شهادات ومذكرات

صادق وجيه الدين: حليمة بوكروشة.. رحيل في أرض الغربة!

انتُقِلَت، منتصف الأسبوع الماضي، الدكتورة حليمة بوكروشة، الأكاديمية الجزائرية التي عرفناها من خلال دراساتها القيّمة، في حقل "أصول الفقه"، وبعض حقول العلوم الإسلامية والقانونية الأخرى، وكانت وفاتها في ماليزيا، حيث تعمل، مند سنوات عدة، أستاذةً في كلية الحقوق بالجامعة الإسلامية العالمية بالعاصمة (كوالالمبور).

وقد كانت أول دراسة وقفتُ عليها للدكتورة الفقيدة حليمة بوكروشة، بنت الجزائر العزيز، في بداية معرفتي بها، قبل حوالي عقدين، وهي تلك التي تناولت فيها تجديد المنهج الفقهي عند الإمام الشوكاني (ت1250ه)، وصدرت في كتاب ضمن سلسلة كتاب الأمة، تحت عنوان: "معالم تجديد المنهج الفقهي: أنموذج الشوكاني"، وأظهر قدراتها العلمية العالية وإمكاناتها البحثية الرصينة، مع أنها كتبته وهي في بداية رحلتها البحثية، فهو -في أصله- رسالتها التي نالت بها درجة الماجستسر، من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ثم حصلت على الدكتوراه من نفس الكلية والجامعة، قبل أن يتم اختيارها للعمل ضمن الهيئة التدريسية في الجامعة.

وبعد اطِّلاعي على دراستها المشار إليها آنفًا، حول الشوكاني، وأنا في آخر مشوار المرحلة الجامعية الأولى (البكالوريوس/ الليسانس)، فقد كنتُ أحرِص بين الحين والآخر، على البحث عن اسمها، في شبكة الإنترنت، للاطِّلاع على ما يمكن أن يكون قد نُشِرَ لها من نتاجات بحثية، قناعةً بأنّها ستأتي على مستوىً عالٍ من الدقَّة والجودة، وما وقفتُ على دراسة لها، إلا وتأكّد لي ذلك.

ومع أني كنتُ مهتمًّا بتتبُّع نتاجاتها المنشورَة، بين الحين والآخر، فإني لم أعلم بجوانب من حياتها إلَّا اليوم؛ فهي مشتغِلة نشطة في العمل الدعوي والإصلاحي ببلادها، منذ ما قبل تمام العقدين من عُمُرها، وكانت لها نشاطاتها الطيبة في الدوائر النسوية، ثم استمر نشاطها هذا في ماليزيا، وكانت لها محاضراتها ودروسها في أكثر من لغة، بعضها متاحة على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت).

وتعزيزًا لما تمَّت الإشارة إليه سابقًا، بخصوص نتاجاتها البحثية؛ فإن لها ما هو متاح على الشبكة، في مجلات علمية ماليزية وجزائرية وغيرها، منها ما هي منفردة بها، ومنها ما هي بالاشتراك، ومن بحوثها المشتركة ما اشتركت به مع زوجها الدكتور سعيد بوهراوة، الذي له هو الآخر من النتاج البحثي الذي يعرفه به باحثون في الفقه وأصوله.

وبحكم أنّ الدكتورة الفقيدة متخصصة في الأصول، وهو الحقل الذي كان فيه الإمام الشافعي (ت204ه) رائده الأول، فقد أبدت اهتمامها به، وممَّا نعرفه لها عنه: "رسالة الإمام الشافعي: بحث في دواعي التأليف"، و"محدِّدات الشخصية الإبداعية عند الإمام الشافعي"، و"الإمام الشافعي والتأسيس للمنهجية الأصولية"، وهذه دراسات دقيقة عميقة، من أجود ما دُرِس به الإمام الشافعي ورسالته الرائدة، ولا سيّما أن رسالتها للدكتوراه دارت حول هذا التأسيس الأصولي عند الإمام الشافعي.

وتوجد للدكتورة حليمة دراسات تكشف حرصها على الجمع في منهجها العلمي بين التأصيل والتجديد، على نحو ما تشير إليها دراستها حول "إشكالية المنهج الأصولي في الفكر الاجتهادي المعاصر"، إضافةً إلى مناقشة قضية من القضايا التي دارت البحوث حولها، في عصرنا الحاضر، بخصوص تفعيل العلاقة بين منهج أصول الفقه ومناهج العلوم الاجتماعية، فكتبت حول "إشكالية التكامل بين مناهج العلوم الاجتماعية والمنهج الأصولي: عرض وتقويم".

وكانت الدكتورة الفقيدة مهتمّةً بالإسهام في دراسة القضايا ذات الصلة بالأسرة، ومما لها يندرج تحت هذا: "قضايا معاصرة في شؤون الأسرة وحمايتها وفق مقاصد الشريعة"، و" تقويم منهجي لمعالجة قضايا الأسرة"، و" العنف الأسري: مدخل للفهم وآليات للتجاوز"، و"الوساطة القضائية في القضايا الأسرية في ماليزيا: تحديات التطبيق وآفاق التطوير".

وتفاعلت الدكتورة مع الدراسات المقارنة بين الشريعة أو الفقه من جهة والقانون من جهة أخرى؛ فنُشِر لها: "الأمن البيئي بين الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية"، و" التحكيم الإلكتروني والقانون الواجب التطبيق في مجال المعاملات الإلكترونية"، و"الوساطة القضائية في تسوية المنازعات في القانون الأردني: دراسة تحليلية نقدية"، و"الجرائم الإلكترونية: ماهيتها وأنواعها والتشريعات القانونية لمواجهتها في القانون العماني"، و"التكييف القانوني لتقنيات التناسل المساعدة: دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون"، و"حرية الرأي والتعبير بين القانون المصري والشريعة الإسلامية"، مع العلم بأن بعض دراساتها في هذا المجال بالاشتراك، مع باحثين كان لها إشرافها عليهم في الدراسات العليا.

وللدكتورة حليمة -رحمها الله- تناولات بحثية لقضايا في باب ما يُعرَف بحقل "الاقتصاد الإسلامي"، منها: "المالية السلوكية في المنظور الإسلامي"، و"حوكمة المؤسسات المالية الإسلامية: تجربة البنك المركزي الماليزي"، و"مستقبل المالية الإسلامية في ظل تصورات نظام الحوكمة والحوكمة الشرعية"، وكلتا هاتين الدراستين الأخيرتين بالاشتراك مع زوجها د.سعيد بوهراوة.

وأسهمت الدكتورة في تقديم قراءات ومراجعات لبعض المؤلّفات؛ فقد وقفتُ، قبل سنوات عدة، على مراجعتها كتاب "الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد" للأستاذ زكي الميلاد، ونُشِرَت المراجعة في"مجلة إسلامية المعرفة"، ومما وقفتُ لها عليه مؤخّرًا مما يندرج تحت هذا، مراجعتها كتاب "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المعاملات المالية المعاصرة" الذي تضافر على تأليفه مجموعة أساتذة، أحدهم زوجها د.بوهراوة.

رحم الله الفقيدة الدكتورة حليمة وغفر لها وعفا عنها وأسكنها فسيح جناته، وعظّم لأهلها وذويها الأجر، وعصم قلوبهم بالصبر..

"إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"..

***

د. صادق وجيه الدين - أستاذ الفكر الإسلامي المساعد

كلية الآداب- جامعة إب

في المثقف اليوم