شهادات ومذكرات

جمال العتابي: يحيا الراديو

المقهى الصغيرة أشبه بوكر يورث الأحزان، الغبار ينتهك زواياها المعتمة بالدخان، ويستفز روادها الذين يتوسدون أذرعة الأرائك الخشنة، مطلقين العنان لخيالاتهم، يتوافد عليها أولئك في أغلب الأوقات، من معلمي المدينة، وأصحاب الحرف والمهن، وأصحاب الحوانيت المتواضعة، وفلاحي القرى المجاورة أثناء النهار، مازالت تطالعني ملامح وجوه الفلاحين المعذبة، وإنطفاء عيونهم المحزونة، وأجسادهم المكدودة في توجعها الخفي، يتقاطرون في ضحى الأيام وهم أول المتجهين إلى مقهى محمد المدهوش في الغازية، الإنسان المتواضع بطيبته وحسن إستقباله لرواده .

لا تبعد المقهى سوى بضعة خطوات عن نهر الغرّاف، تحجزها عنه أشجار الصفصاف والدفلى، في أعلى جدار للمقهى، وبمسند خشبي تعلق (راديون ) بماركة (سيرا)، حصيناً منيعاً لاتناله سوى العيون، يعمل ببطارية إستغنى عنها سائق السيارة الوحيد في المدينة، الراديو الملفوف بستارة بيضاء مطرزة بالدانتيل، احال الدخان والغبار لونها الى اللون الرمادي، الراديو، الذي يغريني بالتأمل في هذا (الكائن) الغريب، وكأنه مصيدة سحرية تقتنص أسرار هذا العالم، الذي لاسبيل لإدراك أبعاده، وأنا أصغي لما يصدر من أصوات وموسيقى وغناء، كأنها تنثال من خفايا الماضي .

عبر أماسٍ كثيرة بالنجوم، وتحت أضواء (اللوكس)، وخفقات خفافيش الليل، تجتمع ثلة من أبناء المدينة بعد العشاء، حيث لاتسمع إلا وقع أحذية النواطير السهارى المتعبين، والبيوت غارقة في صمت الدروب، في هذه البقعة المنفصلة عن العالم، يناقش الحضور أزمة البحر الكاريبي، ويتجادلون حول : المنتصرالذي يكسب الرهان، الإتحاد السوفيتي بزعامة خروشوف، أم أمريكا بزعامة جون كندي ؟؟ بعد أن تصاعدت وتيرة التهديدات بين القطبين في ما يعرف بازمة الكاريبيي بوجود الصواريخ السوفيتية في كوبا، التي تهدد الامن حسب مزاعم الامريكان، بحرب عالمية ثالثة، مطلع ستينات القرن الماضي . يحتدم النقاش فيتدخل الحانوتي رضا ليحسم المعركة قبل ان تقع لصالح (سيلان)، معتقداً ان هذه الدولة قادرة على ردع السوفييت، ظاناً انها دولة عظمى، ما دامت تسد حاجة السوق العالمية من الشاي، دون علمه بموقعها ومساحتها وإمكاناتها البشرية والعسكرية . الحانوتي رضا يومذاك كان رجلاً إستثنائياً في إخباره، يترك في ذات أي من معارفه وأصفيائه أثراً من الآراء والمفردات الغريبة، مردداً مزاج وميول نجله الكبير (ف)، المتعاطف مع التيار القومي أو المنتمي إليه، مختلفاً مع كل ما له من صلة باليسار والتابعين له، وكثيراً ما يطلق (ر) مفاجأة يعجب بها أبناء المدينة، ويتندرون بذكرها طويلاً، سئل ذات جلسة عن فطوره في الصباح، فأجاب انه يتناول فقط (برداغ عصير اللوز)، ولنتخيل صدى هذا القول في مدينة، أغلب اهلها بالكاد يفطرون على الخبز والشاي ! ولمن يتتبع اصل هذه الخلطة العجيبة سيكتشف ان رضا عرفها او جربها فعلاً حينما كان عاملاً في السفن يجوب البحار.

يرتاد المقهى مضمد المدينة الوحيد (عليوي المدهوش) شقيق صاحبها محمد، عليوي تمكن من مهنته بدون دراسة في معهد أو مدرسة، وحين وصفه الناس بـ (الطبيب)، لأنه يحمل سماعة الفحص على صدره، لم يكن ذلك من قبيل المبالغة، بل لأنه يداوي المرضى، ويزرق الأبر ويدواي الجروح والدمامل، يوزع أقراص (693 سكسناي تري) لمعالجة كل حالات الصداع والحمى، فضلاً عن ختان أطفال المدينة، في عدته الطبية محرار لقياس درجة حرارة المريض، يمتنع الاطفال احيانا من قبول المحرار. في الفم، فيحوله الى فتحة الشرج، يجوب الشوارع بدراجته من ماركة (فيليبس) وكأنها سيارة إسعاف حديثة، ينوء رأسه بالزي القروي، فوجد سبيله إلى قلوب المنهكين بأمراض السل والدزنتري والبلهارزيا .

يقرر ابي شراء راديو (سيرا)، بسعر6 دنانير، شبيها براديو المقهى يسدد ثمنه بالأقساط الشهرية، أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لشعور منه بمتابعة الأخبار وأحداث المنطقة الملتهبة، وليمضي بإهتماماته السياسية بعيداً عن أجواء المقهى وروادها، وهو يشع بالإمتلاء، مفعماً بالأمل، والقضية التي يؤمن بها، وهي غير قابلة للمراهنة ولا للإستبدال، فدخل الراديو لأول مرة في بيتنا، وعبره تشكلت بواكير وعيي الأول، كنت ألتقط الدلالات النفسية والصوتية في هذا العالم الصغير المكتظ بالمعاني حد الإنفجار، سمعت فيه لأول مرّة صوت المذيع المصري أحمد سعيد، ونشيد الله أكبر، وخطابات جمال عبد الناصر، ولأول مرة أسمع (دار السيد مامونة) يرددها نوري السعيد، وأحاديث إبن الرافدين، ولازمة مروياته التي يبدأها ب : هاي هيه القصة تفضلوا اسمعوها، واصوات المذيعين العراقيين المدّوية، عادل نورس ومال الله الخشاب .وموحان طاغي.

في الراديو تستحيل الأصوات إلى إمتدادات معذبة، تنطق بها نفوس تقودنا إلى ينابيع الأحلام، أصوات حضيري أبو عزيز، داخل حسن، زهور حسين ووحيدة خليل، وسهام رفقي، وملك، أصوات تواصل الحنين لكي لايطيح بنا الحزن، المغنون يدعونا دائما إلى الإمتثال الهادىء لحناجرهم، كي لايتبدد ذلك السحر الذي ينتشر كالفرح حول هذه العذرية .

أشهد أن بي (مسٌ) من الراديو لم يعالج، لا أجهزة التلفزيون أسعفتني، ولا التقنيات الحديثة جداً قدمت لي البديل، فهذا (الكائن) أودع في عشقاً لافكاك منه، فهو يمتلك كل حواسي، تستيقظ من خلاله المدن والنداءات والتاريخ، وكأني بمفتاحه الصغير أدخل الى العصر، ومازلت أذهب صوب الماضي البعيد، فصرت مضرباً للأمثال لما أقتنيه من عشرات (الراديونات )، بألوان وأحجام وأنواع نادرة، مع تصاعد ازمات الحروب، لا اكتفي بجهاز واحد، استمع لهذا واسجل بالاخر، في آن واحد، اسافر لبلدان العالم وبرفقتي جهاز للراديو، لا هدوء في الليل او سكون من دونه، وفي العودة معي جهاز جديد اشتريه (قرض فرض)،

انه لون من ألوان التعزية لمن يعاوده الحنين إلى تلك المرافىء الجميلة، التي أودعت في طفولتنا الأسئلة والحيرة، هو خيط سري يوصلني بالمكان . والزمان.

***

د. جمال العتابي

في المثقف اليوم