شهادات ومذكرات

عبد الباسط هيكل: الشيخ مصطفى عبد الرازق.. الإمام الفيلسوف

ينحدر الشيخ مصطفى عبدالرازق من أسرة عريقة في العلم والسياسة والعمل الوطني، فوالده “حسن بن أحمد بن محمد بن عبدالرازق” الذي يُعرف في كُتب التاريخ باسم “حسن عبدالرازق” من مؤسسي حزب الأمة ٢٠ سبتمبر ١٩٠٧، كان له دور وطني  في ثورة ١٩١٩، وما تبعها من أحداث حتّى اغتيل أمام مقرّ حزب الأحرار الدستوريين في ٦ نوفمبر ١٩٢٢، وعمّه محمود باشا عبدالرازق، هو من رعى الجمعية الخيرية التي أنشأها الإمام محمد عبده؛ حتى آتت ثمارها في الحياة الاجتماعية والفكرية، وأخو الشيخ مصطفى عبدالرازق هو القاضي علي عبدالرازق المعروف بكتابه “الإسلام وأصول الحكم” سنة ١٩٢٦.

وُلد الشيخ مصطفى عبدالرازق بقرية أبو جرج من قرى محافظة المنيا عام ١٣٠٤هـ – ١٨٨٥، الابن الرابع بين سبعة أبناء وبنتين، التحق في سن السادسة بكتّاب القرية، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ شيئا من القرآن الكريم، وفي سنّ الحادية عشرة التحق بالجامع الأزهر.

يُعد الشيخ مصطفى عبد الرازق، أقرب الأزهريين إلى الأستاذ محمد عبده، وأكثرهم تأثرا به فكريا وعاطفيا؛ حتى أنه توقّف عن الدارسة بعد موت الإمام قرابة عامين لشدة حزنه على رحيله، ومتأثرا بالأجواء الصدامية التي عاشها الإمام في آخر حياته، فأول كتاب بعنوان “الإمام محمد عبده” كتبه الشيخ مصطفى عبد الرازق عام ١٩١٤م.

بدأت علاقة الشيخ مصطفى بالإمام محمد عبده مبكرا منذ الطفولة، فكان الإمام صديق والده ورفيقه في العمل الوطني، وعندما سطعت شمس الإمام المعرفية بدروسه المسائية في الرواق العباسي بالأزهر على مدار سبع سنوات – كان الشيخ مصطفى طالبا بالأزهر، فلم ينقطع عن دروس الإمام الذي شجّعه على القراءة خارج مناهج الأزهر التقليدية، فقرأ العديد من الكتب في الفلسفة والأدب والتاريخ وعلم الاجتماع، حظي الشيخ مصطفى عبدالرازق بصحبة أطول مع الإمام من صحبة الشيخ المراغي الذي كان يعمل في السودان بترشيح من عبده، فلم يجلس الشيخ المراغي إلى دروس الإمام كما تداولت بعض المراجع، ولم يكن شاهدا على صراع الإمام مع الخديوي عباس الثاني، والمحافظين داخل الأزهر مثلما شاهدها الشيخ مصطفى عبدالرازق.

كذلك ارتبط الشيخ مصطفى عبدالرازق بصداقة قوية مع الدكتور طه حسين، فيروى الدكتور حسن محمود أنّه كان يرى “الشيخ الجليل في رقّته وحيائه يسير عصر كل يوم في الطريق الزراعي الطويل المنبسط أمام القرية منفردا حينا أو بصحبة صديقه د. طه حسين وزوجته الفرنسية، وكانا ينزلان صيف كل عام ضيوفا على آل عبدالرازق.

فعندما يعود أبناء حسن باشا عبدالرازق إلى القرية تدبّ في القصر الكبير الحياة، وإذا بهم في تواضع العلماء وسخاء أهل الريف يخالطون الكبير والصغير، ويعرفون أهل القرية شيوخا وشبابا وأطفالا يُلاطفون، ويسألون.. والقصر مأوى للغريب والمحتاج والموائد حافلة ليل نهار بالضِّيفان من كل فجّ.. كانوا قدوة في البرّ بالنّاس والتّرفق بأهل القرية يُعينون المحتاج، ويُعلمون الفقير، ويُشجعون على العلم… وإذا سافر أبناء قرية أبو جرج للدراسة في القاهرة فإنّه يُكتب في خانة ولي الأمر، بيت عبدالرازق إشارة إلى قصر آل عبد الرازق في القاهرة خلف قصر عابدين، يلتقي فيه يوم الجمعة أبناء أبو جُرج في القاهرة”.

ويقدم أحمد أمين صورة لمنزل صديقه الشيخ مصطفى عبدالرازق بقوله: “كان منزلا يحتفظ بالتقاليد القديمة لبيوت الأسرة الكبيرة، يكثر زوارها وتمد موائدها غداء وعشاء، وكان أصدقاء الشيخ من الشباب ينفردون بحجرة في البيت يتلاقى فيها شبان الحقوق ببعض الشبان الذين يتعلمون في أوروبا، فتثار المسائل”.

ففي منزل آل عبدالرازق كانت تنعقد اجتماعات مجلة السّفور، وفيه أعلن عن قيام “الحزب الديمقراطي” ووضع مصطفى عبدالرازق، ومحمد حسين هيكل، وعزيز ميرهم، ومحمود عزمي، ومنصور فهمي في ١٠ سبتمبر ١٩١٩، ميثاق الحزب الذي خرج منه الوفد، وحزب الأحرار الدستوريين والحزب الاشتراكي المصري.

بعد حصول الشيخ مصطفى عبدالرازق على العالمية من الأزهر دُعي للتدريس في مدرسة القضاء الشرعي، إلا أنّه استقال بعد عام، وسافر إلى فرنسا سنة ١٩٠٩، ليُدرس في السوربون، ثم انتقل بعد عامين إلى جامعة ليون سنة ١٩١١، ليُحاضر في أصول الشريعة الإسلامية، واضطرته ظروف الحرب العالمية الأولى إلى أن يعود لمصر سنة ١٩١٤، بعد أن حصل على درجة الدكتوراه برسالته: “الإمام الشافعي أكبر مُشرّعي الإسلام”، وترجم إلى الفرنسية بالاشتراك مع برنار ميشيل رسالة التوحيد للإمام الشيخ محمد عبده، كما ألّفا معا كتابا باللغة الفرنسية عن الشيخ محمد عبده.

عُيّن الشيخ مصطفى عبدالرازق موظفا في المجلس الأعلى للأزهر سنة ١٩١٥، ثم مفتشا بالمحاكم الشرعية سنة ١٩٢٠، وفي سنة ١٩٢٧، انتقل الشيخ إلى جامعة فؤاد الأول بترشيح من الدكتور طه حسين؛ ليعمل أستاذا مساعدا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب حتّى صار أستاذ كرسي الفلسفة سنة ١٩٣٥م، وُصف الشيخ بأنّه رائد الفلسفة الإسلامية لإدراجها ضمن الدراسات الجامعية في الجامعة المصرية الأهلية، لكنه كان ينفي، ويُؤكد أنّ رائد هذا العمل هو المستشرق الإيطالي “سانتلانا”.

التفّ حول الشيخ فترة عمله بالجامعة ١٩٢٧-١٩٤١، عدد من صفوة الطلاب أصبحوا فيما بعد أساتذة للفلسفة والاجتماع، منهم: توفيق الطويل، وعلي النشار، ومحمد عبدالهادي أبو ريدة، وعثمان أمين، ومحمد مصطفى حلمي، وأحمد فؤاد الأهواني، قدّم لتلاميذه شخصيات لم تكن قد نالت حظها من الدرس والبحث، أمثال البهاء زهير الذي يمت إلى مصر والمصريين بصلة، والليث بن سعد، فقيه مصر الأول، والكندي فيلسوف العرب، والفارابي المعلم الثاني، وفخر الدين الرازي، ومن كتبه في الدراسات الفلسفية “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”، “فيلسوف العرب والمعلم الثاني”.

عرف الشيخ طريقه إلى الصحافة منذ كان طالبا بالأزهر، فشارك شباب جيله من المثقفين  الكتابة في مجلة “الجريدة” حتى أغلقت في ٣٠ يوليو ١٩١٥، وشارك في جريدة “السفور” التي أصدرها “عبدالحميد حمدي” أحد أعضاء حزب الأمة، فكان من الأقلام التي كتبت في جريدة “السفور” مصطفى عبدالرازق، ومحمد كامل البنداري، وعزيز ميرهم، ومحمد حسين هيكل، ومحمود عزمي، ومنصور فهمي ومحمد أحمد الغمراوي، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد كامل سليم، ومحمد عبدالواحد خلاف، وأحمد زكي، وأحمد أمين.

وكان الشيخ مصطفى عبدالرازق أول شيخ أزهري يتولى وزارة الأوقاف، حيث تولّاها تسعِ مرّاتِ على فترات من ٢٧ أبريل ١٩٣٨م حتى ٢٧ ديسمبر ١٩٤٥م، كان فيها نموذجا للنزاهة والصدق والسماحة، أولاها: في وزارة محمد محمود، والثانية: في الفترة من ٢٧ أبريل ١٩٣٨حتى ٢٤ يونيو ١٩٣٨، وبعد أن استقالت الوزارة، وعندما أعاد محمد محمود، تشكيل وزارته الرّابعة أسند إلى الشيخ مصطفى عبدالرازق بك وزارة الأوقاف للمرة الثالثة من٢٤ يونيو ١٩٣٨حتى ١٨ أغسطس ١٩٣٩، وفي وزارة حسن صبري الأولى من ٢٧ يونيو ١٩٤٠ – ١٤ نوفمبر ١٩٤٠، أسند للشيخ وزارة الأوقاف للمرة الرابعة، وشغل الوزارة للمرة الخامسة في حكومة حسين سري الأولى من ١٥ نوفمبر ١٩٤٠ – ٣١ يوليو ١٩٤١، واختير وزيرا للأوقاف للمرة السادسة، وهو يحمل لقب باشا في وزارة حسين سري الثانية من ٣١ يوليو ١٩٤١ – ٤ فبراير ١٩٤٢، وتولّى الشيخ وزارة الأوقاف للمرة السابعة في وزارة أحمد ماهر الأولى من ٨ أكتوبر ١٩٤٤ إلى ١٤ يناير ١٩٤٥، وللمرة الثامنة في حكومة أحمد ماهر الثانية في الفترة من يناير ١٩٤٥، إلى ٢٤ فبراير ١٩٤٥، التي انتهى عملها باغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر، وأتت بعدها حكومة محمود فهمي النقراشي التي أسندت وزارة الوقاف للمرة التاسعة والأخيرة إلى الشيخ مصطفى عبدالرازق.

 ففي ٢٢ أغسطس سنة ١٩٤٥، أصبح منصب شيخ الأزهر خاليا بوفاة الشيخ مصطفى المراغي، فرشّح الملك فاروق الشيخ مصطفى عبدالرازق لمشيخة الأزهر؛ ما أثار أزمة بين القصر وهيئة كبار العلماء، إذ أنّ قانون الأزهر ينصّ على اختيار شيخه من بين أعضاء هيئة كبار العلماء، وقدّم الشيخ مأمون الشناوي وكيل الأزهر حينها استقالته من منصبه احتجاجا على تخطّيه في الاختيار، وهذا ما دفع وزارة النقراشي إلى تعديل قانون الأزهر، فألغت الشرط الخاص بعضوية هيئة كبار العلماء، وعدّلت المادة التي تشترط التدريس لمدة عشر سنوات في الأزهر؛ لتصبح خمس سنوات من التدريس في الأزهر أو في جامعة فؤاد الأول أو جامعة فاروق الأول، ووافق مجلس النواب بجلسة ١١ديسمبر ١٩٤٥على تعديل قانون الأزهر، وأسندت إلى الشيخ مشيخة الأزهر في ٢٧ ديسمبر ١٩٤٥.

 لم يستمر الشيخ مصطفى عبدالرازق في مشيخة الأزهر سوى بضعة شهور، فاضت بعدها رُوحه إلى بارئها.. ويروى الدكتور محمد البهي، وزير الأوقاف وشئون الأزهر (٢٩ سبتمبر ١٩٦٢ – ٢٥ مارس ١٩٦٤) في مذكراته: “حياتي في رحاب الأزهر” ما لاقى الشيخ مصطفى عبدالرازق أثناء مشيخته للأزهر (ديسمبر ١٩٤٥ – فبراير ١٩٤٧) من صعوبات ومعوقات من المشايخ وكبار رجال الإدارة الذين حرّضوا الطلاب ضده، ويصل “البهيّ” في سرده إلى دراما ما حدث للشيخ الجليل في آخر يوم من حياته، قائلا: ترأس الشيخ مصطفى عبدالرازق يوم وفاته اجتماع مجلس الأزهر الأعلى، وكان البهي ينتظره في مكتبه بناء على طلبه لحين الانتهاء من الاجتماع، فلما انتهى الاجتماع ودخل المكتب رأيته منفعلا وغاضبا، وقلما كان يغضب، فسألته: “أحدث أمر غير عادى في المجلس؟ فقال: هيّا بنا إلى السيارة لأوصلك إلى المنزل في طريقي، وكنت أنا أسكن في العباسية الشرقية، بينما هو يسكن في منشية البكري.

بعد ذلك، وأثناء الطريق ذكر لي، أنه كان من بين الموضوعات المعروضة على مجلس الأزهر الأعلى: تعليم اللغة الإنجليزية في معهد القاهرة على سبيل الإلزام كتجربةٍ يمكن أن يتضح منها فيما بعد: مدى استعداد طلاب الأزهر وهم كبار في السن لتعلم اللغة الأجنبية، وهذا ما تصدّى الشيخ حسنين مخلوف وكان بحكم وظيفته (مفتى الديار المصرية) عضوا في المجلس الأعلى للأزهر، ووصف قرار الشيخ بتعليم اللغة الإنجليزية في الأزهر بأنه إضعاف للدين، تلك الحجة -على حد تعبير البهي- التي كانت ولاتزال هي الحجة في مواجهة أي تغيير يطرأ على نظام الدراسة أو على الكتب الدراسية أو على المدرسين في الأزهر.. غضب الشيخ مصطفى من اتّهام الشيخ حسنين مخلوف، وواجهه بأنّ إضعاف الدين لا يكون أبدا عن طريق أسرة عبدالرازق، ويكفى أن ينظر أيّ شخص في آثار الجمعية الخيرية التي أنشأها الشيخ عبده، وقام على أمرها محمود باشا عبدالرازق؛ ليحكم على صلة أسرة عبدالرازق بالإسلام، ومدى عنايتها به”.

ويكمل البهي قائلا: “وصلت السيارة إلى منزلي فاستأذنت الشيخ، بعد أن وعدته بالذهاب إليه في منشية البكري في السادسة من مساء اليوم نفسه، لكن من الأسف ما إن وصلتُ إلى منزله حتى علمتُ بالخبر المؤلم، وهو وفاته أثناء استراحته بعد الغداء على أثر أزمة قلبية حادة”، ويُعلق البهي بقوله: “هكذا كانت وفاته بسبب بعض الشيوخ”!

رحل الشيخ عن عالمنا في يوم ١٥ فبراير سنة ١٩٤٧، بعد اثنين وستين عاما، وقد لخّص الدكتور “أبو الوفا الغنيمي التفتازاني” منهج الشيخ في أنّه كان يرى “بناء ثقافتنا وإعادة مجد أمتنا يكون بانفتاحنا على ما هو جديد مع احتفاظنا بالقديم بحيث لا يطغى القديم على الجديد، ولا الجديد على القديم، وأن نكون يقظين تجاه محاولة تشوية تراثنا الفكري الإسلامي، وأن نثق بأنفسنا وبتراثنا الحضاري، وأن ننشر ما لم ينشر منه حتى نحكم عليه الحكم الصحيح”.

***

ا. د. عبد الباسط سلامة هيكل

في المثقف اليوم