شهادات ومذكرات

علي حسين: الغوص في عالم الفلسفة بطرق مغايرة

تشكلت صورته من خلال الحكايات الغريبة والمتناقضة، فحياته أغرت كتاب سيرته بنسح قصص خيالية عنه، فمنهم من أنكر وجوده مثلما يخبرنا ابن النديم: " تقول عنه جماعة من اهل العلم واكابر الوراقين انه لا أصل له ولا حقيقة " – الفهرست ابن النديم -، وقال البعض انه موجود لكن الكتب التي نسبت اليه لم يكن هو صاحبها، إلا ان ابن خلدون يصفه بانه: " إمام المدونين في علم الكيمياء، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز".يظهر جابر بن حيان الفيلسوف وعالم الكيمياء في رسائل ابو بكر الرازي الذي يستشهد به قائلا: " قال استاذنا ابو موسى جابر بن حيان"، ويرد زكي نجيب محمود على المشككين بقوله ان جابر بن حيان: " اضاف إلى الفكر الانساني عنصرا جديدا افتقده الفكر اليوناني، ذلك هو اعتماده على التجربة والبرهان الحسي وعدم الاكتفاء بالفروض والتحليلات الفكرية الغامضة التي كانت محور المعلافة عند اليونان".

ولا تكاد تنتنهي مسألة اثبات وجوده، حتى يثار خلاف جديد حول أسمه، فهل هو " ابو عبد الله جابر بن حيان، أو " أبو موسى جابر بن حيان، ويحسم لنا الرازي هذه المعضلة حين يقول ان اسمه " جابر " لانه "جبر العلم "، أي أعاد تنظيمه. وسيبدأ تحدي آخر حول مسقط رأسه وتاريخ ميلاده.فمنهم من قال انه ولد في مدينة طوس في خراسان، وآخرون يؤكدون بأنه صابئي ولد في مدينة حران، فيما الرحالة الحسن بن محمد الوزّان والشهير بـ " ليون الأفريقي" يقول انه يوناني اعتنق الاسلام.ونعود الى ابن النديم الذي يقول انه لقب بالكوفي وكان يقيم في شارع يعرف بـ " درب الذهب ".

كان يشرف على الثمانين من عمره حين دقّ الخطر بابه، فقرر أن يهرب من بغداد الى الكوفة، معتكفا بالدار، خوفا من ان يلحق به غضب الخليفة هارون الرشيد الذي اطاح بالبرامكة وكان جابر من المقربين منهم.. قال لأحد تلامذته ان الفلاسفة لن تنجيهم سوى كتبهم وابحاثهم، وان العلم وحده القادر على وصول الانسان إلى الخلود. يكتب في احدى رسائله: " ان اسرار الطبيعة قد تمتنع عن الناس لأحد سببين، فاما أن يكون ذلك لشدة خفائها وعسرالكشف عنها، واما ان يكون للطافة تلك الاسرار بحيث يتعذر الامساك بها. وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، كان في وسع الباحث العلمي ان يلتمس طريقا الى تحقيق بغيته، فلا صعوبة الموضوع ولا لطافته ودقته مما يجوز أن تحول العلماء عن السير في شوط البحث الى غايته " – كراوس مختار من رسائل دجابر بن حيان –

كان جابر بن حيان اول من أتى بفكرة ان النفس لا تكون عالمة اولا بالضرورة " اي انها لا تولد مزودة بالعلم، بل انها تكتسب العلم من الخارج. ونجده يناقش موضوعة المعرفة وهل هي فطرة كامنة في الانسان تحصل تلقائيا حين تتاح لها الظروف. ام هي اكتساب من تجارب العقل وممارسته ؟. كان افلاطون يقول ان الافكار موجودة في النفس، وان كل المعرفة اصلها الروح. فيما يرى جابر بن حيان ان اكتساب المعرفة يعتمد على تجربة الانسان للاشياء واستخلاصه النتائج والقوانين الكونية من هذه التجارب.

هل كان جابر بن حيان يتخذ موقفا مناوئا من الدين ؟ في رسائله المختاره نراه يقسم العلوم الى قسمين. علم الدين، وعلم الدنيا حيث يعرف علم الدين بأنه " الافعال المأمور باتيانها للصلاح فيما بعد الموت " ويعرف علم الدنيا بأنه " جميع ما في عالم الكون من الحوادث ". كان ابن حيان عالما وفيلسوفا في نفس الوقت، فقد رفض أن يفقد ايمانه، ورفض ان يكون مؤمنا من دون عقل، فطورا فهما جديدا لمكانة العقل في حياة الانسان يكتب في الرسائل إن: " العلة الأولى هي العقل، والعقل هو العلم، والميزان هو العلم، فكلُّ فلسفة وعلم فهو ميزان، فكأن الميزان جنس، والفلسفة فرع ينطوي تحته هي وكل ما يتصل بها من فروع." وهذا يعني أن المبدأ الأول الذي يجوز لنا أن نتصور كلَّ شيء آخر متفرعا عنه، هو العقل، فلولا وجود العقل، لما كان كون، لأن كل شيء في العالم إنما يسير وفقَ مبادئ العقل، وليس الأمر متروكًا للمصادفة العمياء: " فالعلة الأولى هي العقل"، والعقل والعلم واحد، فما تسمِّيه عقلًا هو نفسه ما يصحّ أن تسمِّيَه علما.

بينما كان جابر بن حيان يعيش سنواته الاخيرة في خوف وقلق، قرر ان يصوغ نظرية في الكيمياء أراد من خلالها تحرير هذا العلم من الخرافات،كما انه كرس مجهوداته البحثية لأجل استكشاف مبحث جديد يدعى التكوين، تحت غطاء من السريه في معمله، حيث نراه يتخذ من نظريته القائلة بأن العالم الكيميائي يستطيع ان يحول أي كائن إلى كائن آخر في نطاق الكائنات المركبة،وان التحويل هذا ليس قاصرا على تحويل معدن الى معدن، بل يتجاوز ذلك الى عالمي النبات والحيوان دون ان يستثني الانسان نفسه، وليس من فرق عنده بين تحويل المعادن والجمادات وبين تحويل الكائنات الحية، سوى الفرق في طريق التجربة. ونراه يعرض عدة مذاهب في تكوين الكائن الحي. يكتب زكي نجيب محمود: " ولعل اغرب ما في الموضوع هو محاولة جابر صناعة الانسان على أي صورة شاء، وموضوع الغرابة عندي هو ان يصدر هذا عن رجل يعتقد في ديانة تجعل خلق الانسان من شأن الله وحده، فلا بد ان يكون ثمة وجه لتبرير ذلك عند جابر، وما اقرب الشبه بين الاحلام التي ساورت جابرا في زمانه من حيث محاولته خلق تكونات حية شاذة عن الكائنات المألوفة، اقول ما اقرب الشبه بين هذه الاحلام وبين ما تحقق هذه الايام من تطعيم الحيوانات بعضها ببعض، فيركبون اعضاء حيوان في جسم حيوان آخر وهكذا " – جابر بن حيان سلسلة اعلام العرب -.فاذا كان في وسع الكيمياء أن تستنبط مواد جديدة بتركيب الاجسام بعضها مع بعض، فلم لا تقوم ايضا بانتاج النبات والحيوان، بل وبخلق الانسان الصناعي ؟ ان هذا العلم ممكن بنظر جابر بن حيان لأن الكائن الحي هو نتيجة لتظافر قوى الطبيعية.

***

تبدو حياة جابر بن حياة غامضة، فالطفل الذي ولد في العاشر من تموز عام 721 ميلادية في مدينة طوس، ينتسب الى عائلة من اصول يمنية، سكنت الكوفة حيث عمل الأب بائعا للعطور والاعشاب، كان يناصر الدعوة العباسية، مما اضطره السفر الى الى طوس عام 715 م هربا من بطش الامويين، بعد سنوات من النشاط السياسي والعمل في تجارة الاعشاب، سيتم القبض عليه في دمشق حيث يحكم عليه بالشنق، كان الابن قد بلغ العاشرة من عمره، تعيش العائلة محنة العوز ومراقبة السلطات، عندا بلع جابر الثانية عشر من عمره ارسلته والدته الى بعض اقاربه في اليمن لغرض التعليم وايضا ليبتعد عن عيون السلطات، في اليمن درس النحو والمنطق وعلوم القرآن وتتلمذ على يد " حربي الحميري " وكان هذا الاستاذ شغوفا بالكيمياء والفلسفة حتى ان جابر بن حيان سيطلق عليه لقب " الشيخ الأكبر "، وسيصفه في رسائله بأنه كان " طويل القام، كثيف اللحية مشتهرا بالإيمان والورع وقد أطلق عليه العديد من الألقاب ومن هذه الألقاب الأستاذ الكبير"..سيعيش ابن حيان حياة صعبة في ظل اتهام السلطات لعائلته بانها متعاونة مع العباسيين، لكن هذا لم يمنعه من مواصلة الدرس ومتابعة تجارب استاذه في الكيمياء، والانكباب على قراءة كتب الفلسفة التي وقع في سحرها. كان في الحياة اشياء كثيرة تقلق جابر وتشغل باله، لكنه اختصرها في فكرة واحدة " العلم "، مؤمنا بالعلم الذي يمكن للمرء تحصيله من الدراسة والقراءة والتجربة. عند بلوغه التاسعة عشر من عمره يسافر الى الكوفة حيث عادت امه ومعها اشقاءه، في الكوفة التي عاد اليها شابا لم تسر اموره سيراً حسنا حتى التقى بجعفر الصادق الذي سيطلق عليه لقب " سيدي واستاذي " ويذكره في مقدمة بعض كتبه، وبشخص آخرهو خالد بن يزيد الذي ابتعدت عنه الخلافة وقد ذكره ابن النديم بانه: " اول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء " يكتب المستشرق الفرنسي كارا دي فو في دائرة المعلارف الاسلامية ان معلما جابر: " هما خالد بن يزيد وجعفر الصادق ". لم يستقر طويلا في الكوفة حيث بدأت السلطات تراقبه مما دفعه الى " التنقل في البلدان، لا يستقر به بلد خوفا من السلطان على نفسه " – الفهرست ابن النديم – بعد قيام الدولة العباسية يشعر بالامان فيقرر السفر الى بغداد، هناك يتعرف على البرامكة الذين منحوه منزلة خاصة وادخلوه الى قصر الخلافة ليصبح طبيبا لهارون الرشيد. يؤسس معملا للكيمياء ويتفرغ للتجارب العلمية والكتابة وقد عبر عن افكاره في الكثير من المؤلفات التي يضع لها ابن النديم قائمة لاكثر من مئة كتاب ورسالة.فيما يذكر كارل بروكلمان في كتابه " ناريخ الادب العربي " ان لجابر بن حيان " 85 " كتابا وقد طبع منها مجموعة ابرزها " الرسائل " و" كتاب الملك " و" الموازين " و " كتاب الرحمة " وكتاب التجميع ". ويشير بروكلمان الى ان كتب جابر بن حيان الفلسفية او التي تتناول قضايا دينية ذات صلة بالعقائد الفلسفية الاسماعيلية.

بعد سنوات من الطمأنينة والعمل المثابر سيضطر جابر بن حيان الى الهرب من جديد بعد ان قُتل البرامكة على يد هارون الرشيد، ليعيش متخفيا حتى عصر المامون، بعدها يسافر الى طوس ليتوفى في التاسع من تشرين الاول عام عام 815 م.

***

نحن الآن في سنة 805 م، المكان مدينة الكوفة، حيث يجلس الرجل العجوز، الطويل القامة، الذي اشتهر بتصوفه وانعزاله، يتحرك بصعوبه في معمله محاطا باكوام من المخطوطات، وتكتظ الطاولة التي امامه بالقوارير، والاصباغ، حاويات المحاليل. البودرة تنتشر على سطح الطاولة، كل شيء معنون بعبارات تحدد ماهيته. يداه ملطختان بالالوان،تملؤها الندوب من كثرة ما فيها من الحروق الناتجة من المواد الكيماوية، كان دائم السعال بسبب البخار الذي ينتشر في الغرفة. في الخارج كان عدد من الحراس ينظرون الى البيت بريبة، فهم يعرفون ان هذا الرجل مغضوب عليه من الخليفة هارون الرشيد، وأن حركاته يجب ان تُرصد جيدا، إلا أن الرجل الذي تجاوز الثمانين من عمره لم يعد يهتم بما يجري خارج بيته، فهو مشغول بانواع المواد التي تحيط به، وكيف يصنع منها شيئا جديدا. يدرك جيدا انه عاش طويلا وواجه محن كثيرة في حياته، فقد كان في شبابه يعتبر السياسة ضرورية للمفكرين، ولأنه كيمياوي فقد ظل يؤمن ان اسرار الكون مدفونة بعمق في العالم المادي المحيط به، وأن عمله في هذا المعمل القديم إنما محاولة لفك شفرات الكون حتى يعرف الحقيقة، ومثله مثل غيره من المفكرين فإنه يعتقد ان هذه الاسرار التي خلقها الله من الممكن فك غموضها فقط من خلال قلة ممن هم على استعداد للبحث العلمي والفلسفي الطويل.

كان جابر بن حيان فيلسوفا الى جانب صنعته في الكيمياء، حاول ان يوفق بين الدين والعلم، لقد كانت في قلب تطلعاته الفكرية فهم الكيقية التي تسمح للناس بمعرفة ان الدين فطرة كامنة في الانسان، بينما العلم هو اكتساب من تجارب العقل وممارساته، وكان ابن حيان يرى ان الإنسان قادر على بلوغ حقائق عظيمىة إن هو استفاد من أهم عطيه منحها له الله: العقل.

اعحب اعجابا شديدا بسقراط حيث يصفه بانه: " أبو الفلاسفة وسيدها كلها" وأنه مثال الإنسان المعتدل، مع تعريفه للشخص المعتدل بأنه هو الذي يستخرج الأشياء بطبعه، ويقع له العلم بالبديهة في أول وهلة. إن جابرًا ليؤمن بقيمة الفلسفة إيمانًا يجعل الفلسفة عنده شرطًا لا غنا عنه لارتقاء الإنسان في مدارج العقل، حتى لتختلط عند جابر طائفةُ الفلاسفة بطائفة الأنبياء: "إن الشرع الأول إنما هو للفلاسفة فقط، إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء، كنوح وإدريس وفيثاغورس وطاليس القديم، وعلى مثل ذلك الإسكندر." – رسائل جابر بن حيان –، وكان يرى ان الفلسفة تساعدنا على اقامة نظام عقلاني متناغم، وايضا على تأمل النظام الكوني، وكفيلسوف حاول جابر بن حيان استخلاص اكبر قدر ممكن من المعرفة من خلال الملاحظة والعقل.ونجده يسير على نهج ارسطو، فيعتقد ان الاشياء الحية وغير الحية على حد سواء، لها اشكال جوهرية، واشكال الكائنات الحية، ارواح، وهذه الارواح تزيد من القدرة على الفعل والشعور، في حين تضيف الروح البشرية للانسان العقلانية، مما يجعله قادرا على التفكير والفهم، ومن خلال التفكير يمكن للإنسان أن يدرك طبيعة الكون، ويرى جابر بن حيان ان العقلانية هي السمة المميزة للبشرية، مؤمنا بمقولة ارسطو " جميع البشر يرغبون بالمعرفة ". ولعل هذه المصالحة بين الدين والعلم التي سعى اليها جابر بن حيان حققت هدف الدين باعتباره دليل الخلاص للفرد، فيما العلم والمنطق والفلسفة تساعدنا لاكتساب معرفة شاملة عن انفسنا وعن الكون. سوف يجد الجانب العلمي لدى جابر ضالته في " الكيمياء "، ووفقا لسيرة حياته العلمية لم يكن هدف جابر من الكيمياء تحويل الصفيح الى ذهب، لكن كان همه البحث عن التكوين، وهذا يعني بالمصطلح العلمي الحديث " خلق الحياة الاصطناعية في المعمل "، ورغم ان بعض الباحثين مثل الامريكية " كاثلين اوكتور " في بحثها عن التكوين عند جابر بن حيان قد حسمت الجدل حول ما اذا كان مفهوم التكوين لدى جابرليس سوى طقس رمزي مجازي يحاكي فيه فعل الخلق دون ان يتوقع خلق حياة فعلية، أم انه كان سعياً حقيقيا لتوليد حياة إذ توصلت إلى انه: " كان فعلاً رمزيا وحرفيا في آن واحد " – من مكة الى الميتاداتا مايكل هاميلتون -.

لقد تمثلت احدى الاشتغالات الرئيسية لجابر بن حيان كمنظم للعلم، وفي توجيه المعرفة في مسارات متعددة اتسمت بالموسوعية التي وصفها البعض بالسحرية.العالم والفيلسوف المتعدد المهام، اجهد نفسه في ميادين الفكر التي لا تعد ولا تحصى. ادرك بان للعلم امكانية في ان يكون عونا للانسان، يساعده في تقديم شرح افضل للحياة والكون وتجنب الاوهام. شكلت كتبه احد اهم مصادر الدراسات الكيميائية في الشرق والغرب، واتاحت ترجمتها انتقال المعاراف الى حضارات اخرى. ومعها انتقلت عدة مصطلحات عربية وكانت مرجعا معتمدا في اوربا خلال الفترة من القرن العاشر الميلادي وحتى القرن الثاني عشر. غطت كتبه فروعا معرفية مختلفة منها: علم الكونيات والموسيقى والطب وعلم الاحياء والرياضيات والمنطق والهندسة. وتظهر ريادته في عدد من البحوث الكيميائية ويعد اول من استخرج حامض الكبريتيك، واول من اكتشف الصويا الكاوية، واول من استحضر ماء الذهب، والزئبق، فضلا عن مركبات اخرى. كان جابر بن حيان فيلسوفا وتلميذا لسفراط. آمن بان الفلسفة تقودنا من خلال استخدام عقولنا، الى حقائق فعلية:  كيف بالامكان ان تكون عالما وفيلسوفا ومؤمنا ؟ كيف يمكن الجمع بين العقل وبين الايمان.. كيف تتحول مسالة الله الى مسألة فلسفية، تركز على التساؤل حول وجود كائن أزلي مستقر، وعلة كل ما هو موجود بالكون.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم