شهادات ومذكرات

بهجت عباس: قصّة وقصيدة.. ذكريات من العهد الملكيّ (الجميل!)

بعثة وزارة النفط

بعد حصولي في بكالوريا الدراسة الإعدادية على معدّل 78% عام 1953، وهذا ما يؤهّلني للحصول على بعثة وزارة النفط إلى بريطانيا، حيث كان يُقبل كل طالب يحصل على معدل لا يقلّ عن (75%) في السنين السابقة. وعلى هذا الأساس قدمت طلباً للالتحاق بهذه البعثة وكانت مقابلة.

كان موعد المقابلة في صيف تلك السّنة (1953) في مديرية شؤون النفط العامة الواقعة في شارع أبي نواس. وكانت لجنة المقابلة متكوّنة من الدكتور أحمد حقي الحلّي (مدير الكتب والمناهج والامتحانات في وزارة المعارف حينذاك) والذي سيرد اسمه في محكمة الشعب – المهداوي التي شُكّلت بعد ثورة 14 تموز 1958 بتهمة التجسّس على الطلاب في لندن، وإبراهيم الألوسي (مدير المعادن في وزارة النفط) والمستر هوفـر (ممثل شركة النفط البريطانية في كركوك) . كان يُنادى على الطلاب واحداً واحداً. فيدخل الطالب للمقابلة، وعند خروجه من المقابلة نسأله عمّا سئل وماذا أجاب. مثلاً، كان أحد الطلاب قصير القامة نحيف الجسم، سُـئِل عن الفرع الذي يرغب بدراسته، فأجاب: هندسة الطرق، فقال له إبراهيم الألوسي: كيف تستطيع أنْ تحمل الأنابيب الحديد والموادَّ الثقيلةَ وأنت بهذا الجسم؟ فأجاب الطالب: سأكون مهندساً وليس حمّالاً، فرسب في المقابلة . ولم يُقـبَلْ أيضاً الطالب النجفي السادس في التسلسل على العراق، والذي كان معدّله 86% . لكنَّ طالباً (ابنَ وزير) سُئل: بيش (بكم) تشتري كيلو الشاي وربع كيلو السكر (والعكس هو الصحيح، حيث كان الشاي يباع بربع الكيلوغرام والسكر بالكيلوغرام، لكنهم أرادوا أن يعرفوا فيما إذا انتبه إلى هذا التضليل)، فقال لهم لا أدري، لأني لا أذهب للتسوّق. وكان يجيب على كل سؤال يسأله مستر هوفـر بـ I don’t know ، فقال له إبراهيم الألوسي عندما تذهب إلى لندن ستتعلم ! فَـقُـبِلَ. وجاء دوري مباشرة بعد هذا الطالب. سألني إبراهيم الألوسي فيما إذا كنت أدرس وحدي أو مع مجموعة طلاب، أجبته وحدي. فسألني لماذا وكيف؟ أليس لك أصدقاء؟ طبعاً لديّ أصدقاء، أجبتُه، ولكني أفضل الدراسة وحدي وخصوصاً في الأسابيع القريبة من الامتحانات خوفاً من ضياع أوقات في نكات وأحاديث لا علاقة لها بالدراسة، فـفي هذه الحال أحبّ العزلة. قلت ذلك وأنا لا أقصده، لأن الحكم كان عسكرياً حينذاك على إثر انتفاضة تشرين عام 1952 وتسلّم الفريق نور الدين محمود السلطة، ولأنَّ مدينة الكاظمية اشتهرت بسمعة الشيوعية، بل كانت تُسمّى (موسكو الصغيرة!)، فكلُّ (كظماوي) كان مشكوكاّ فيه إلى أن يُـثبِتَ براءته! فأيُّ اجتماع مع طلاب أو غيرهم يُحسَبُ تجمعاً سياسيّاً له عواقب غير محمودة. فقال لي: كيف إذاً تستطيع العيش في لندن وأنت تُحِبُّ العزلة؟ وعليك الاختلاط بالطلاب والناس لتتعلم اللغة. أجبته بأن الحال في لندن مختلف . سألني بعد هذا، وما أزال أتذكر سؤاله حرفياً إلى هذه اللحظة: سيد بهجت أنت قضيت الثانوية في الكاظمية، فأين قضيت المتوسطة؟ أجبته على الفور وبتحدٍّ وأنا أعرف ماذا سيكون: في الكاظمية أيضاً! أما الدكتور أحمد حقي الحلّي، فأعطاني ورقة فيها خطان متوازيان بسهمين متعاكسين في نهايتيهما  (خداع النظر)، وسألني: أيّهما أطول؟ قلت له ربما يكونان متساوييْن عند النظر أو ربما الأعلى أطول.  فقال: مرة تقول متساويان ومرة تقول واحد أطول من الآخر. لم يسألني أيَّ سؤال بعد هذا. أما المستر هوفـر فسألني باللغة الإنكليزية: لماذا اخترت الكيمياء الصناعية؟ أجبته بأنَّ بلادنا تحتاج إلى مشاريع صناعية أولاً، ولأنَّ لي ولعاً وقدرة لدراسة الكيمياء ثانياً . طيب، ومن تعرف من علماء الكيمياء؟ أعرف همفري ديفي،  ذكرت له هذا الاسم بالذات لأنه إنگليزي، وفي الواقع كان عالماً مكتشفاً. سألني: تكلم عن حياته. ولما كنت قد قرأت قبل هذا بأشهر قلائل كتاب الهلال (قصة العناصر في الطبيعة)، وهي سلسلة شهرية في حجم صغير كان يصدرها الكاتب المصري جورجي زيدان مؤسس دار الهلال في مصر في الخمسينات من القرن الماضي . ذكرت له بعض الأشياء عن حياته واكتشافه الصوديوم والبوتاسيوم عام 1807 وقلت له بأنه قال حكمة عظيمة تدل على علمه وتواضعه. سألني ما هي؟ أجبتُ: أستطيع أن أذكرها بالعربية وليس بالإنگليزية، فوافق بعد احتجاج، فذكرتها بالعربية وترجمها الألوسي له إلى الإنگليزية فأعجب بها، والحكمة كما أتذكرها هي: "كلما توغلنا في الطبيعة وجدنا أنَّ أشياءً كثيرةً لم تكتشف بعد، فما أقلَّ ما نعلم، وما أكثرَ المجهولَ الذي لم نتوصل إلى اكتشافه بعد." فقال لي بعد سماع ترجمتها: very good، ولكنّي لم أستبشر خيراً حيث أعرف أنّ الأمر ليس بيده، وهكذا كان. فلم أُقـبَلْ، حيث حصلت على درجة 3 من 10 من كلٍّ من العراقييْن، الحلّي والألوسي، وعلى 7 من 10 من مستر هوفـر، فكان المجموع 13 من 30. وكانت أقلُّ درجة ناجحة هي 14 من 30 ! أما سبب عدم قبولي فكان (لا يستطيع العيش في لندن لأنه انعزالي !)

كانت المقابلة (غربلة) حقاً، فقد اختير 37 طالباً من مجموع 59 طالباً والمفروض أن يكونوا خمسين طالباً مقبولاً حسب السنين السابقة. هل كانت القضية طائفية؟ أم سياسية؟ أم كلتيهما؟ ربما لعبت الطائفية بعض الشيْ، ولكنّ المسألة كانت سياسية أكثر مما هي طائفية. ولم يكن الطلاب المتجمّعون من جميع أنحاء العراق للمقابلة طائفيين، بل كان الواحد منهم يساعد الآخر دون أن يعرف من هو ومن أين أتى، وإلى أيِّ جهة ينتمي. كانوا متحمسين للبعثة والدراسة في بريطانيا وكفى. والواقع أنَّ معظمَ مَنْ قُبِلوا كانوا من أبناء الذوات والنخبة.

كان عدم قبولي صدمة قوية عليَّ، فقد تناثرت الأحلام كعقد لآلئ في تراب، وأصبح مستقبلي في مهبّ الرياح وأصبحت الكآبة تخيِّم عليّ . فاشتدّ عدائي للطبقة الحاكمة وتمنيتُ زوالها، وكان لفلسفة نيتشه تأثير كبير عليَّ، حيث كنت قد قرأت كتابه (هكذا تكلم زرادشت – ترجمة فليكس فارس) من قبل وأخذت أفكر في أقواله مليّاً، فكانت هذه القصيدة التي كتبت في صيف 1953.

خطرات من وحي نيتشه

(نُشرت في مجلة (الصيدلي) التي كان يصدرها اِتحاد الطلبة في كلية الصيدلة والكيمياء الملكية في كانون الأول 1953 باسم (ب. ع.) حيث كنت طالباً في السنة الأولى فيها . صدر منها عدد واحد فقط وأُغلقت وفُصل من الكلية بعض كتابها ومحرريها، أذكر منهم الصيدلي فيما بعد عدنان الخطيب، الذي كتب مقالة فيها تحت عنوان (الديمقراطية التي نريد) وفصل الطالب سعدون حمودي بعد ذلك لأنّه سافر إلى فيينا للمشاركة في (مؤتمر الشبيبة العالمي المنعقد في فيينا عام 1954) ولو كنتُ كتبت اسمي الصريح، لربّما لم أكنْ صيدلانياً أبداً! ولم أحظ بشهادة الصيدلة التي كانت بوليصة التأمين أو قارب النجاة في حياتي.

" أرسلتُ نظراتي إلى أعماق عينيك السّـاهدتين أيتها الحياة، فوقف نبضان قلبي، إذ رأيتُ الذّهبَ متوهِّـجاً فيهما، ورأيتُ مركباً ذهبياً يشـعّ ُعلى بحر الظّـلام يُـشَـدّ ُ بمهـد مُـذهبٍ مُـشرفٍ على الغرق. " (هكذا تكلم زرادشت – نيتشه)

بسمَ الفجرُ، فرفَّ الـزَّهـر في خـُضـْر الرَّوابي

جـذِلاً يخـتال فـي بُـردِ الصِّـبا غـضَّ الإهــابِ

يمـزج العـطــرَ كمـــا شـاء بـأنـفــاسٍ عِــذابِ

وتـهـادى السّـادرُ الجـبّـارُ يشـدو باصطخـابِ

قـطفَ الـزَّهـرَ وولـّى بين أغـصانٍ رطـــابِ

أكـذا مـنْ يُـخـمدِ الأرواحَ يَسـعدْ بالرِّغـــابِ؟

والـذي ينشـرُ نَـفـْحَ الـروح في دنـيا العذابِ؟

فرويـداً أيـّها المخـتـالُ فـي الروضِ الأغـنِّ

سوف تأتـيك الـرِّياح الهـوج تـلوي كلَّ غصنِ

حين تهوي صـارخاً مـن وطـأة الـدَّهر الغريرِ

**

كم مـن الأرواح هامتْ تـَتـَنـاجى في الظَّـلامِ ِ

مـذ بـدا البـدر ُ كئيـبـاً شاحبــاً خلف الغَّـمــامِ ِ

إنّني أبصـرتُ روحـيـن على بحــر الـرِّمـام ِ

قالت الأولى: أيطوي النورَ نسج ٌ مـن قَـتـام ِ؟

مـا لهذا الكوكبِ الهـائـلِ كالـزَّهـــرِ المُـضام ِ

فأجابتْ تلك: لا يسطيعُ يطـويه غمام ٌ مترامي

إنَـمـا يُـبـْصَرُ فــي غـيــر مكـانٍ ذا ضِـرام ِ

غير أنَّ النَّفسَ قالـتْ وَهْـيَ في هـمّ ٍوحـزنِ

كمْ حِجـابٍ أسدل المـرء على فـكـر وعـينِ

في ظلامٍ دامسِ الأرجـاء كـالـرّعب المُطـيرِ؟

**

ولولي ما شـئـتِ بالإعـصار يا ريحَ الشَّـمـال ِ

واعصِفي بالـزَّهـر والأنـداء في مهد الظِّـلالِ

واسكـبي كـأسَ عذابٍ وانـثـُري عِقـدَ لآلـــي

كم شراع ٍقـد سـرى يخـفق في بحـر الخَـيالِ

حـالم ٍ كالأفـق ِالمطـويِّ فـي صمتِ اللّـيالي

فطــواه المـــوجُ فانـْهــارَ إلــى شـرِّ مـــآلِ

أيّ ُ شـيءٍ صـيـَّر الزَّورق فـي ذاك المجالِ؟

غـيرُ أحـلام ٍتراءتْ وانـْثـنَتْ ومضاً كـفَـنِّ

أبصَـر النّـورَ وشـيكاً وانطـوى إثـْرَ التجنّي

يمـلأ ُ الأقـداحَ مَـنْ في روحه جـهلُ المصير ِ

**

ورميتُ البصرَ الشّـاردَ من خلف الحـجـابِ

فإذا الأيـّام تسـري مثـلَ أشـباح السّـراب ِ

وإذا كهلٌ تـولّـى في حضـيض الاكتـئـابِ

غـارقٌ في لجج البـؤس وأهـوال العـبـابِ

أ وميضٌ من حـياة يـتـوارى في الضَّـبابِ؟

يا لكأسٍ رَقـْرقَـتْها النَّـفسُ في فجـر الشَّبابِ

وأمـانٍ مـزجتها الـروح بالـدَّمـع المُـذابِ

في خـريف العمـر أشباحٌ لأرواحٍ تُـغـنّـي

ذهبَ العـمرُ هـباءً وانـطوى فجـرُ التَّمـنّي

فَهـلُـمَّ الآنَ نـفـثأْ سـَوْرةَ الـكأس ِالمريـــرِ

1953

*** 

د. بهجت عباس

 

في المثقف اليوم