شهادات ومذكرات

علي حسين: ذكريات في يوم اللغة العربية

غدا الثامن عشر من كانون الاول، يحتفل ابناء لغة الضاد، بيوم اللغة العربية التي مهما عرفنا عنها وقرأنا في سيرة اعلامها، فهي كانت وستبقى  أخصب اللغات.

 وسواء رافقتنا اللغة في حياتنا اليومية أو في كنوز القواميس. فان لكل كلمة صورتها التي تترسخ في الذهن.. ولعل اول درس يجب ان يتعلمه العامل في مهنة الصحافة ان اللغة يجب ان ترافقه في عمله اليومي.. وان للكتابة شروطها التي تبقى اللغة ابرزها، تضاف لها الموهبة.. ولهذا نجد ان البعض يسطر صفحات كاملة دون جملة مفيدة واحدة.

ولحسن حظي فان حبي للغة  العربية تأتى من تعلقي المبكر بقراءة كتب طه حسين، الذي يحتل مكانة خاصة عندي، قرأت جميع كتبه وما كتب عنه وقلدته وانا صبي بان ارتديت نظارات سوداء، بل تمنيت في لحظة من لحظات جنون الصبا لو اصبحت بصيرا مثله، واعثر على واحدة مثل سوزان تقرأ لي .. وخلال سنوات الارتباط بالكتاب، كنت ولا زلت كلما اشاهد كتابا عليه اسم طه حسين اجد يدي تتلقفه وكأنني أقرأ اسم طه حسين للمرة الاولى .. واتذكر عندما خطفت من المكتبة التي اعمل فيها كتاب " تجديد ذكرى أبي العلاء " ورغم ان الكتاب كان صعب المراس على صبي في عمري آنذاك، لكن رحلتي مع طه حسيت استمرت، وشغفي بقراءة " ابي العلاء المعري " ترسخ مع مرور الزمن، فكيف لا اعجب بالمعري وطه حسين يخبرني انه مثله الأعلى، ذلك المفكر والشاعر الذي " وقف حياته في دار من دور المعرة على الدرس مُمعنا فيه . غير معني إلا به، محرما على نفسه ما اباح الله للناس من طيبات الحياة " – طه حسين الايام –  . كان طه حسين ذلك الفتى الفقير الذي قهر ظروف حياته وبيئته، واستطاع ان يصبح عميدا للادب العربي . وحينما افكر الآن باثر رجعي اكتشف ان كتب طه حسين كانت دليلي في الكثير من القراءات سواء في التراث او الفكر الغربي، فقد كنت احرص على تتبع ما يقوله في كتبه، وابحث  بين صفحات مؤلفاته عن الاسماء التي تتقافز بين سطور " حديث الاربعاء "، حيث يمضي القارئ ساعة مع الحطيئة وساعة اخرى مع لبيد وساعة ثالثة في صحبة كعب بن زهير، وتتنظر القارئ  اكثر من ساعة مع قيس ابن الملوح  وياخذ طه حسين بيديك ليدخلك عالم زعيم الغزليين عمر بن ابي ربيعة " /، وتنتظرك ساعات وساعات في حضرة ابي نواس . وفي كتابه الممتع  " قادة الفكر "  وجدت نفسي وجها لوجه امام سقراط وتلميذه افلاطون وحفيد المدرسة السقراطية ارسطو، وتتوقفت رحلتي في القراءة   كثيرا عند كتابه " الوان " حيث  كان ينتظرني فولتير وكافكا وسارتر واوغست كونت وروسو، ومع كل كتاب اقرأه له اتذكر وصيته التي كتبها في مقدمة كتابه " تجديد ذكرى ابي العلاء " من ان الباحث في شؤون الادب :" ليس عليه أن يتقن علوم اللغة وآدابها فحسب، بل لا بد له أن يلم إلمامًا بعلوم الفلسفة والدين، ولا بد من أن يدرس التَّاريخ وتقويم البلدان درسًا مفصلًا، و لا بد له من أن يدرس علم النَّفس للأفراد والجماعات إذا أراد أن يُتقن الفهم لما ترك الكاتب أو الشاعر من الآثار" . وفي رحلتي مع طه حسين كنت اتتبع المصادر التي اغنت حياته الفكرية، واتخيل المكتبة التي  كان يمتلكها، وقبل ايام وانا اقرأ بكتاب الدكتور صبري حافظ " طه حسين ذكريات معه " وجدت وصفا لمكتبة العميد حيث يكتب صبري حافظ :" فادحلني الى غرفة مكتب فسيحة ومحاظة جدرانها جميعا بمكتبات رصت فيها الكتب بشكل انيق " وتذكرت ما كتبه طه حسين في الايام وكيف ان اخاه الشيخ احمد كان يقتطع من قوتهما ما يجلد به الكتب المهمة ويحتفظ بها في اعن ما كان بالغرفة من أثاث، وهو الدولاب الذي اشتراه خصيصا لذلك . وفي كتابها ذكرى طه حسين تتحدث تلميذته سهير القلماوي بصفحات جميلة عن المكتبة واهتمام طه حسين بكتب التراث، ومما اثار اهتمامي وانا اقرأ فصول كتاب " حديث الاربعاء "  وجود  كتاب الاغاني  لابي الفرج الاصفهاني كمصدر مهم من مصادر دراسته للشعر والشعراء العرب . وكنت اثناء عملي في المكتبة اشاهد اجزاء كتاب الاغاني بحجمها الكبير تحتل مكانا واسعا على احد الرفوف .كتاب ضخم الحجم، متعدد الاجزاء، اشبه بموسوعة  او دائرة معارف، ويذكر مؤرخوا الادب ان مؤلفه  امضى خمسين عاما في كتابته، يسافر ويستمع ويسجل  ثم يكتب منه فصولا حتى تجاوزت اجزاءه الخمسة وعشرين مجلدا، ويخبرنا ابن خلكان في كتابه وفيات الاعيان" انه كان يستصحب في اسفاره حمل عشرة جمال من كتب الادب والتاريخ، ولما حصل  على كتاب الاغاني لابو الفرج الاصفهاني  لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره  لاستغنائه به عن سواه ..

في اثناء عملي في المكتبة ، كانت الكتب التي تصل كثيرة جدا، وكنت اصاب بالحيرة  في اختيار ما اقراه، وكنت اسال نفسي هل استطيع قراءة كل هذه الكتب، بالطبع لا، يكتب امبرتو إيكو :" تزخر المكتبات الجيدة بملايين الكتب، ولو افترضنا أننا نريد قراءة كتاب كل يوم، فهذه 365 كتابًا في العام، ولو فعلنا ذلك على مدار 10 سنوات، فسنقرأ حوالي 3600 كتابًا، ولو تسنى لأحد أن يفعل ذلك من سن العاشرة حتى الثمانين، فسيكون قد قرأ 25,200 كتاب وحسب " .

هل قرات  يادكتور كتاب الاغاني كاملاً ؟ هل هو كتاب جيد ؟ سألت نذات يوم العلامة علي جواد الطاهر، فابتسم وهو يروي لي حكايته مع الكتاب والمقالات التي كتبها عن تحقيق الكتاب وانه اختار عنوانا مثيرا لمقاله " "فضيحة تحقيق الاغاني "، وعندما لاحظ الراحل علامات الحيرة تملأ قسمات وجهي ابتسم وهو يقدم لي واحدة من نصائحه الثمينة :" احرص على أن تكتشف الكتب بنفسك "، ثم شرح لي ان اعتراضه  كان على بعض الهفوات في التحقيق وليس على الكتاب الذي يصفه المستشرق ريجيس بلاشير بانه كتاب :" غطى كل ما تقدم من تراجم الشعراء " ..اعرف انني حرصت على اقتناء كتاب الاغاني بعد نصيحة العلامة الطاهر، وكنت  كلما يصل الى المكتبة جزء جديد من الكتاب، اتناوله واذهب به الى البيت واقرا منه صفحات على مدى ايام ثم اتركه، واعود اليه عندما يصل الى المكتبة مجلد جديد منه، لكني حرصت على معرفة تفاصيل حياة المؤلف ابو الفرج الاصفهاني، وكنت مندهشا وانا اقرأ انه كان يتلصص على مجالس الوزراء  والشعراء والجواري والمغنيات ليحصل على معلومة جديدة يضيفها لكتابه، وان حكايته تشبه حكاية الكاتب الفرنسي  موريس لوبلان الذي كان مهتما بدراسة علم النفس، اذ وجد نفسه ذات يوم امام طلب صديقه ناشر احدى المجلات ان يكتب له قصه مغامرات مشوقة، انذاك احس لوبلان بالحرج فهو لم يجرب كتابة القصة، لكنه امام الحاح صديقه ارسل للمجلة بعد شهر  مظروفا يتضمن قصة  تتحدث عن مسافر في احدى السفن التابعة لشركة الخطوط البحرية الفرنسية . وفي عرض البحر يتلقى عامل التلغراف  برقية تقول ان على ظهر السفينة لص مشهور اسمه ارسين لوبين تحت اسم مستعار، وفي هذه اللحظة تتسبب عاصفة في انقطاع الاتصال بين السفينة والعالم الخارجي، فيعم الاضطراب في نفوس الركاب لاسيما بعد الابلاغ عن بعض السرقات فوق السفينة، ودارت الشكوك حول الرجل الغامض، الذي يلقى القبض عليه بعد وصول السفينة الى الميناء، نلاقي القصة نجاحا كبيرات بعد نشرها، ويطلب رئيس التحرير من صديقه لوبان ان يواصل كتابة قصص جديدة، لكن الروائي لم يتحمس للامر ويبرر ذلك بالقول : لقد اودعت البطل في السجن، فرد الناشر بقوله :" لابأس دعه يهرب .

يحدد ابو الفرج الاصفهاني السبب وراء تاليف كتاب الاغاني فيقول :" الذي بعثني على تأليفه ان رئيسا من رؤسائنا كلفني جمعه، فجمعت كتابا صغيرا، وعرفني ان هذا الكتاب لايفي بالغرض، وسيكون قليل الفائدة ما لم استمر في تاليفه " .

ومثل سلسلة ارسين لوبين التي امتلات بكم هائل من اللصوص، ورجال الشرطة، واصحاب المتاجر، والسجناء، والباعة في الشوارع، والنساء الجميلات، امتلأ كتاب الاغاني بكم كبير من فرسان الصحراء، والخلفاء والندماء، والشعراء، والجواري  والمغنيات، والسلاطين والصعاليك، وعلماء النحو والكلام ن وقاطعي الطرق، والهازلين . قضى معهم ابو الفرج الاصفهاني خمسون عاما  يخطط فيها اجزاء موسوعته ، يقدم لنا تفاصيل حياة مئات الشعراء والمغنيين، ويتعرض من خلال ذلك لكافة جوانب العصر السياسية والاجتماعية، وكان في كل يوم يذهب الى سوق الوراقين فيحمل الى بيته عشرات المخطوطات يراجعها ويجعل منها مصدرا لكتابه  الذي يمكن ان يوصف بانه كتاب الحضارة العربية شعرا وادبا وعناء وتاريخا وحكايات اعدها اعدها ابو الفرج الاصفهاني لتشغل الاجيال منذ صدور الكتاب وحتى يومنا هذا . كتاب فريد من نوعه في آداب العالم، حيث نجد مؤلفه، يقدّم للقارئ شعراء زمنه والأزمان التي سبقته، ويقدّم المغنين والمغنيات وأصحاب  الأوزان الموسيقية، رابطاً بين هذه الفئات الثلاث بحيث يبدو الشعر والموسيقى الغناء كما كان يجدر بهم أن يكونوا منذ البداية، فنوناً ثلاثة في بوتقة واحدة.

انظر الى مجلدات كتاب الاغاني التي احتلت رفا كاملا في مكتبتي واتساءل : ترى ماذا لو عاش ابو الفرج الاصفهاني في عالمنا اليوم، هل سيتمكن من كتابة موسوعته هذه في زمن مواقع التواصل الاجتماعي وكثرة المشاغل، وعدم اهتمام القراء بمثب هذه التوعية من الكتب .. والاهم من اين لخ ان يجد كل هذه الكتيبة من الشعراء والمغنيين والفرسان والصعاليك والامراء ؟ . وربما يقل البعض ياعزيزي في زمن مواثع التواصل الاجتماعي، سيقى كتاب مثل الاغاني على الرف، فالايام لم تعد ايام مثل هذه النوعية من الكتب التي تجعل من كاتبها ان يعتكف ما يقارب الخمسين عاما في بيت على ضفة دجلة يسةد الصفحات دون كلل او ملل، وعندما انتهى منه حمله ليهديه الى سيف الدولة الحمداني الذي منخه مبلغا زهيدا لم يتجاوز الالف دينار معتذرا .

منذ اول كتاب اضعه في مكتبتي الخاصة، ان يكون لهذا التراث حصة في رفوف المكتبة،  فكان ان تجمعت عندي مئات المجلدات في الشعر والنثر الادبي والفلسفة والتاريخ، وكنت ولا ازال ومن خلال تجربتي الخاصة، والتي اتمنى ان لا يعتبرها البعض نوعا من الاحتماء بالقديم، اجد ان القراءة الجادة لن تكتمل إلا بالتوجه الى قراءة التراث ايضا.. لكن للاسف لاحظت في السنوات الاخيرة ندرة قراء التراث العربي، واصبح من الصعب ان تشاهد شابا يحمل رواية لدوستويفسكي ومعها احد كتب التوحيدي، او ان يقرأ البير كامو وينتبه الى فيلسوف متمرد من عينة الجاحظ، او الهيام بتشاؤم شوبنهاور وعدميته، وعدم الانتباه الى ان ابن الرومي سبقه بمئات السنين في اشاعة هذه الفلسفة، ونتغنى بشك ديكارت ولا ننتبه لشك ابن سينا، ونبحث عن حكايات طروادة وننسى ان التراث العربي مليء بمئات الحكايات لاتقل روعة واهمية .

كان الأقدمون يصفون المتضلّعين بأن اللغة طوع بنانهم. وكان صاحبنا طه حسين إذا كتب تتراقص من حوله حروف اللغة،  وكان يصر على ان اللغة العربية :" ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور بالقياس إلى الأفراد من حيث هم أفراد أيضًا. وإذا كان هذا حقّا فنحن نتعلم اللغة العربية ونُعلِّمها لأنها ضرورة من ضرورات حياتنا الفردية والاجتماعية، ووسيلة أساسية إلى منافعنا مهما تختلف قربًا وبعدًا ويسرًا وعسرًا، وسهولة وتعقيدًا " – طه حسين مستقبل الثقافة –

هل اللغة يجب ان نحافظ عليها كما جاءت في القواميس ؟ يخوض طه حسين معركة من اجل تطوير اللغة العربية ويكتب في واحدة من مقالاته :" أن اللغة العربية هي الأداة الطبيعية التي نصطنعها في كل يوم بل في كل لحظة ليفهم بعضنا بعضًا، وليعاون بعضنا بعضًا على تحقيق حاجاتنا العاجلة والآجلة، وعلى تحقيق منافعنا الخاصة والعامة، وعلى تحقيق مهمتنا الفردية والاجتماعية في الحياة إن كانت لنا مهمة في الحياة، ونحن نصطنع هذه الأداة ليفهم بعضنا بعضًا كما قلنا ولنفهم أنفسنا أيضًا، فنحن إنما نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نعرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه الألفاظ التي نقدرها، ونديرها في رءوسنا ونُظهِر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد" . هل كان طه حسين مع تجديد دماء اللغة العربية، وهو الكاتب المولع بالتراث والمتعمق فيه ؟، سنجد احد الاجوبة في كتاب ممتع بعنوان " مكتوب على الجبين " تاليف جلال امين، وفي واحدة من المقالات يخبرنا عن رؤيته لطه حسن للمرة الاولى وجها لوجه رغم علاقة الصداقة بين والده الكاتب المعروف احمد امين وبين طه حسين، إلا انه لم يقابله سوى هذه المرة ، وكانت داخل مجمع اللغة العربية، عندما اراد المجمع ادخال مفردات اقتصادية الى القاموس العربي يقول جلال امين :" شاهدت طه حسين وهو يدخل القاعة بصحبة سكرتيره.... وأخذنى أحد الحاضرين من يدى ليقدمني إلى طه حسين لمصافحته، وذكر له بالطبع أنني ابن الأستاذ أحمد أمين، فرحب بي بلطف. كان فى الحجرة نحو عشرين شخصا، تسلموا كلهم فى يوم سابق على الجلسة نسخة مما أعددته من مصطلحات وتعريفات، وبدأت أتلو عليهم مصطلحاً بعد آخر حتى وصلت إلى مصطلح (الانكماش)، كمقابل للمصطلح الإنجليزى (Deflation) وقرأت تعريفي له بأنه انخفاض مستوى الإنفاق والدخل والأسعار... إلخ، فإذا بأحد الأعضاء يهب واقفا معترضاً بشدة على استخدام هذه الكلمة (الانكماش) لوصف حالة كهذه، وقال أن القواميس تقول (كمش الحصان أى أسرع فى سيره)، وهو عكس المعنى الذى أقوله، والذي يتضمن ركوداً وتباطؤاً فى الحركة. عرفت فيما بعد أن هذا المعترض رجل مهم هو الأستاذ عباس حسن صاحب الكتاب الشهير (النحو الوافي)، وكان يعتبر من أقدر اللغويين العرب الأحياء، إن لم يكن أقدرهم على الإطلاق. نظر طه حسين فى اتجاه الرجل وقال بصوته الفخم (جبتها منين دى يا عباس؟). فإذا بعباس حسن، وكان لايزال واقفاً، يجيب بحماس، وقد رفع بيده كتاباً ضخماً، بأن هذا هو ما يقوله (لسان العرب) . توجه طه حسين بوجهه فى ناحيتي وسألني: (هل درجتم، أنتم معشر الاقتصاديين، على استخدام هذا المصطلح، أي الانكماش، بهذا المعنى؟) . أجبته بالإيجاب، فإذا بطه حسين يفاجئ الجميع بقوله لعباس حسن (طز يا عباس!) . ثم قال ما معناه أنه إذا كان العمل قد سار على ذلك، واستقر استخدام الاقتصاديين للفظ بهذا المعنى فلا ضرر من ذلك، ويجب على المجمع أن يقره. كان هذا كافياً لأن يلتزم عباس حسن الصمت، وأن أستمر أنا في قراءة بقية المصطلحات " .

يخبرنا ابو فرج الاصفهاني في كتابه " الاغاني " ان ناقدا سمع أبا تمام ينشد قصيدته المشهورة:

أهُنَّ عَوادي يُوسفٍ وصَوَاحِبُه

فعزمًا فقدمًا أدركَ السُّؤل طالبُه

فقال له: لمَ لا تقول ما يُفهم؟ فأجابه أبو تمام: ولم لا تفهم ما يُقال؟

ولعل عبارة " لمَ لا تقول ما يُفهم؟ "، نحتاجها اليوم مثلما نحتاج " لم لا تفهم ما يقال؟" ونحن نستذكر لغتنا العربية وسط غابة من الكتابات الشائكة، الكثير منها كأنه يُكتب للمختصين فقط، ولامكان فيه للقارئ العادي . في مرات كثيرة كنت اتوقف عند كتاب  الناقد رونان ماكدونالد "موت الناقد"  الذي  تدور فكرته حول الجدل الدائر منذ أكثر من نصف قرن عن دور الناقد في فهم العمل الأدبي وإفهامه للقارئ، وعن كون المؤلِّف مبتكراً أم شخصاً يستعير من الثقافة، وعن كون القارئ هو الحكم النهائي على ما يقرأ لأنه هو المتلقّي في النهاية.

في عيد اللغة العربية  اتذكر ذلك الصبي الذي شغف بحكايات ابو الفرج الاصفهاني والتي لا تزال تبعث في نفسه الدهشة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم