شهادات ومذكرات

محمد السعدي: حدث في هزارستون!.

كهف هزارستون تعني بالكردية ألف عامود وفي واقع الحال عبارة عن مغارة تاريخية موغلة في القدم وحادة في سفح جبل سورين، إنه كهف محشور بسلسلة من العواميد تحت مرأى العين المجردة، في الصيف النوم تحت تلك العواميد تشعرك برشفة برد منعشة وفي الليل تخرج أسراب من خفافيش الليل في دورة كاملة حول المكان وفي النهار لاتشعر بها أطلاقاً تنام بصمت، يقع هذا الكهف في سفح حاد ومحاط بالصخور ذات الرؤوس المدببة والجارحة وبوادي عميق في جبل سورين، هذا الوادي ممراً للمهربين وملتقى القوافل في شراء وتبادل البضائع الإيرانية والعراقية بعيداً عن سيطرة الحكومتين، وممشاً أمناً للجنود الهاربين من الجندية العراقية ومن لهيب نار الحرب على جبهات القتال . يبدأ مدخل ممشى الوادي بإتجاه المدن العراقية قرية ”شيرمر ” على الشارع العام بين قصبتي خورمال وسيد صادق . نحن مقاتلي الحزب الشيوعي العراقي في عبورنا الليلي من مناطق شهرزور بإتجاه مقرات الحزب في باني شهر، وهزارستون، ووادي كرجال، وخورنوزان . نمر بقرية شيرمر ونقضي الليل في جامعها أو في أطرافها نقضي طول الليل سهرانيين تحت الاشجار أو داخل ” كرنفان ” كان متروكاً بأطراف القرية بأنتظار الصباح الباكر لنتسلق عبر الوادي صعوداً حاداً بإتجاه مقراتنا .

في ربيع عام ١٩٨٤ تم تنسيبي من مقر القاطع في منطقة كرجال الى موقع هزارستون حيث تنظيمات التنظيم المدني الجنوبية والفرات الاوسط والمنطقة الوسطى، وكنت أنا أصلاً محسوبا على التنظيم المدني لتنظيمات المنطقة الوسطى . موقع هزارستون معزول تماماً وبعيداً عن مقرات الحزب الأخرى أي يفصل بيننا مواقع للجيش الإيراني معززة بعناصر حزب الدعوة داخل الأراضي الوطنية العراقية . في تنقلاتنا اليومية بين جلب المواد الغذائية ونقل البريد الحزبي وقطع الاشجار لغرض الطبخ والتدفئة من البرد القارص، كانوا يعترضوا طريقنا ببعض الاسئلة المعتادة لنا وكنا لم نخفي هويتنا نحن شيوعيين عراقيين معارضين لنظام صدام حسين، لكننا نرفض إحتلال أرض بلدنا الوطنية، مما كان هذا الموقف يثير حفيظة عناصر حزب الدعوة وعناصر التنظيمات الإسلامية الذين يقاتلون مع الجيش الإيراني ضد العراق . في هذا المكان شعرت برفقة وقرب مع رفاق غادرونا الى أعالي المجد في أستشهادهم البطولي .. المرحوم أبو ذكرى مدينة السماوة، الشهيدة أم ذكرى مدينة النجف، المرحوم أبو ناصر جديدة الشط، الشهيد أبو أحمد مدينة بغداد، الشهيد أبو بشرى مدينة السماوة، الشهيد أبو سالار مدينة السماوة، الشهيد أبو أحمد ناحية الدغارة، الشهيد أبو سرمد ناحية الدغارة، الشهيد يوسف عرب مدينة الكوت، الشهيد أبو جلال مدينة الحي، الشهيد أبو علي السماك مدينة الصويرة، الشهيد أشتي مدينة كركوك، الشهيد أبو جيفارا مدينة جلولاء، الشهيد أبو غسان مدينة بعقوبة، الشهيد أبو سهيل قرية الجيزاني، الشهيد أبو قيس مدينة بعقوبة، أبو جهاد مدينة السماوة . كوكبة لامعة من المناضلين الشيوعيين مروا بهذا المكان، تقاسمنا العوز والحرمان ومشروع التطلعات الثورية . أنني مررت على الذين رحلوا لأحيي ذكراهم العطرة والسيرة الحسنة التي تركوها في نفسي برسم مسارات طريقي النضالي اللاحق .

في بدايات ربيع عام ١٩٨٥ كثافة الثلوج على قمم الجبال وسفوح التلال تقل بالذوبان عوضاً عنها زنابق الورود الصفراء والحمراء من بين شقوق الصخور إيذاناً بقدوم الربيع . ذات ليلة من هذا العام عقدنا أجتماعاً لدراسة الاوضاع في المنطقة ومناقشة الوضع السياسي خرجنا بتقييم وتقرير بإنه الوضع هاديء ولاشيء يدعو الى القلق والترقب . وقرر المجتمعون في الصباح الباكر بأنني سأحمل تقرير الاجتماع الى مقر قيادة القاطع في منطقة كرجال خلف قرى ” بيارا وطولا ” . كان آخر الحراس الليلين في الموقع الشهيد أبو علي السماك ” عمر ” ينادي على الجميع في النهوض، رفاق أنهضوا هناك تقدم على المنطقة وقصف صاروخي كثيف على الرواقم الإيرانية من قبل قوات الجيش العراقي . نهضنا جميعاً وأخذنا أستعداد كامل لمواجهة الموقف، وقد تبين من اللحظة الأولى أن القوات العراقية الخاصة بقيادة علي عربيد لقد أحكمت سيطرتها على المرتفعات الجبلية التي تقع في ظهر موقعنا وعبرت القوات العراقية مقرنا من الخلف بإتجاه التسلق نحو الرواقم الإيرانية تحت قصف مدفعي وصاروخي كثيف للتغطية على تقدم القوات العراقية، تركنا موقعنا وحملنا معنا أشياءنا المهمة والخفيفة وتوزعنا على قمم الجبال والوديان بإتجاه مقرات حزب ” الباسوك ” حليفنا في جبهة جود ولم نجد أحداً من مقاتليه لقد أنسحبوا في بطن الليل لتلقيهم معلومات مسبقة عن تقدم الجيش العراقي ولم يبلغوننا ونحن في جبهة قتال واحدة ضد النظام العراقي، أما التقرير الذي كنت أحمله في ”العليجه ” حقيبتي الشخصية بتقييم الاوضاع قبل عدة ساعات لقد مزقته بوصية من الرفاق . بعد عدة ساعات تمكنت قوات الجيش العراقي من إحتلال المنطقة بالكامل وسحق كامل للقوات الإيرانية الأ من أستطاع الهرب، وكنا نرى بأم أعيننا القوات العراقية ترمي الجنود الإيرانيين وهم أحياء الى عمق الوادي ولا يكسر سكون الوادي آنذاك الا صوت الاستغاثة والتوسل وفي خضم هذا المشهد صادفنا ضباط إيرانيين تمكنوا أن ينجوا بجلودهم وطلبوا مني ناظوراً كنت أحمله ليروا مصير جنودهم . في ختام المشهد إنسحبنا الى موقع مقر الفوج التاسع في منطقة ” باني شهر ” وبعد تقييم سريع للموقف بعثناه الى قيادة مقر القاطع بقيادة أحمد باني خيلاني”أبو سرباز” إبراهيم الصوفي”أبو تارا” محمد النهر”أبو لينا” تلقينا جواباً سريعاً لا ينم عن دراية وتقييم جدي للاوضاع العسكرية والسياسية في المنطقة تقول البرقية ! أن أنسحابكم بهذه الطريقة وترك خلفكم أشياء ثمينة طبعاً الاشياء الثمينة، كانت هي تسعة صواريخ بازوكا فاسدة يعد هزيمة كبيرة أمام أهالي القرى وجماهير الحزب وما عليكم الا العودة الى الموقع وسحب الصواريخ تحت جبهة حرب ساخنة ونية إجتياح كامل للمنطقة وهذا ما حدث بعد شهرين لم يعد لنا مقراً في المنطقة ونزوح كامل الى مناطق”شرباجيير” . عدنا أربعة رفاق الى موقعنا في هزارستون تحت عتمة الليل والقصف والتنوير والانتحار، ولقد وجدنا قتلى جنود داخل مقرنا وحملنا معنا بعض الاشياء التي لم يلتفت لها الجنود العراقيين عندما دخلوا موقعنا  لنعيد بها وجه الحزب كما ذيلت تلك البرقية الا صواريخ البازوكا التي صادرها الجيش في نفس الليلة، وكنا في مواجهة حقيقية مع الموت . تلك واحدة من التجارب المهمة في حياتنا كأنصار شيوعيين .

***

محمد السعدي

آب 2023

في المثقف اليوم