شهادات ومذكرات

طه جزّاع: يا رافعاً في القوافي راية الزجل

في يوم صدور الطبعة الثالثة لديوان الكرخي 20 آب 1988 زارني السيد حسين حاتم حفيد الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي ليهديني نسخة منه، وهو الذي عنى بجمعه وطبعه في أربعة أجزاء، ولم يُكتب له أن يكمل بقية الأجزاء فقد وافاه الأجل في شباط 2007 .لم يكن الراحل حسين الكرخي وفياً لتراث جده فحسب، إنما أولى عناية فائقة بتقديم شروحات وافية لكل قصيدة ومناسبتها مع هوامش لشرح بعض الكلمات والالفاظ التي يصعب على القارئ غير البغدادي فهمها، وهو الخبير باللهجة البغدادية واصدر فيها كتابه «مجالس الأدب في بغداد» مع كتاب آخر عنوانه « أصول الألفاظ البغدادية الخارجة عن التداول» الذي سلمه ورثته إلى دار نشر عراقية مرموقة بعد تعاقدهم معها منذ سنوات وضاع أثره ولم يصدر إلى يومنا هذا. والحق فإن ديوان الملا عبود الكرخي يُعد مرجعاً لا غنى عنه لمعرفة الأحوال السياسية والاجتماعية المحتدمة لاسيما في حقبة تأسيس الدولة العراقية والعقود اللاحقة التي بزغ فيها نجمه حتى وفاته في العام 1946، وكذلك لمعرفة طبيعة العلاقات بين الساسة والبرلمانيين والأدباء والشعراء والصحفيين والأحزاب في العهد الملكي، فقد كان الكرخي وطنياً صلباً ومعارضاً شرساً لكل أشكال الاستعمار والهيمنة والتبعية والفساد وثائراً ضد المعاهدات التي تخل بالسيادة، سواء في شعره التهكمي الساخر اللاذع، أو في الصحف التي أصدرها « الكرخ « و» الكرخي» و» الملا « و» المزمار»، وكانت له رسائل ومساجلات ومجاملات عديدة مع رجال عصره المتنورين أمثال جميل صدقي الزهاوي والأب انستاس ماري الكرملي وفهمي المدرس ومعروف الرصافي وعلي الشرقي ومحمد بهجة الأثري ورفائيل بطي وغيرهم، هي بمثابة شهادات بحق الملا وشخصيته المبهرة.يكتب فهمي المدرس عام 1933 عن الكرخي بأن أسلوبه جمع بين لغة العوام وما يقارب اللغة الفصحى تدريباً للعوام على الفصيح من القول، وهو أسلوب حديث في الأدب العالمي، فيما وجه الزهاوي في العام 1932 قصيدة « إلى شاعر الشعب» يقول فيها: (عبود) ان عُدت الافذاذ في بلد / فأنت في أول الأفذاذ معدود. ويطلق عليه رفائيل بطي لقب أمير الشعر العامي، ويخاطبه الأب الكرملي في رسالة شخصية قائلاً: سيدي الأستاذ المحبوب الملا عبود الكرخي عمره الله، مع أن هذا الذي يخاطبه الكرملي بكل هذا الاجلال والتقدير متعلم تعليماً بسيطاً بحيث يحسن القراءة والكتابة ولذا ترى على شعره مسحة من اللهجة الفصحى كما يقول الرصافي، ويضيف: وشعره المسموع اذا هو أنشده أشد تأثيراً في النفوس من شعره المقروء في الصحف وهو على الهزل أقدر منه على الجد، ويوجه له أبياتاً عنوانها « إلى شاعر الأمة « يبدأها بالقول: لله درك يا (عبود) من رجلٍ/ يا رافعاً في القوافي راية الزجلِ. بل أن المطرب محمد القبانجي قال بأن أحمد شوقي طلب منه أن يغني شيئاً من الشعر الشعبي العراقي، فقرأ له أبياتاً من «المجرشة» فما أن استوعبها شوقي حتى جن لسحرها وروعة بلاغتها وأبياتها فطلب المزيد « فغنيتُ : ساعة واكسر المجرشة / والعن أبو راعي الجرش». ويقال أن القبانجي عندما وصل في غنائه إلى «هم هاي دنيا وتنگضي / واحساب أكو تاليها»، همس له شوقي» ده عتاب شريف مع الرب يا محمد». لو كان الملا عبود يعلم بأن فكرة عمل تمثال له قد طُرحت مطلع السبعينيات، وان امانة العاصمة قررت في العام 1985 وضع التمثال قرب بيته بمنطقة الشواكة، لكن ذلك كله لم يتحقق فعلاً حتى اليوم، لكتب قصيدة ساخرة لاذعة على سياق: ساعة واكسر المجرشة / وانحر على طرّة (عفچ)!، وبالمناسبة فإن القصيدة المتداولة كثيراً هذه الأيام عن البرلمانيين ولازمتها « قيم الركاع من ديرة عفچ « منسوبة خطأً إلى الملا عبود، وهي في الحقيقة للشاعر سامي عبد المنعم الذي نسج على منوال قصائد الكرخي. والحديث عن الملا يطول، أما مناسبته فهو تواصلي مؤخراً مع صديق عزيز نسيب لأسرته، من أجل اهداء مكتبة المرحوم حسين حاتم عبود الكرخي إلى المركز الثقافي البغدادي لتكون في متناول الباحثين والقّراء .

***

د. طه جزّاع

في المثقف اليوم