شهادات ومذكرات

طه جزّاع: لا يموت الصحفي إلّا واقفاً

من الذكريات الصحفية الجميلة والطريفة التي لا تُمحى من الذاكرة أنني التقيت في منتصف حزيران 1997 نقيب الصحافة اللبنانية الأسبق الراحل محمد بعلبكي، صاحب جريدة "صدى لبنان"، على هامش اجتماع الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب في دمشق، وهو الاجتماع الذي شهد عودة نقابة الصحفيين العراقيين إلى الاتحاد العام للصحفيين العرب بعد انقطاع دام ما يقرب من السبع سنوات، وكان الرجل في وقتها قد بلغ الخامسة والسبعين من العمر، لكنه كان أكثر الحضور حيوية ونشاطاً ومرحاً وتفاؤلاً وقدرة على مد جسور علاقات التعارف والصداقة مع الحاضرين إلى الاجتماع من مختلف النقابات الصحفية العربية، وحينما كان يسأله البعض مازحاً متى تتقاعد يا أستاذ محمد، ألا يكفيك خمسة عشر عاماً وأنت نقيب للصحفيين؟ كان يجيب باسماً : ومن قال لكم أن الصحفي يتقاعد؟، كلمة المتقاعد تعني" مُت .. قاعداً "، والصحفي لا يموت إلا واقفاً. لكنه عندما بلغ الثانية والتسعين من العمر، أعلن في تصريح لجريدة كويتية انها المرة الأخيرة التي يكون فيها نقيباً للصحفيين بعد مضي 33 سنة متواصلة وهو في هذا المنصب، فاز فيها مرات عديدة بالإجماع، رافضاً أن يطلق عليه لقب " شيخ الشباب" إنما " شاب الشيوخ "، مؤكداً أنه لن يتقاعد عن الصحافة، بل سيتفرغ لكتابة مذكراته.

ولأن حياتنا عرضة للمصادفات التي تأتي من دون تخطيط مسبق، فقد يحدث أن نلتقي أشخاصاً لم يخطر في بالنا أننا سنلتقيهم مرة أخرى، لكن سرعان ما نجدهم امامنا وجهاً لوجه، ونلتقي بهم مجدداً، وإن كان اللقاء عابراً وفي دير تاريخي على ارتفاع أكثر من ألف متر عن سطح البحر، مثلما حدث لي وأنا ألتقي بعلبكي مرة أخرى بوجهه البشوش، ومزاحه اللطيف، وروحه المرحة التي تركته عليها في لقاء دمشق، وهو يعلمني أنه قد تراجع عن تصريحه الصحفي، ولن يتقاعد أبداً، وسيبقى نقيباً للصحافة في لبنان مدى الحياة!. أما هذه المصادفة التي جمعتني به بعد سبعة عشر عاماً من لقائي به في دمشق، فقد بدأت حين عرض عليَّ صديق العمر الصحفي والاعلامي اللبناني سعيد طه أثناء رحلتي إلى بيروت عام 2014 مرافقته لحضور مؤتمر لتجمع البيوتات الثقافية في لبنان يقام في دير مار سركيس وباخوس في بلدة قرطبة، وهي بلدة جبلية نائية بعد نهر ابراهيم في جبل لبنان يصل المسافر اليها عبر طريق معبد تليه طرقات جبلية وعرة تنقله الى وسط الغيوم التي تحيط بالطريق من كل جانب، ولما كان سعيد لم يصل الى هذه البلدة منذ عشر سنوات فقد التبست عليه بعض الطرقات وامضينا وقتاً طويلاً في البحث عمن يرشدنا الى البلدة والدير الذي وصلناه بعد طول عناء، وبعد ان انتهت جلسة المؤتمر الافتتاحية ليتوجه الحضور الى دعوة الغداء التي اقيمت في رواق قديم داخل الدير، وفي الباحة الخارجية الواسعة لدير مار سركيس كان اللقاء مع بعلبكي الذي لم تبدو عليه علامات التقدم بالعمر، بل أنه مازال محافظاُ على أناقته وحيويته ومرحه وذاكرته، ولفت انتباهي سيدة مجتمع جميلة وأنيقة كانت برفقته وتعتني به ولا تتركه لحظة واحدة، وخَّمنت أنها قد تكون ابنته أو احدى قريباته، أو سكرتيرته ، لكنها سرعان ما قدمت نفسها لي بأنها "مدام بعلبكي"! .

والمدام التي تزوجها نقيب الصحافة اللبنانية وهو على مشارف السبعين بعد وفاة زوجته، هي كما يبدو المحفزة له على عدم التقاعد، وان كره الكارهون من أصحاب الصحف والمطبوعات الذين يمنون انفسهم في كل دورة انتخابية بأن يعلن النقيب خلوده الى الراحة بعد هذه العقود الطويلة التي امضاها نقيباً للصحافة، لكن للمدام رأيٌ آخر، فقد وظَّفت خبرتها ولباقتها الاجتماعية لإقناع أصحاب النفوذ والمصالح والصحف والمطبوعات بأن يبقى زوجها نقيباً للصحافة تكريماً لتاريخه الطويل في العمل المهني. صحيح ان ادارة نقابة في بلد مثل لبنان تحتاج الى جهد قد يرهق رجلاً في مرحلة الشيخوخة مثل بعلبكي، وإن كان يشعر بالحيوية والتفاؤل، تسنده في ذلك سيدة واثقة من نفسها، لكن ليس من المؤكد أن وراء كل نقيب يرفض الموت قاعداً، سيدة!، ومع ذلك فقد اضطر بعلبكي في العام 2015، لأن يفقد رغبته في الترشح مجدداً بسبب الإرهاق والمرض والتقدم في العمر.

في الثاني عشر من آذار 2017 يرحل بعلبكي عن عمر ناهز السادسة والتسعين عاماً، امضى 32 عاماً منها نقيباً للصحافة اللبنانية، وهي ليست النقابة التي تضم الكتاب وأصحاب الرأي والقلم، فهؤلاء تجمعهم نقابة محرري الصحافة اللبنانية التي كان يرأسها وقتذاك ملحم كرم الذي توفي قبل بعلبكي بتسعة أعوام، لكنها أيضاً، أي نقابة الصحافة اللبنانية، لا يمكنها أن تبقى بمعزل عن التيارات السياسية والحزبية المتصارعة، وعن أصحاب النفوذ والسلطة والسلاح على الرغم من طابعها المهني المحض، ومن أدلة ذلك أن نقيبها الذي سبق بعلبكي، الشخصية السياسية والاجتماعية اللبنانية المعروفة، الأديب والكاتب والصحفي رياض طه، صاحب مجلة الأحد، وصحيفة جريدة " الكفاح" قد اغتيل في يوم 23 تموز العام 1980 وهو بمنصب نقيب الصحافة اللبنانية، وبعمر لا يتجاوز الثالثة والخمسين عاماً.

ولا يموت الصحفي إلّا واقفاً، لا متقاعداً، كما كان يردد محمد بعلبكي.

***

د. طه جزّاع - بغداد

في المثقف اليوم