد) الاكاديمي للطب النفسي، فهناك فقرة تمس شخصية (مارشا لينهان) حيث نقرأ: (أن لينهان قد أعترفت حديثاً أن حياتها كانت تسودها سلوكيات مؤذية للنفس: مثل إيذاء النفس، والافكار الانتحارية، وسوء استخدام المواد المخدرة. وأنها كانت تبحث عن طريقة علاجية فعالة من أجل نفسها)، فما وراء تلك الفقرة الغريبة؟

إن تلك الفقرة تشير إلى مقالة نشرت في جريدة النيويورك تايمز عام ٢٠١١، حيث تكلمت (مارشا لينهان) عن تاريخها المرضي الخاص، وقالت بكل صراحة انها قد تم ادخالها للمستشفى النفسي عام ١٩٦١، حين كان عمرها ١٧ سنة، وبسرعة صار العاملون هناك يضعونها اغلب الاوقات في غرفة العزل، التي كانت تعتبر المكان المثالي للمرضى المصابين بأضطرابات شديدة. وقد كانت تؤذي نفسها بأن تحرق رسغها وذلك بأطفاء السجائر على جلدها، وتقطع ساعدها وساقها وبطنها وذلك باستخدام أي اداء حادة تجدها. تكمل قصتها بأن تقول بأنهم قد شخصوها بأنها مصابة بالفصام، واعطوها دوائي (الثورازين) و (الليبريوم)، وكانوا يحللونها نفسياً على الطريقة الفرويدية، وقد عالجوها بالعلاج بالصدمة الكهربائية فأخذت ١٤ صدمة في المرة الاولى، ثم ١٦ جلسة في المرة الثانية. وبعد ذلك كله لم يتغير في حالتها شيء، فكانوا يرجعونها لغرفة العزل ويقفلونها عليها.

وقد نشرت (مارشا لينهان) مذكراتها عام ٢٠٢٠ بعنوان (بناء حياة جديرة بالعيش، مذكرات)، تتكلم فيها عن كل ذلك، وعن ذلك اليوم من عام ٢٠١١ حين رجعت لنفس المستشفى التي دخلت فيه وهي شابة، ووقفت أمام ٢٠٠ شخص هناك لتقدم كلمة حول تجربتها بكل صراحة، وكيف انها حين خرجت من ذلك العلاج الفاشل في تلك المستشفى قررت أن تدرس علم النفس ثم طورت بعد ذلك الطريقة العلاجية المتمثلة بالعلاج السلوكي الجدلي لإيجاد علاج لنفسها ولمن يعاني من نفس معاناتها. تكتب في في أحد أسطر ذلك الكتاب: (لم أرد أن أموت جبانة).4702 التي لم تمت جبانة

العلاج السلوكي الجدلي

تركز (لينهان) على أن نقطة البداية كانت حين أكلمت دراسة علم النفس وصارت مؤهلة للعمل كمعالجة سلوكية، وصارت مهتمة بعلاج المصابين باضطراب الشخصية الحدية والذين كانوا يؤذون أنفسهم، فوجدت أن أهم ما يميزهم هو أنهم كانوا محل انتقاد من أقرب الناس بخصوص انفعالاتهم، فدائما ما يعتبر المقربون لهم أن ما يعيشونه هؤلاء المرضى من انفعالات مبالغ فيه، وأن الأمر لا يستحق كل ذلك. كان أقرب الناس لديهم لا يقدمون لهم الأعتراف بأن انفعالهم جدير بأن يعيشونه.

لو بحثتم عن المقابلات التلفزيونية الكثيرة التي حصلت مع (مارشا لينهان) وتجدونها في اليوتيوب لوجدتم أنها تكرر قول التالي:

أنها في بداية عملها كمعالجة سلوكية مع مرضى الشخصية الحدية وجدت أنها حين تريد أن تريهم أين تكمن المشكلة لكي يبدأوا في تغييرها ينتفض المريض ويقول لها بأنها تنتقده. فغيرت استراتيجيتها معهم بأن تزيد من الاستماع إليهم وأن تتقبلهم كما هم، فكان المرضى يرجعون ويشتكون لها من أن تلك الطريقة  تبدو سلبية جداً فهي لا تبدو بأنها تساعدهم في شيء. وهنا قررت (لينهان) أن الحل يتمثل في موازنة بين الطريقتين، بين قبول المرضى كما هم من جهة، وبين اقتراح تغييرات في سلوكهم وشخصيتهم من جهة اخرى.

وأحد النقاط الأساسية للبدء في العلاج هو ما تمت ترجمته للعربية بمصطلحات مختلفة مثل (التحقق من الصحة)، (احتضان)، (تفهم)، والكلمة في اللغة الاصلية هي (Validation). وربما يمكن عد كلمة (التفهم) هي الأقرب للمعنى المقصود. في (التفهم) كانت (مارشا لينهان) تريد أن تقول للمريض: (إن ما تشعر به جدير بأن تشعر به). وهناك طرق لإظهار هذا (التفهم) مثل: الانتباه للمتكلم بشكل كامل، الانعكاس الذي يتمثل في اعادة الكلمات التي قالها لنؤكد له اننا سمعناه وفهمناه، والمساواة مع المتكلم بحيث نتجنب أن نشعره بأننا أعلى منه، وعدم اشعاره بعدم كفاءته.

لنرجع للكتب المنهجية للطب النفسي فنقرأ من كتاب (كومبانيون Companion) أن العلاج السلوكي الجدلي أثبت فعاليته لعلاج اضطرابات الشخصية اكثر من بقية العلاجات، خصوصا لدى المرضى الذين لديهم اندفاعية عالية واضطرابات في الأكل. وحديث عن بحث (لينهان) عن علاقة ايذاء النفس بالاعتداءات الجنسية في الطفولة، وكذلك ذكر لاحد بحوث (لينهان) الذي قد قدمت فيه مع باحثين اخرين مقياساً لأسباب البقاء على قيد الحياة يمكن استخدامه مع المرضى الذي يؤذون أنفسهم وتتكرر لديهم الافكار الانتحارية.

بقي أن نقول أن أهم ما يشتمل عليه العلاج السلوكي الجدلي هو تعليم المريض ما يسمى بالـ(مهارات التأقلم  Coping skills)، وهي مهارات يجري تعليمها للمريض كي يستخدمها حين يحتاجها وقت التوتر لكي تزيد من قدرته على (المرونة الذهنية Resilience)، وهي أربعة: مهارات (اليقظة الذهنية Mindfullness)، مهارات (العلاقات البين شخصية الفعالة Interpersonal Effective Skills)، مهارات (تنظيم المشاعر Emotional Regulation Skills)، وأخيراً مهارات (تحمل الضغط Distress Tolerance Skills).

خاتمة

ولنحاول أن نجمع الان تعريفاً للعلاج السلوكي الجدلي فنقول أنه علاج يستند إلى عمل موازنة بين تقبل المريض كما هو من خلال (التفهم Validation) من جهة، وبين محاولة اقتراح تغييرات في سلوكه لكي تزيد من (مرونته النفسية Resilience) وذلك باستخدام (مهارات التأقلم Coping skills) الأربعة من جهة أخرى.

تلك كانت مقالة عن (مارشا لينهان)، تلك المعالجة النفسية التي انتظرت إلى أن تثبت بأن الطريقة العلاجية التي أسستها جديرة بأن يتم الاعتراف بها، ثم أتت لترجع وتعترف أنها هي نفسها كانت مريضة صنفت على أنها تعاني من اضطراب شديد، أدخلت للمستشفى لمدة سنتين ولم تتحسن، فابتكرت أخيراً ذلك العلاج الذي كانت تتمنى لو أنهم عالجوها به.

*** 

سامي عادل البدري

......................

المصادر

Guelfi, J. D., Rouillon, F. et Mallet, L. (2021) Manuel de psychiatrie, 4e édition, Elsevier Masson SAS

عبدالله، أحمد عمرو و الشركسي، أحمد صابر (٢٠١٩) العلاج الجدلي السلوكي (بين النظرية والتطبيق). مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات التربوية والنفسية. المجلد (١١)، العدد (٢٩)، كانون أول ٢٠١٩

سيرجيه، نور محمد وليد (الشخصية الحدية لدى المرأة العاملة وعلاقتها بشكبكة العلاقات الأسرية (دراسة ميدانية في مدينة حلب) رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الإرشاد النفسي. إشراف د. فايز الحسين و د. حنان لطوف. العام الدراسة ٢٠١٧/٢٠١٨

لينهان، مارشا (التدريب على العلاج الجدلي السلوكي، الأدلة وأوراق العمل) ترجمة: د. سامي بن صالح العرجان ود. تيسير الياس شواش. دار الفكر. الطبعة الأولى ٢٠٢٠

Johnstone EC, Owens DC, Lawrie SM, Mcintosh AM, Sharpe S, (2010) Companion to Psychiatric Studies. 8th ed. New York: Elsevier

Harrison, P., Cowen, P., Burns, T. & Fazel, M. (2018) Shorter Oxford Textbook of Psychiatry, 7th Ed. Oxford University Press

Semple, R. & Smyth, R. (2019) Oxford Handbook of Psychiatry 4th Ed. Oxford University Press

في المثقف اليوم