شهادات ومذكرات

الطيب النقر: أساتذة الترابي

إذا أردنا أن نعرف دقائق حياة الدكتور الترابي فيجب أن نحتفي بهذه الفترة الخصبة من حياته، وأن نقدر هذه المدة التي وفق فيها الشيخ المجدد أحسن توفيق، ففي هذه الحقبة من عمره، تمكن من التغلب على كل شيء إلا على أن يزيد حظه من الذكاء والنبوغ، لأنه قد بلغ الحد الذي لا مزيد عليه، وقد بدت بشائر حياة الفتى الغرير واضحة جلية، ففي كل مدرسة يرتادها أو مرحلة ينتقل إليها، يستأنف قوته، ويمضي خلف نشاطه، ويسعى لتحقيق هذا الشعور الذي بسط سلطانه عليه، والذي جعله يمقت التسويف، والكسل، وإضاعة الوقت، وتزجية أوقات الفراغ بأشياء لا يظهر تأثيرها على عقله وحصاته، لم تكن تلك الحياة العقلية التي عاشها الترابي في تلك المرحلة ممعنة بالتصوف، متأثرة بالذكر وحلقات المديح، كما لم يقف قاربه على سواحل الطرب والغناء، أو يذعن لسلطان الحضارة الغربية التي كانت متفشية في الوسط الطلابي بحكم الاستعمار القابع في بلده، ولم يخضع لأصولها المغرية ومناهجها الآسرة، كان الترابي مولع بشغف لا عهد لأترابه به، وقد ظل أثر هذا الشغف عظيماً خطيراً على سائر حياته، كان الترابي يعظم الكتب، ويتخذ من عصارتها ما يدفعه لأن يطلق لسانه في غير تحفظ، ويستفيض في كل حديث، إذن مضى الترابي مخالفاً ما دأبت عليه الناشئة التي تنفق سائر يومها في اللعب وتسرف في هذا اللعب، ملبياً ذلك الطموح الشاذ، وخاضعاً لنظمه وتقاليده، وقد ساعده على ذلك والده الذي كان يدعوه إلى التفكر، ويرغبه في القراءة، ويشحذ همته في دروس الفقه والعربية التي يدرسها إياه ماجعله قوي العارضة، متمكناً من ناصية اللغة.

لقد أسرف الترابي في القراءة، وأضنى بها نفسه، واستقبل بعدها فنوناً جديدة من اللغات وضروب المعرفة، مكنته فيما بعد أن يعارض الأنظمة المستبدة بلسانه وقلمه، وأن يخوض حرباً لا هوادة فيها ولا لين، ضد طغمة تريد أن تخرج عباد الله من أرض الله وسمائه، طغمة تريد أن تقدم العلمانية عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي، وتجاهد لأجل تحقيق هذه الغاية، جهاداً يرضاه الغرب ويصطنع له الحيلة، على أن إطلاع الدكتور الترابي وسعة معرفته، تدلنا على شيء آخر له قيمته، فالقراءة التي مدت للدكتور الترابي أسباب الظفر، ومهدت له سبيل الغلبة، كان الدكتور الترابي يذكي نار شعورها، ويشحذ عزمها بكثرة الخلاف، فلم ينتهي هذا العصر إلى ما انتهى إليه من رقي للعقل إلا بفضل الخلاف، والدكتور الترابي كان يتعجل الخلاف، ولا يصطنع الأناة فيه، وكنا نراه مندفعاً فيه شديد الاندفاع، ولم يكن ينطلق في خلافه من فلسفة أملاها الغرور، أو صاغتها الكبرياء، ولكنه كان يطمح أن يهدم طرفاً من أباطيل ظنها الناس من الدين، وأن يقيم الحجة على خطلها وفسادها، كان الشيخ يروم أن تنقطع الأسباب بهذه الترهات، ويمضه ويحزنه إذا وجد تأثيرها ما زال غضاَ باقياً في المجتمعات المسلمة، ولعل في كل هذا ما يشرح لنا كثرة حركة الترابي وقلة استقراره.

لم يكن هدف الدكتور الترابي هو كسب المجد، ونباهة الشأن، كلا، كان هدفه هو أن تمنحه طوائف السودانيون ما تعودت أن تضن به، وهو أن تصيخ له بسمعها، حتى يصور لها حقائق الدين صورة توشك أن تطابق الأصل وتوافقه، ولعل من الخير للباحث أن يقتصد فيقول أن القضية التي شُغل بها الترابي طوال حياته هي الدعوة وتغيير المفاهيم، فالسودان القطر الذي عاش فيه الدكتور الترابي كان يذخر بثقافات وعادات لا تكاد تحصى، أخذت هذه العادات المنحرفة إلى أشد حدود الانحراف ترتبط بمرآة الدين الصافية، وتشوش عليها، وكان الترابي وغيره من العلماء لا يستطيعون أن يجلو هذه المرآة، ويطرحوا الواغش عن صفحتها إلا بجهد عنيف، رغم إقرار الدكتور الترابي أن الغاية التي كانوا ينشدونها هي المصلحة السياسية، ولكن الصفة التي لازمت جل خطابات الدكتور الترابي السياسية منها، والاجتماعية، هي الحديث عن قضايا الدين، وإزجاء النصح لمستمعيه، وتذكيرهم بالحجة القاطعة، والبرهان الساطع، بكرب تعجز النفوس عن احتماله، وتقصر الألسنة عن وصفه، وسعادة لا تضعف أو تتضاءل لمن حالفه الحظ وفاز بها.

وعن إهمال العمل الدعوي في صفوف الحركة الإسلامية يقول الدكتور الترابي: "جُل عملنا في الحركة الإسلامية كان سياسياً وليس دعوياً، وعن نفسي فأنا أتشوَّق أن يكون لي عمل دعوي، وكنا ننظم الناس لابتعاث الإسلام في صورة دولة، وهذا مشروعنا منذ دخولنا حنتوب الثانوية. ولكن القراءات والكتب التي قرأناها كلها كانت تعبوية فقط، مثل معالم في الطريق، وتفسير ظلال القرآن، وكفاح دين، والإسلام عقيدة وشريعة، وحياة محمد لمحمد حسين هيكل، والحكومة الإسلامية، وكانت لنا أشواق للدولة الإسلامية وكنا نبحث للنموذج والتجربة الإسلامية" ألا يحمل هذا الكلام بين طياته هموم نهضة الدين؟ والحركة الإسلامية الذائدة عن حوض الإسلام علاما كان يقوم مشروعها السياسي؟ أليس فكرتها تقوم على الإسلام وبالإسلام وللإسلام؟ لم يكن هم الحركة الإسلامية إذاً أن تملك الشعب السوداني وتتسلط عليه، ولكن كان هدفها أن يهيم السودانيون بالدين، ويظفر عندهم بالإكبار والإعجاب، فقد كانوا خاضعين لحكومات ظالمة متجنية، لا تتحرج من إهانة الإسلام والاستخفاف به، وقد كان يعنيها أن ينصرف الناس عنه، وتغريهم بالتخفف منه، وقد جاهد الدكتور الترابي وحركته في سبيل نهضة الدين أعنف الجهاد وأقواه، بأحاديثهم التي كانوا يديرونها في مدن وقرى السودان، دون إهمال السياسة التي يحسبون حسابها حين يكتبون أو يتحدثون، كان مظهر الحركة الإسلامية في السودان الحديثة العهد بالوجود، يوحي بأن السياسة قد استأثرت بجزء كبير من فلسفتها، فالسياسة هي التي تمدها بالذخائر والسلاح لتنفيذ مشروعها الإسلامي، فعن طريق مشروعها السياسي، يستطيع أن يذعن السودانيون لهذا التغيير الذي يرمي له الترابي وجماعته.

والدكتور الترابي كان همه الذي لا يصده عنه تراكم الأشغال، ومطلبه الذي لا يعوقه عنه تقاذف الآمال، هو الانفتاح على كل المدارس الفقهية، وإذا شئت التعبير الدقيق فقل إنه لم يحصر نفسه في أنماط فكرية بعينها ويغفل عن غيرها، بل سعى أن يستخلص العبرات والعظات من كل مصادر المعرفة، وألا يرتهن أو يتعصب لمدرسة بعينها، فهو يرى في هذا الارتهان تجميد للعقل وحصره في بؤرة واحدة، وعن التوسع في القراءة والاطلاع يقول الترابي للدكتور عبد العزيز قاسم الإعلامي السعودي الذي أجرى معه حواراً مطولاً في صحيفة عكاظ السعودية: "وينبغي أن تمضي حراً ومبدعاً، ولا أقصد أن تعربد بغير هداية، ولكن اقرأ كل الساحات وكل الكتب لكل الشيوخ، وتلك مع تجربتك مصادر للمعرفة تكمل بعضها البعض، وأنا أقول هذا ليس تعالياً على الناس ولكني لست مذهبياً ،فأنا قرأت أغلب كتب الصوفية، وأحفظ كثيراً من أناشيدهم، وأعرف ما لا يعرفه الصوفية عن أئمة طرقهم، فمثلاً كثير منهم لا يعرفون أصل عبد القادر الجيلاني، وأين ولد، وماذا كتب، وكذلك أقرأ كتب الفقه، وأسوح في كتب العلوم، فيا أخي الكريم الفردية أمامنا لله فقط `فبعد الله لا نوحّد أحداً حتى عندما أنشأنا الحركة من أول يوم كانت جماعية ولم يكن لدينا مرشد واحد كما كان للإخوان المسلمين في مصر أو كما هو لكثير من الجماعات الدينية" إذن أخذ عقل الدكتور الترابي يتعمق في المعرفة على اختلاف فروعها، فلن يرضى عنه عقله إذا اختزله في معارف بعينها، وعقله الذي يريد أن يتقصى ويتعمق، يريد أن يفهم الصلة الوثيقة التي تجمع كل هذه العلوم بالذات الإلهية التي تدبر أمره، حتى يشيع فيما بعد الإذعان الخالص لهذه الذات، أو الإذعان المدعم بالدلائل، ومن هنا نستطيع أن نفهم أسباب حديثه الدائب المتصل عن المفهوم التوحيدي الذي ينظر للأشياء كل الأشياء في صورها المختلفة، ويربطها بغايات لا تستطيع أن تتحول عنها أو تنصرف، وعقل الترابي لم يكتفي بالرسائل والمتون، والحواشي والمصنفات، والمجاميع والمجلدات، التي تم تأليفها في محيطه العربي والإسلامي، بل ذهب إلى بيئات متحضرة، وبلغ من الإجادة في إتقان لغاتها، ولعل كل المصاعب التي تلقاها الدكتور الترابي، والمشكلات التي اتسقت منها حياته، هي الحرية الفكرية التي لا يأخذها خوف، أو يتملكها ذعر في الغرب، وبين القيود والأصفاد التي تحد من انطلاق العقل وحصافته في الشرق المسلم، وقد أظهر الدكتور الترابي تململه وضيقه بهذه الأغلال التي تؤطر اندياح الفكر وتكبحه، فسعى قبل كل شيء أن يتخفف من أثقال الأوهام والتقاليد، فشنت عليه الأيدولوجيات التي تتهالك على القديم، ولا تؤمن بأن الحرية التي لا تتعارض مع جوهر الدين تضيف إليه ولا تنتقص منه شيء، فنحن مضطرون إليها بالطبع حتى نتدبر ونعي وندرك، فلا هدوء لنفس، ولا راحة لضمير، ولا قناعة لعقل، حيال أي أمر إذا حاد عن الحرية قليلاً أو كثيرا.

والترابي يحدثنا عن شغفه بالحرية، وولعه بها، منذ أن كان غضاً في حداثة سنه، يقول الدكتور الترابي محدثاً محاوره عبدالعزيز قاسم: "ومن أول يوم كانت نزعة التحرر في نفسي، فأنا أحب الحرية في حركتي في الحياة، والتي هي تعبير عما في نفسي، وقد كنت اهتم بتطوير فكري، وأحاول أن استفيد من العلماء أو العوام، فأنا لا اقتصر على العلماء فقط وإنما أيضاً أسعى للإفادة من العوام ولذلك لو سألتني: من هم الذين تأثرت بهم؟ فإني لا أكاد أحصيهم عددا، إذ استفدت من العديد من الكتاب والمفكرين بمختلف اللغات، وفي الحركة الإسلامية انفتحت على تجارب متنوعة للإسلاميين في مصر، وباكستان، والثورة الإسلامية في شمال أفريقيا، والثورة الإسلامية في إيران، والثورات الغربية، والديمقراطيات والعلوم الاجتماعية في الغرب أيضاً". لن نجد قامة فكرية تخبرنا في تواضع جم، وهي ترسم ابتسامة ساذجة على ثغرها، بأنها كانت لا تتوانى حتى من التعلم من غمار الناس وزمعهم، فالترابي كان يعني بما لا يحب أن يعنى به أحد، وقد يستنكف البعض حتى من الحديث إلى طغام القوم وغوغائهم، تكبراً أو زهداً، ولكن هناك من يستمع ويعي، ويطمح أن يجد فراغا يستطيع أن يحققه، لينقطع إلى هؤلاء، والترابي أبان في حديثه أنه سعى لتطوير فكره منذ أن كان في مقتبل عمره، وأنه اطلع على الثورة الإسلامية، ولم تشغله قضايا الاستبداد الفارسي، والحركات التحررية في الغرب، ولم تحدثه نفسه بأنها دول تناقض نفسها، فهي تنشد الحرية بينما هي تحتل البلدان المهيضة الجناح وتنكل بها، إنما انحاز الترابي إلى الرحيق الفكري لهذه الدول رغبة في علمها، وحرصاً للتعرف على معالم تفوقها.

الآن وقد انتهى الدكتور الترابي من ذكر المصادر التي اقتبس منها علمه، يذكر مصدراً آخر نهل منه العلم في غير نظام ولا اطراد، مصدر اكتسب منه الترابي معظم علومه الحية المستحدثة، وتغلب فيها على عسر تعلم اللغات ووعورتها، رغم أن هذه المدرسة ضيقة أشد الضيق، محدودة للغاية، لا تكاد تتسع إلا لفئة قليلة من الناس، ورغم أن الأجواء في هذه المدرسة متنافرة متدابرة، إلا أن شيخنا استطاع أن يتصل فيها بثقافة الغرب، ويحيط بأدبه، ويطوف بفنه، ويتقن فيها اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويلم بالألمانية الماماً زلل له قراءتها، وإن لم يتمكن من ناصيتها تماماً، وقد درس الدكتور الترابي في دجنة السجون وغياهبها، الأخلاق، والفلسفة، والحياة القديمة التي انقضت أيامها في الدول الغربية، والمثل العليا في الحياة الغربية التي تغيرت في نفوس الشعوب تغيراً شديداً، واستعرض فيه الآداب الأوروبية الحديثة التي نشرها رهط من المؤلفين والنقاد الغربيين، كما تنقل الدكتور الترابي في مذاهب الحركات الإسلامية ومدارسها، واستعرض حياة الثائرين على أوضاع المسلمين، وكيفية مجابتهم للعاديات والخطوب، وقد تطرق الدكتور الترابي إلى تجربته في السجن وعدها من أنضر مراحل عمره، رغم ما اكتنفها من نقم ونوائب، يقول الدكتور الترابي:" إن دخول السجن كان أفضل وأمتع أيامه وتجاربه، وأضاف: كنت أبحر في الكتب متأملا ولا يشغلني شيء أو أحد، وقد زادتني هذه الأيام قوة وثقافة ولم تضعفني، قرأ الدكتور الترابي مؤلفات الأفغاني، ومحمد عبده، والمودودي، ومحمد إقبال، وغيرها من الكتب القديمة حيث أقرأها برؤية جديدة، وذكر أنه قد انتفع من كل ذلك".

هذا الترابي في محنته وشدته، فلننظر لحاله وهو ينعم بالحرية، ويحتفظ باستقلاله، نريد أن نقف على الكيفية التي ينتهجها الدكتور الترابي في تدبر الكتب وقراءتها، أما عن الكتب الأثيرة عنده، حسب إفادة ابنته "أمامه" لم يكن شيخ حسن يدون تعليقاته في حواف الكتب التي يقرأها، فالكتب التي يطلع عليها لا يطرأ عليها أي تغيير، بل يخال من يراها كأنها مازالت جديدة وفي ثوبها القشيب، وكان الكتاب الأثير عنده والذي لا يمل من كشف دقيق أغراضه، وخفي مقاصده، وبديع إشاراته، هو كتاب "لسان العرب" الذي كان شيخ حسن كثير الرجوع إليه، ويستعين به في فهم دلالات الألفاظ التي ورد كثير منها في الكتاب الخاتم، الذي خلعت الفصاحة عليه زخرفها، وهذا يقودنا للحديث عن مصحف الشيخ والذي هو برواية حفص عن عاصم، كان الشيخ رحمه الله يتلو منه ما تيسر له في كل يوم، فقد كان الدكتور حفياً بذلك المصحف، ففيه يجد طمأنينة القلب، وهدوء النفس، وصفاء الضمير، وقد أمعن الشيخ في الشروح، والحواشي، والتقارير، التي كان يدونها ليبين الاختلافات في الروايات بين قراءة الدوري وورش عن حفص والتي وجدت موجودة بخط يده".

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم