شهادات ومذكرات

علي حسين: العيش مع الكتب.. عندما تنقذنا القراءة دائما من اليأس

عندما يسألني احد الشباب وانا اتجول في شارع المتنبي عن افضل الكتب التي عليه أن يقرأها. وهل هماك طريقة مفضلة للقراءة؟، اردد العبارة التي قراأتها في كتاب دانيال بناك " متعة القراءة " والتي يمنح فيها القارئ حقوقا غير قابلة للمساومة أبرزها:" الحق في قراءة أي شيء.الحق في القراءة في أي مكان. الحق في القراءة بصوت مرتفع. الحق في اعادة القراءة. الحق في عدم انتهاء الكتاب. كان بورخس يردد: " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا،اما اأنا فأفخر بتلك التي قرأت ". لكن هل القراءة الزامية؟. اعتقد ان مثل هذه العبارة ستكون قاتلة لمتعة القراءة، فالقراءة لا يمكن أن تكون الزامية.. فهل نتكلم عن السعادة الإلزامية. فالقراءة يجب ان تكون شكل من اشكال السعادة الشخصية..إنها الطريقة الوحيدة للقراءة.

اختارت وهي في العشرين من عمرها طريقا اتضح لها باطراد أنه سيجلب لها الوحدة.. تعرف أنها أتت من عالم كانت النساء فيه مقيدة. كان الرجال والنساء يقطنون عالمين منفصلين بحدة. تصورت نفسها ذات يوم مثل بطلة فلوبير " مدام بوفاري " التي اصرت أن تتمتع بكل ذرة من حياتها.عندما بلغت العشرين من عمرها، قررت أن تستقل بحياتها. استاجرت غرفة من جدتها التي عاملتها مثل المستاجرين الآخرين. اشترت سيمون دي بوفوار بعض الاثاث الرخيص. طاولة وكرسيين ورفوف للكتب. ساعدتها اختها في ترتيب المكان، وضعت على الطاولة بعض الكتب وقلم حبر، فيما امتلأت الرفوف بالكتب التي كانت قد خزنتها في صناديق. نظرت بنشوة إلى المكان تفحصت الكتب جيدا ثم قالت لشقيقتها:" اخيراً بدأت حياتي الجديدة ".

في بداية رواية دون كيشوت يصف سيرفانتس بطله بأنه شخص يقرأ حتى الاوراق الممزقة المرمية في الشارع، هكذا فعلت سيمون دي بوفوار مع الكتب، انها تقرأ كل شيء. في مذكراتها " وانتهى كل شيء " – ترجمة محمد فطومي – تقول ان القراءة لم تكن بالنسبة لها ترويحا عن النفس بل " النافذة التي كنت من خلالها أرى العالم ". قالت لسارتر ذات يوم أن الكتب تضيء لها مستقبلها. في مراهقتها كانت تتعرف على نفسها من خلال الروايات. في مذكراتها تنبهنا الى الكيفية التي تستطيع بها الكتب ان تنمي ارادتنا الواضحة والصريحة، فهذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة " تُوضح لقراء سيرتها كيف اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل االكتب.كانت دائما على وعي بقدرتها على تأكيد ذاتها. الفتاة التي تنتمي الى البرجوازية الصغيرة ظلت تسعى الى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية، كانت تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان ".. وقد ساعدها هذا الموقف ان تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة ".. لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف:" كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها ان تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها المهم " الجنس الآخر"  والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف، ووضع الفاتيكان الكتاب ضمن قائمة الكتب المحرمة، وكتب ألبير كامو مقالاً اعتبر فيه الكتاب رسالة سخرية صوّرت الرجل الفرنسي بشكل سيئ، وقال الكاتب الشهير فرانسوا مورياك:"لقد وصلنا فعلاً الى حدود الوضاعة"، كما هاجمه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اعتبره"إهانة للمرأة العاملة"،وكانت الاتهامات تلاحقها وستتنافس الصحف المحافظة على تحقيرها حيث وصفوها بانها " فتاة مسكينة، عصابية، مكبوتة، مسترجلة، محشوة بعقد ازاء الرجال والنساء، وكتب احد النقاد:" لقد اذلها ان تكون امرأة " وقد صرح البعض بانه لم يكن يحفق لها الحديث عن النساء لانها ليست امرأة. في حين وصفت فرانسو ساغان الكتاب الذي قرأته عندما كان عمرها 15 عاماً، بأنه واحداً من الكتب العظيمة القليلة في زمننا،، وفي عرضها للكتاب ذكرت المجلة الشهيرة اتلانتيك، إن الكتاب يتلاءم جداً مع الوجودية المثيرة للاشمئزاز، إلا أن الكتاب حقق نجاحاً هائلاً في الأسبوع الأول لصدوره حيث نفذت جميع النسخ المطبوعة والتي تجاوزت الثلاثين ألف نسخة، وعندما صدرت ترجمته الانكليزية بيعت منها مليونا نسخة، كما تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في اليابان لمدة سنة كاملة، وأصبح الكتاب المرجع الأساسي لرائدات تحرير المرأة في أوروبا وأميركا.

تعترف بأن القراءة منحت معنى لعملها ككاتبة، فرغم الشهرة التي حصدتها والمكانة التي وجدت نفسها فيها كواحدة من ابرز فلاسفةة الوجودية إلا انها لم تتخل عن عاداتها اليومية في القراءة:" استمر في القراءة كثيراً، في الصباح، في الظهيرة، قبل الشروع في العمل أو عندما اكون مرهقة من الكتابة. اقرأ ساعات باكملها. ما من انشغال يبدو لي طبيعيا اكثر " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي -.

في حوارها مع فرانسيس جانسون وهو يسألها عن الكتب المتناثرة في كل مكان وهل استطاعت أن تغير مصيرها؟ قالت:" دائما ما اسأل نفسي:لماذا التعلق باقراءة؟.. متعة القراءة لم تُمحَ، مازلت اندهش لتحول الرموز السوداء الى كلمة تقذف بي في قلب العالم ".

كانت كتابات سيمون دي بوفوار تثير السخط حتى بين اصدقائها، قال انها تعلمت من المركيز دي ساد كيف تجعل الآخرين يرمون بكتابها الى الجهة الاخرى " ليس امام القارئ التقليدي سوى النفور من كتبي " قالت لجان جينيه يوما أنها تمنت لو كانت قد كتبت كتابا مثل كتابه " يوميات لص " اخبرت سارتر ان كتاب جينيه " واحد من اجمل الكتب ".

ولدت سيمون دي بوفوار في التاسع من كانون الثاني عام 1908،:" كان ابي في الثلاثين من عمره، وامي في الحادية والعشرين "، كانت إبنة لعائلة ميسورة الحال، والدها حسب تعبيرها في وضع وسط بين الارستقراطية والبرجوازية، اما والدتها فامرأة كاثوليكية متدينة، أعطت لابنتها تربية جادة وصارمة وثقافة دينية وشعوراً حاداً بالواجب، لا يعرف المماطلات والتنازلات، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل "، بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركجارد:" علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة او مفرحة، لانها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت ان تعيش حياتها، لانها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا ان تصنع حياتها بنفسها، " ان تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير ".

دارت اعمال سيمون دي بوفوار حول مغضلة العثور على اخلاقية وجودية ايجابية " بعيدا عن الزيف والاستسلام ". وفي القراءة حاولت أن تطبق هذا المنهج:":" انا لا اقرأ أي كتاب، إلا إذا كان لا بد من دراسة نص اجتماعي ". في حوارها مع سارتر قالت انها كانت تقرأ منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، قصص مغامرات وكانت تسأل نفسها احيانا هل هذه القصص متخيلة ام حقيقية:" لم تكن لدي بعد فكرة الخيال المحض التي امتلكتها لا حقا بشكل سريع ".

حينما كانت سيمون دي بوفوار فتاة صغيرة لم تشرك المعرفة بالدراسة او التربية العائلية، بل قارنتها بالتهام الطعام. بالتهامها الكتب فانها تستحوذ على العالم وتجعله عالمها الخاص. في الوجود والعدم يكتب جان بول سارتر ان:" المعرفة يعني أن تأكل بعينيك ". في فترة المراهقة، اصبحت العلاقة بين سيمون ووالديها اكثر حدة، فقد شعرت وهي تنتهي من قراءة مؤلفات نيتشه بانها فتاة منفية في عالم من القيم المزيفة التي سعت للهروب منها قالت:" كانوا يحبسونني في هذا العالم الذي كلفني الهروب منه سنوات من عمري، عالم لكل شيء فيه اسمه، ومكانه، ووظيفته، عالم كل شيء فيه مصنف، ومحكوم عليه قطعيا " – مذكرات فتاة رصينة –

ظلت المقاهي بؤرة الحياة والقراءة بالنسبة لسيمون دي بوفوار.كانت افضل الاماكن بالنسبة اليها ولسارتر فيها تشعر بلذة الدفء، وبلذة القراءة او الكتابة، وغدت المقاهي ايضا اماكن للحديث والجدال الفلسفي " ولابقاء الذهن حيا منتعشا " على حد تعبير بوفوار في كتابها " المثقفون ". هكذا بدأعالم الوجودية المفعم بالاعاجيب والتجريب واعلاء سلطة حرية الفرد.تكتب بوفوار في أول مقال لها نشر في مجلة الازمنة الحديثة عام 1945:" أن البشر احرار، وأنا ملقى بي في هذا العالم بين هذه الحريات. أنني بحاجة اليها " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -. كانت الوجودية بالنسبة لسيمون دي بوفار طريقة لتصور العالم، وجدت ان افكار سارتر تتفق مع رغبتها في التخلص من عالم عائلتها الخانق، واخيرا وجدت فلسفة تشجعها على المضي قدما في مشروعها الثقافي – قراءة وكتابة – اصبح سارتر مصدر الهام اساسي في حياتها، وهو تأكيد سيتكرر في الكتب التي كتبتها عن سيرتها الذاتية:" لقد تبنيت صداقة سارتر ودخلت في عالمه، ليس لأنني كما يزعم البعض امراة، بل لأنه العالم الذي تطلعت اليه منذ رمن بعيد " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي –

كان والدها جورج دي بوفوار يكره اختيار ابنته مهنة التعليم، وذلك لأن من شأن هذه المهنة ادخالها في فئة اجتماعية يحتقر قيمها " كان ينظر إلى الاساتذة بوصفهم متحذلقين، انهم ينتمون الى تلك الطائفة الخطيرة، المثقفين ". لم يطل العمر باأب ليرى اول رواية تنشرها ابنته، كان قد فقد أي أمل برؤيتها " متزنة ". في تلك الفترة كانت عائلتها واصدقاؤها يعتبرونها عقيمه، دمرت الكتب حياتها على حد تعبير والدتها. وكان والدها ينزعج من انكبابها على هذه الصفحات اللعينة كما كان يسمي الكتب. توفي جورج دي بوفوار في الثامن من تموز عام 1941، وعند نهاية شهر أب من نفس العام كانت ابنته سيمون قد انجزت اولى رواياتها " المدعوة " التي صدرت عام 1943.

ظلت القراءة ترافق سيمون دي بوفوار حتى اللحظات الاخيرة من حياتها، في كتابها " ذكريات باريسية " تصف الكاتبة الامريكية ديردر بير شقة سيمون دي بوفوار التي دخلتها عام 1981 حيث اثار انتبهها اريكة وضعتها الفيلسوفة الفرنسية في زاوية من الصالة، عندما لاحظت ان ديردر بير تطيل النظر الى الاريكة، قالت لها انها اريكة القراءة. أنه المكان الذي تقضي فيه معظم وقتها. تصف لحظة القراءة على الاريكة بأنها لحظة ساحرة:" اسحب ستائر غرفتي، اتمدد على الاريكة، يُمحى الديكور، اتجاهل حتى نفسي، وحدها في الوجود الصفحة البيضاء المكتوبة بالاسود التي تجوس فوقها عيناي " – وانتهى كل شيء –، قالت لكاتبة سيرتها ديردر بير ان القراءة وحدها تخلق علاقة جيدة ودائمة بين الاشياء وبينها. فالكتاب جعلها تختار حياتها الحقيقية، عندما قررت ان لا تسمع سوى نفسها، واشتدت رغبتها بالمعرفة. اقنعت والدها الذي كان يتمنى لها حياة اخرى. ان مصيرها مرتبط بالفلسفة والكتاب، فما ما من تجربة تضاهي تجربة القراءة والعيش مع الكتب. تقرأ في المفهى او البيت واحيانا في السيارة " تاخذني الكتب بعيدا جدا. في حالات اقرأ للذة القراءة لا لأكون قد قرأت. انا نهمة فيما يتعلق بالقراءة " قالت لفرانسيس جانسون:" اقرا كثيرا لأعلم. كانت دائما لدي رغبة في المعرفة وفضولي لا حدود له. اردت أن اظل على درية بكل ما يثير اهتمام ابناء زمني " سيمون دي بوفوار مشروع حياة ترجمة ادوار الخراط.

عام 1929 حصلت سيمون دي بوفوار على المرتبة الثانية في امتحان الاستاذية، أي بعد سارتر مباشرة الذي حصل على المرتبة الاولى، ارتبطت بعلاقة مع الطالب المجتهد. كان قد اخبرها منذ البداية انه لا ينوي الزواج منها، لكنه لا يمانع ان تستمر علاقتهما مدى الحياة. قال لها ان الحب الذي يجمع بينهما جوهري واساسي وانهما متماثلات في الشخصية. ان اساس الفلسفة الوجودية التي اعتنقتها سيمون دي بوفوار، كانت ايضا الاساس الفلسفي لعلاقتها مع سارتر. عندما كانا يلتقيات في مقهى " الفلور " كان سارتر يقول لها " لقد توصلت الى نظرية جديدة ". وكانت بوفوار تنصت باهتمام، ثم تشير الى موضوعات اخرى، كان يقول " اعتدت ان تكوني مليئة بالافكار "، هذه الافكار التي كانت تراودها وهي تتمدد على الاريكة وبيدها كتاب يأخذها الى عالم مختلف، هكذا شعرت المرة الاولى عندما قرات مذكرات سارتر " الكلمات "، بهرتها كتب فرويد:" اعلق اهتماما كبيرا على الاعمال التي تظهر لي الانسانية تحت ضوء نهار جديد ".

ما هي الطريقة التي توصينا بها سيمون دي بوفوار ونحن نقرأ لكاتب معين حتى وان كنا نختلف مع افكاره:" القراءة لكاتب نختلف معه، امر عويص حقا، كي يتمتع نص ما بمعنى يجب ان نمنحه الحرية. ان نحسن الصمت في اعماقنا، وان نسمح لصوت الكاتب الغريب عنا بأن يصدح ".

تعترف ان القراءة بالنسبة لها ليست نشاطا لتجميع اللحظات الرائعة في كتاب، لكن في اقامة علاقة بين مختلف الكتب، علاقة تواصل وتكامل، ترى ان الكتب احيانا اكثر توهجا من الحقيقة:" إيما بوفاري حاضرة في حياتي اكثر من اشخاص عرفتهم حقيقة ". تصر على ان الكتاب الذي يجذبها هو الكتاب الذي يجيب على اسئلة طرحتها على نفسها.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

.................

* فصل من كتاب جديد بعنوان " العيش مع الكنب "

 

في المثقف اليوم