شهادات ومذكرات

علي حسين: محمد درويش الذي ادخلني عالم دوريس ليسينج

كانت برفقة ابنها الكبير "بيتر" تتسوق عندما توقفت سيارة الاجرة امام منزلها،المرأة التي تبلغ من العمر آنذاك " 88 " عاما وجدت صعوبة في الخروج من السيارة السوداء، انحت قليلا، يكاد الوشاح الاحمر الذي تضعه على رقبتها يفترش الارض، انتظرت قليلا، قبل ان تشاهد مجموعة من الصحفيين يتزاحمون امام بيتها، قال لها احدهم: هل سمعت بحصولك على جائزة نوبل؟، لم تكن قد عرفت الخبر، ولهذا لم تبد عليها علامات الدهشة، تركت الصحفيين والمصورين لتلتفت الى سائق السيارة يعيد لها المتبقي من الاجرة، ثم انشغلت بالسلة التي تضع فيها الخضروات، بينما خرج الابن وهو يحمل عنقودا كبيرا من البصل، تعود لتسأل: ما الذي يفعلونه امام بيتها، قال احدهم: يبدو انك لم تسمعي الاخبار جيدا، لقد فزت بنوبل قالت بصوت مسموع " اوه.. يامسيح "، تجلس على دكة البيت، تقلب في سلة التسوق وكأنها تريد ان تقشر البطاطس طلبت من ابنها ان يجلب لها قدحا من الماء من داخل المنزل.. قالت للصحفيين ما ذا يريدون منها ان تفعل وهي تسمع خبر فوزها بجائزة كانت تستحقها منذ سنوات.

في اليوم التالي، اجرت معها لجنة نوبل مقابلة قالت فيها أنها لم تتفاجأ على الإطلاق بفوزها، لانها تستحق الجائزة واضافت ان هذا الامر لن يحدث تغيرا في حياتها، ستذهب كالعادة كل صباح لتتسوق بنفسها، فهي ماهرة باختيار انواع الخضروات.. وعن اهتمام الصحافة والنقاد بها بعد الفوز قالت: سيفقد الجميع الاهتمام خلال شهر أو شهرين، مضيفة: لا يمكنهم قضاء كل وقتهم في إجراء مقابلات. وليس لدي وقت لكل ذلك. لذا فإن مشكلة نوبل ستحل نفسهابنفسها.

كنت اجلس في المكتبة في احدى نهارات عام 1978 اتصفح مجلة الاقلام،عندما وقع نظري على اسم دوريس ليسينج، كان عنوان المقال يتكون من كلمتين " دوريس ليسنج " واسم كاتب المقال محمد درويش، كانت المرة الاولى التي اعرف فيها ان هناك كاتبة انكليزية مشهورة اسمها دوريس ليسنج، آنذاك كانت حصيلتي من قراءة الروايات التي تكتبها النساء تنحصر بين شارلون برونتي وشقيقتها اميل برونتي صاحبة الرواية التحفة " مرتفعات ويذرنغ "، وجين اوستن، والامريكية بيرك باك الذي ادهشتني بروايتها " الارض الطيبة " وهيرت ستو و " كوخ العم توم "، ومارغريت ميتشل التي شاهدت الفيلم المقتبس عن روايتها " ذهب مع الريح " قبل ان اقرأ الرواية. اما كاتب المقال " محمد درويش "فقد قرأت له من قبل عدد من المقالات عن الادب ينشرها في الاقلام، وكنت اعتقد انه كاتب لبناني، عندما انتهيت من قراءة المقال قررت البحث عن روايات السيدة ليسنج، وسافشل في الحصول على رواية مترجمة لها، ومع مرور الايام والشهور نسيت السيدة ليسينج، إلا ان وقع بيدي ذات يوم كتاب بعنوان " دراسات تمهيدية في الرواية الانجليزية المعاصرة " للناقد والمترجم المصري رمسيس عوض، وكنت في ذلك الوقت اقتني اي كتاب عليه اسم رمسيس عوض، حيث قرأت له كتبه الممتعة عن برتراند رسل، في الكتاب الجديد فصل خاص عن دوريس ليسنج واهميتها. تمر الايام والسنين فإذا بي ذات يوم اجد نفسي قبالة صاحب مقال دوريس ليسينج، محمد درويش، في ذلك الوقت كان صاحب المكتبة التي اعمل فيها وهو قريب لي، مهتما بالكتب الاجنبية سواء الادبية او الفنية او العلمية، وقد خصص جناحا ضخما لعرض هذه الكتب ومنها سلسلة بنغوين التي كانت تقدم روائع الادب الكلاسيكي، كان الزبون الذي يمعن النظر في الكتب الانكليزية رجل في الثلاثينيات من عمره، بشرته مائلة الى الاحمرار، قامته طويلة، عيناه تتحركان بين عناوين الكتب، تبدو على ملامح وجه ابتسامة خفيفة غير معلنة، بعد دقائق من تصفحة الكتب، التفت الي ليسأل عن نسخة من رواية " ابناء وعشاق " للورنس، وقبل ان اجيب قال: انه وجد نسخة عند الاستاذ يوسف عبد المسيح ثروة وقد اخبره بانها اشتراها من هذه المكتبة، قلت له ان الرواية نفذت، وكالعادة استعرضت عضالاتي على الزبون فاخبرته بان هناك طبعة عربية لها عن سلسلة روايات الهلال، وانني قرأتها واخذت اتحدث عن اعجابي بلورنس ه، ابتسم الزبون وهو يقول لي بصوت خفيض: لكن الترجمة لم تكن جيدة حذفت منها الكثير من فصول الرواية، انتبهت الى ان الزبون الانيق لديه معلومات هائلة عن الادب، قررت ان اطلب له قدحا من الشاي لاواصل حديثي معه، قال لي انه مترجم وكاتب وان اسمه محمد درويش، ما ان نطق بالاسم حتى قلت له: كنت اتوقع انك لبناني ضجك ضحكمة قصيرة، انتهزت الفرصة لأساله عن دوريس ليسنج فاخبرني انه بصدد ترجمة احد رواياتها، وهي اشبه بالسيرة، سالته اسئلة كثيرة لا اتذكرها الآن، بعدها غادر، لكنه سيصبح زبونا فيما بعد زبونا استقبله بين الحين والاآخر، ذات يوم سيفاجئني وهو يحمل بيده كتاب قائلا: احضرت لك دوريس ليسينج التي صدعت رأسي بها، كان الكتاب رواية " مذكرات من نجا ".

بعد سنوات يزورني الصديق كامل عويد في صحيفة المدى ومعه محمد درويش الذي كان يتابع ما اكتبه في الصحيفة، وذكرني بعامل المكتبة الشاب الفضولي الذي لا يتوقف عن الاسئلة. كان محمد درويش الذي رحل عن عالمنا قبل اكثر من عشرة ايام، طرازا فريدا من المترجمين المبدعين الذين تتنوع ترجماتهم، ولا شك ان قدرته على تقديم النصوص المترجمة بلغة تقترب من النص الاصلي هو اول ما يلفت انتباه من يقرأ ترجماته، والتي تنوعت بين الرواية والنقد والسير الذاتية، كان فيها يدهشنا حين يصل بين الرواية، والنقد الادبي والشعر والاقتصاد، مقالات فيها خلاصة تجربته في قراءة الادب والثقافة العالمية، والواقع ان انتاج محمد درويش اشبه بوحدة متناغمة العلاقات، لو نظرنا اليه من منظور دلالة الكتب التي ترجمها والتي شغلت فكره، وظلت تشغله منذ ان تخرج عام 1971 من قسم اللغة الإنكليزية في كلية التربية جامعة بغداد، وحتى حصوله على الماجستير في علوم الترجمة من جامعة هيريوت وات، الى مناقشته لرسالته للدكتوراه والتي كانت عن فلسفة اللسانيات والترجمة، الى مفارقته عالمه المدهش الترجمة ليرتحل عن العالم. اعني دلالة التميز التي كان محمد درويش يصبو لها، وحاول ان يجسدها في كل ما قدمه من ترجمات وكنب كانت اسلحته في مواجهة اهمال المؤسسات الرسمية في السنوات الاخيرة والمرض الذي حاصره. لكنه رغم ذلك اصر ان يجعل من اسمه علامة بارزة في تاريخ الثقافة العراقية.

كتبت دوريس ليسينج أكثر من خمسين كتاباً، وفي كل مرّة تقول لنفسها هذا هو الكتاب الأخير، ظلت صورة أمها الممرضة ترافقها حتى الساعات الأخيرة من حياتها، تقول: " كان قلبها دافئاً ولكنها لم تكن حساسة. من المحتم أن تمريض المجروحين كان أشبه بالجحيم. يصلون بعربة لوري، وبعضهم مات فعلياً. المحتم أن هذا مزّقها، تقدير ذلك أخذ مني وقتاً طويلاً".

تقول لكاتب سيرتها إنها تربّت على الحروب عن طريق والدها الذي كان جندياً في الحرب العالمية الأولى، وقد بترت له الحرب إحدى ساقيه: " كان أبي يتحدث عن الرجال الذين عرفهم وماتوا في معركة باشانديل حتى اليوم الذي مات فيه. كان يتساءل دوماً إن كان من الأفضل أن يموت معهم، ولكن على الرغم من ذلك لم يجعل الإصابة تعيقه، كان يفعل كل شيء"، ظلت الحرب تجثم على صدرها، وفي الرابعة والثمانين من عمرها ستقف أمام الكاميرات لتعلن إنها تكره الحرب مثلما تكره توني بلير – كان آنذاك رئيساً لوزراء بريطانيا: " كثيرون منا يكرهون توني بلير. أعتقد أنه كان كارثة لبريطانيا وقد عانينا منه لسنوات عديدة. لقد قلت ذلك عندما تمّ انتخابه: هذا الرجل رجل استعراضي صغير سوف يسبب لنا مشاكل وقد فعلنا، وبالنسبة لبوش، فهو كارثة عالمية. الكل سئم من هذا الرجل. إما أنه غبي أو ذكي للغاية، رغم أنه يجب عليك أن تتذكر أنه عضو في طبقة اجتماعية استفادت من الحروب".

تقول إن الحرب سمّمت طفولتها، وجعلتها متشائمة. تحس بثقل الحرب يزداد مع تقدمها في العمر: "سأفرح عندما أموت لأن ذلك سينقذني من القلق تجاهها". دهشتها قدرة الكاتب الالماني إريك ماريا ريمارك، على تصوير مآسي الحروب قرأت له "كل شيء هادئ في الميدان الغربي "،، لكنها أغرمت برويته " الرفاق الثلاثة " والتي تتحدث عن ثلاثة جنود ألمان يعودون بعد الحرب الى بلادهم ليروا الناس

دوريس ليسينج التي رحلت عام 2013 ظلت خلال الـ 94 عاماً التي عاشتها شاهدة على العصر الحديث بكل تناقضاته وتقلباته.. حياة ابتدأت من الحرب العالمية الأولى وامتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين لترى أفول نجم الشيوعية التي آمنت بها في بداية حياتها لتشاهد على شاشات التلفاز كيف انهار جدار برلين.. سنوات طويلة من زمن الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس الى زمن ديفد كاميرون.- رئيس وزراء بريطانيا في العام الذي توفيت فيه ليسينج -.

امرأة كتبت ضد العنصرية والاستعمار وناضلت في سبيل فضح جرائم الفصل العنصري واضطهاد المرأة، عاشت لاتعرف سوى الأدب طريقاً للحياة، كتبت بقسوة ضد الاستعمار والرأسمالية والجرائم التي ترتكب باسم الديمقراطية وخاضت معارك لا تنتهي في سبيل الحركة النسوية، تأتيها نوبل بعد أن سأمت من كل شيء وقررت أن تعتزل الكتابة رافضة عرض الملكة البريطانية بمنحها لقب سيدة الامبراطورية البريطانية حين ردت على صاحبة العرض بأن الامبراطورية لم تعد موجودة.. عاشت حياة أشبه برواية من رواياتها، فما بين مولدها بأيران في الثاني والعشرين من تشرين الاول عام 1919 من أبوين بريطانيين، الأب كان يعمل نقيباً في الجيش، والأم تمارس مهنة التمريض، فتحت عينها لتجد والدها وقد أصيب في الحرب العالمية الأولى فخرج منها مبتور الساق.. لايحظى بحب أمها وإنما بعطفها.. يعشق المغامرة وينتظر أن يرحل بأسرته ليبحث عن الثروة والحياة الجديدة..في جنوب أفريقيا عاشت دوريس حياة شاقة جعلتها تقول عنها في مذكراتها بأنها كانت سنوات الخيبة لكنها تحملتها بشجاعة وكبرياء، كانت طفولتها كما تصفها جرحاً مفتوحاً يسير على قدمين مما دفعها أن تجعل معظم أبطال روايتها يعيشون حكايات صعبة وذكريات أليمة مع سنوات الطفولة.. تعترف أن وعيها تفتّح حين قررت أن لاتكون مثل والديها: الرجل المقعد والمرأة المريضة بالوساوس.. ألا تقع في شرك النمطية، غذّت في داخلها روح الثورة والتمرد على الأوضاع، تعترف: " لقد صنعت لنفسي يوتوبيا خاصة، كان الأدب جزءاً منها أردت أن أقول للعالم ماذا لو جعلنا الظلم والفقر والحرب أموراً مستحيلة بالتأكيد إن الحياة سوف تكون أجمل وتمتلىء بالناس الرائعين".. تقرر أن تعيش حياة التمرد على سلطة الأم المهووسة بالنظام واحترام التقاليد فتهجر مدرسة الراهبات في الثانية عشرة من عمرها، ثم بيت أهلها وهي في الخامسة عشرة من عمرها لتعمل مساعدة ممرضة. تقرأ الكتب التي تستعيرها من الأصدقاء.. إنها سنوات الضياع والحرية والحب. في بداية الثامنة عشرة من عمرها تتزوج من أحد زملائها في العمل. وفي الحياة الجديدة سوف تجد مجتمعاً متغيّراً تواصل من خلاله السعي لتجد ذاتها، تنضم الى الدوائر السياسية وتعتنق الأفكار اليسارية ويدفعها حبها للحياة الى مغادرة مجتمع جنوب افريقيا لتبحر صوب لندن فتصلها في العام 1949 وهي تحمل معها طفلاً رضيعاً ومسودة أولى روايتها " العشب يغني" التي تروي فيها حكايات عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.. تنشر الرواية عام 1950 لكن كان على دوريس أن تنتظر اكثر من عشر سنوات حتى يعنرف بها الوسط الثقافي في لندن بعد أن تقدم روايتها " المفكرة الذهبية – ترجمت الى العربية لعنوان " الدفتر الذهبي " - التي صنعت شهرتها الأدبية وقدمتها كواحدة من المناضلات في سبيل حرية المرأة من خلال تقديم شخصية امرأة عصرية بعمق وتفاصيل مثيرة، وقد رأى فيها البعض سيمون دي بوفوار بنسخة إنكليزية

تكتب في سؤال حول نظرتها لقضايا المرأة: " ما أتمناه هو حصول المرأة على الاستقلال، بحيث لا تكون عبدة للرجل ولا للمرأة المسترجلة. حاولت في روايتي أن أخلق امرأة تقترب من هذا النموذج: حرة، ومستقلة، وأما حنونة، إنسانية دون أن تكون عاطفية، وذكية دون أن تكون متعجرفة. "

مرحلة السبعينيات والثمانينيات مثلت تطوراً جديداً بالنسبة لدوريس ليسينج حيث تحوّلت كتاباتها الى مرحلة النضوج والتأمل عبرت عنها رواياتها " بيان مجز وخماسية العنف ومذكرات مَن نجا والحب مرة أخرى وتقرير عن الجحيم "، لتصبح حكوائية للتجربة النسائية من الطراز الرفيع تروي معاناة المرأة بدقة وشفافية بدءاً من الإرهابية عن امرأة برجوازية ضجرت من حياتها والتحقت بصفوف الجيش الآيرلندي، الى " الجدات" عن سيدتين كل منهما تعيش قصة حب مع ابن الأخرى وصولاً الى " أعذب الأحلام " التي تقدم لنا فيها نفسها بأنها المرأة القادرة على تصوير أوضاع العالم بلغة شفافة. إنها المرأة التي تركت كل شيء..الأهل والمدن والايديولوجيات لتكتشف الحياة بصورة أكثر نقاء ولتؤكد لنا وقد تجاوزت التسعين من عمرها إن الإبداع لايشيخ وإن الموهبة الحقيقية تظل ساطعة طوال السنين.

كتب سومرست موم مقالاً عن رواية دوريس ليسينج " العشب يغني " أكد فيه أن هذه الرواية وصفت طبقة جديدة من البشر، الطبقة التي تعاني من الاضطهاد، دون أن ينتبه لها أحد، وقد تنبأ موم بمستقبل ليسينج، واعتبر نفسه محظوظاً إنه عاش ليقرأ مثل هذا الأدب.

في آخر حوار معها قالت للمحرر الأدبي لصحيفة الغارديان إنها لاتجد إجابات شافية حول وظيفة الكاتب في هذا الزمن لكنها تعتقد إن: " من واجب الكتّاب، إذا تعاملوا مع مهنتهم بصورة جادة، أن يضعوا أصابعهم على مواطن جروح زماننا، ولكن هذا ليس كافياً. كل منهم يستطيع إيجاد العيوب في الظروف السائدة ومن السهل أن يغدو مثل هذا العمل صرعة. في رأيي، يتحتَّم على المؤلِّف أن يصبح، بعض الشيء، شبيها بالنبي، يقتفي الخلل قبل أن يغدو ماثلاً للعيان، ويفقه الموضوع قبل أن يصبح نزعة سائدة، شاحذاً حسّه وحواسه لاستشعار أدق ذبذباته ".

في العام 1962 تنشر دوريس ليسينج روايتها " المفكرة الذهبية " – ترجمها الى العربية الراحل الكبير محمد درويش، وله الفضل في ترجمة العديد من اعمالها -، والتي حظيت باهتمام كبير وأثارت كثيراً من الجدل دفع دوريس لأن تقول: " إن الجدل حول الرواية يبدأ منذ يوم مولدها وهكذا بدأ الأمر مع المفكرة الذهبية "، كانت ترغب أن تكتب عن حياتها، عن السنوات التي أعقبت الحرب، وضعت تولستوي نصب عينيها، إنها تريد أن تكتب ملحمة قريبة من الحرب والسلم، تعتبر ستندال وتولستوي بأنهما " أخوايّ في الدم "، لكنها هذه المرّة لن تكتب تاريخاً للحرب ولا للبلدان، وإنما صورة لحياة امرأة ذكية، لكنها محبطة.. تقول في مقدمة الرواية: " اعتقد أن الماركسية كانت المحاولة الأولى في عصرنا، خارج نطاق الأديان السماوية، لتشكيل قوة أخلاقية عالمية "..المفكرة الذهبية على حد تعبيرها ليست بوقاً لعملية تحرير المرأة، إنها تصف الكثير من العواطف الأنثوية وتضع العداء والكره والظلم والتحرر مطبوعاً على الورق.

بطلة الرواية " آنا " امرأة متمردة على واقعها، كتبت رواية أولى حققت نجاحاً كبيراً لكنها تحتقر هذا النجاح، وتنظر باستخفاف الى روايتها، إنها اليوم قد غادرت الشيوعية وأوهامها باقامة المدينة الفاضلة، وتريد أن تكتب رواية جديدة، لكنها بدلاً من ذلك تملأ أربع مفكرات بأربعة ألوان بالعديد من الملاحظات، فهناك المفكرة السوداء التي تسجل فيها حياتها في روديسيا، والمفكرة الحمراء التي تخصصها لحياتها المضحكة والمبكية عندما كانت تعمل في السياسة وتتعرض للاعتقال، والمفكرة الصفراء تكتب فيها رواية عن حياة متخيلة وعن الأحلام التي رافقتها في شبابها، والمفكرة الزرقاء وفيها نتعرف على مواقف من حياة " آنا" ونظرتها الى زيف الصحافة وكونها أشبه بجلاد يريد أن ينتقم من الآخرين، وأخيراً هناك قسم صغير يدعى المفكرة الذهبية وفيه تحاول بطلة الرواية " آنا " أن تولّف بين هذه المفكرات المنفصلة، لتقدم لنا سرداً أشبه بشريط سينمائي عن حياتها، حياة دوريس ليسينج.

تؤكد ليسينج إن مهمتها كروائية ومدافعة عن حقوق الإنسان كانت: " جزءاً من واجبنا بأن نؤكد لأي شخص وبأية وسيلة مهما كانت صغيرة بأن الحياة ما هي إلا مغامرة رائعة.. أشك إن كان أي شخص من الناس من الذين نتبنّاهم، سينسون حجم القناعة المطلقة عندنا بعظمة الحياة، لإننا إن لم نأخذها، بالإيمان، سنأخذها بالمبدأ "

رفضت أن توصف روايتها " المفكرة الذهبية " بأنها دفاعاً عن الحركة النسوية ودعوة لتحرير المرأة، فهي تريدها أن تكون سجلاً لتحولات البطلة وهي تعيش في أكثر من مجتمع، فيما عدّها النقاد تعبيراً عن التفكك في حياة المجتمع ومحاولة للاندماج والتكامل. فعندما يسأل تومي وهو أحد أبطال الرواية " آنا " عن السبب الذي يدعوها الإحتفاظ بخمس مفكرات متفرقة، وكان بإمكانها الجمع بينهما في مفكرة واحدة يمكن تقسيمها إلى أقسام أجابت آنا إن هذا سيؤدي إلى نوع من الفوضى..حياة بطلة الرواية إنها أشبه برحلة أوديسيوس في البحث عن الهوية التي تناسبها في مجتمع بات يرفض الهوية الواحدة، فالمرأة المتحررة التي تتحدث عنها الرواية لم تعد متحررة بعد كل هذا، فهي في نظر الذين يؤمنون بالزواج ومؤسسته أصبحت تعني العاملة والأم الوحيدة أو تلك التي تقيم علاقات حرة مع الرجال.

حوّلت " المفكرة الذهبية" دوريس ليسينج الى أيقونة معارِضة تدعو للمساواة بين الجنسين، تكتب إن: " تقريراً علمياً يدّعي أن النساء كنّ الأصل البشري الأساس وأن الرجال جاءوا معهن متأخرين بكثير"،

ربما كانت لندن عند صدور المفكرة الذهبية مكاناً قاسياً بالنسبة لإمرأة مطلقة مثل دوريس ليسينج، إلا أن الادب عرّفها الى مجموعة من كتـّـاب وفنانين غاضبين اطلق عليهم جماعة " جيل الغضب " كانوا يؤسسون لثورة ثقافية وفنية سواء في مجال الرواية او المسرح او الرسم، وتقول ليسينج عن تلك الفترة " لقد كان وضعاً جذاباً جداً وظريفاً جداً ورائعاً، وكنت أتواجد هناك عصر كل يوم وكنت مستغرقة، ولسوء الحظ كانت لدي مسؤولية ميؤوس منها فلم أكن أستطيع الخروج ليلاً ولم أكن أستطيع تحمل تكاليف جليسات الأطفال، الحمد لله".

تكتب الروائية مارغريت آتوود: " كانت أول معرفتي بدوريس ليسينج عن طريق روايتها " المفكرة الذهبية " التي حملتها مع كتبي الجامعية في باريس عام 1963 حينما كنت أدرس هناك حيث اعتدت الجلوس يومياً على أحد مقاعد حدائقها لأهضم معها قطعة من التوست الفرنسي التي احتوت على الجبن وكارتونة صغيرة فيها عصير البرتقال، كان هذا جزءاً من غذائي اليومي الذي وصفه لي الأطباء بسبب ما أعانيه من مرض في المعدة كما كانت تفعل الروائية الإنكليزية أليسون كننغهام التي تعلمت منها كيف أسيطر على ذلك المرض،إضافة لتلك الرواية التي كانت مهدئاً لنفسي العليلة بما بثته من تجربة غنية مرّت بها الكاتبة ليسينج في حياتها حتى أبدعتها بهذا الشكل من التألق والإبهار. كان انصهاري مع رواية ليسينج شيئاً عجيباً حيث أنستني رجل الشرطة وهو يقف فوق رأسي ليقول لي إن الاستلقاء على مقاعد الحديقة بهذا الشكل يعد مخالفاً للقانون في هذه الساعة، لذلك كان عليّ أن أجد مكانا آخر لقراءتها،فكنت أصحبها معي المقاهي التي أرتادها وبعض الحانات، استطاعت الرواية بالتالي أن تفتح عيني على مشاكل المرأة منذ ثلاثينيات القرن الماضي خاصة ما يتعلق منها بقضية تحديد النسل وحتى قبل أن يشهد عصرنا انتشار التنورات القصيرة، هي سبقت نقاشاتنا في الكثير من المسائل التي كنا نعتبرها جريئة عند اجتماعنا على مائدة العشاء في تورنتو أيام مراهقتي وكأنها كانت تتنبأ بما سيحصل للمرأة لاحقاً ".

نقول " آنا " بطلة المفكرة الذهبية: " ان كل شيء يتصدع " تكتب دوريس ليسينج: " لا شيء اكثر قوة من هذه العدمية، استعداد غاضب لرمي كل شيء جانبا، الارادة، والتوق ليصبح جزءاً. هذه العاطفة هي احدالاسباب القوية التي ساعدت على استمرار الحرب. الناس الذين قرأوا ( جبهات الحرب ) ستذكى فيهم هذه العاطفة وان لم يدركو. لهذا السبب انا خجلة، واشعر دائما وكانني ارتكب جريمة ".

في معظم روايات دوريس ليسينج نقرأ عن التمرد وتشرذم المجموعات السياسية، وتجاذب الحقيقة والكذب، والحماس الاخلاقي والسخرية، وتعترف ليسينج ان الرواية كشكل لم تعد مقنعة، فالمجتمعات الكبرى التي انتجت روايات كبيرة قد تهاوت، وهذا ما يدعو الكتاب بان ينبهوا القراء : " أن ارض المجتمع تهتز تحت اقدامهم ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم