شهادات ومذكرات

طه جزّاع: قبرٌ في أرض بعيدة

لم يخطر على بالي يوماً أن التقيه في مقبرة بأرضٍ بعيدة، لكن شاهدة هذا القبر الذي بحثتُ عنه طويلاً حتى وقفتُ أمامه أقرأ الفاتحة وألقي السلام، أعادتني إلى ذكريات بعيدة تعود إلى أيام الدراسة الجامعية منتصف السبعينيات، يوم شاء الحظ السعيد أن يكون صاحب القبر الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح واحداً من « أساتذتنا الكبار». كان يومها في الثانية والأربعين من عمره، وفي عز نشاطه وحيويته وحضوره، وكانت سمعته كباحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية والعقائد الدينية والتصوف تملأ الآفاق. وقفتُ أتأمل وأتذكر وأنا في باحة الجامعة الإسلامية العالمية المقامة على مساحة خضراء واسعة محاطة بالغابات الكثيفة في ضواحي ولاية كوالالمبور العاصمة الاقتصادية والثقافية والسياحية لماليزيا، وكانت المقبرة المقامة على تلة داخل أسوار الجامعة تبدو كأنها قطعة من الجنة، الزهور والشجيرات تظلل القبور، والأحجار والحصى الملونة تحيط بها، وشواهد المرمر الصقيل تحمل أسماء المتوفين وتواريخ ولاداتهم ووفياتهم مسبوقة بالبسملة والآيات القرآنية، فشعرتُ أن الرجل الذي قضى جل حياته في خدمة العقيدة الإسلامية لم يمت غريباً في أرضٍ غريبة، سيما وقد التحقت إلى جواره في المقبرة نفسها، بعد سنوات قصيرة على وفاته، عقيلته السيدة أم محمد رحمهما الله. كانت زيارتي للمقبرة في حزيران 2018 فأسترجعتُ آخر مرة التقيته مصادفة في بهو فندق بالعاصمة الأردنية عَمان بعد مغادرته بغداد للتدريس في عدد من الجامعات العربية قبل عشرين عاماً، واتفقنا على أن نلتقي مرة أخرى في مكان ما، لكن بالتأكيد ليس في مقبرة! .3063 نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها

أولئك « الأساتذة الكبار» في قسم الفلسفة بكلية آداب جامعة بغداد، أربعة منهم تخرجوا وحصلوا على شهاد الدكتوراه في الستينيات من القرن الماضي من جامعة كامبيردج في إنكلترا، بل أنهم تخرجوا جميعاً على يدي المستشرق المعروف أرثر جون آربري الذي توفي في العام 1969، أو تحت اشرافه المباشر، وكلهم ذهبوا في بعثات دراسية إلى إنكلترا ليدرسوا الفلسفة والتصوف والعقائد والفرق الإسلامية !!، وهم على توالي حصولهم على الدكتوراه من الجامعة كلاً من كامل مصطفى الشيبي، وحسام محي الدين الآلوسي، وعرفان عبد الحميد فتاح، وناجي عباس التكريتي. أما مدني صالح فهو أيضاً خريج جامعة كامبيردج لكنه اكتفى بشهادة الماجستير، وعاد من دون أن يناقش أطروحة الدكتوراه لأسباب قد تتعلق بطبيعته المتمردة والساخرة من التقاليد الأكاديمية الجامدة!، وآخر الذين تخرجوا من الجامعة نفسها بداية السبعينيات عبد الأمير عبد المنعم الأعسم. ومن خريجي إنكلترا الأوائل الكبار جعفر آل ياسين الذي كان يمتلك حضوراً أكاديمياً متميزاً، لكنه على خلاف زملائه « الأربعة الكبار» لم يحصل على الدكتوراه في الفلسفة من كامبيردج، بل من جامعة أوكسفورد العريقة التي درس فيها أيضاً حازم طالب مشتاق الفلسفة اليونانية، فيما حصل ياسين خليل على الدكتوراه من جامعة مونستر الألمانية، وهو الوحيد من بين أقرانه الذي شذ عن القاعدة في اكمال دراسته العليا في بلد غير إنكلترا، وفي اختصاص غير اختصاص الفلسفة الإسلامية، انما اختار تخصصه في مجال المنطق الرياضي وفلسفة العلوم، وتحديداً عن الفيلسوف الألماني رودلف كارناب ونظريته في الوضعية المنطقية.

تناول عرفان عبد الحميد في أطروحته للدكتوراه « أثر الفكر الإعتزالي في فكر الشيخ المفيد»، ثم توالت مؤلفاته وكتبه المهمة في الفلسفة، والفلسفة الإسلامية، والتصوف، والفرق الإسلامية، منها « المدخل إلى معاني الفلسفة « و» الفلسفة في الإسلام دراسةٌ ونقدٌ « و» دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية « و» المستشرقون والإسلام» و» النصرانية نشأتها وأصول عقائدها « و» اليهودية عرض تاريخي والحركات الحديثة في اليهودية «. أما كتابه عن التصوف « نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها» فقد بدأه بمقدمة أوضح فيها أن كتابه هذا يمثل «محاولة علمية تهدف إلى التعرف على مجمل الحركة الروحية في الإسلام، وذلك باستيعاب جميع العناصر المكونة لها ووعي تام بمراحلها المختلفة المتتابعة من تصوف روحاني معتدل سمح جاء به الإسلام، إلى حركة زهد منظمة اتسمت بالفرار من الدنيا والانقطاع عن الناس واعتزال الحياة، إلى تصور ذي منزع فلسفي خالص ضّم أشتاتاً من الثقافات الأجنبية جاءت مع حركة الترجمة والاختلاط المباشر والاحتكاك الحضاري بالأديان والفلسفات القديمة التي اصطدم بها الإسلام في البلاد المفتوحة». ومن أجل هذا الهدف الذي حدده منذ البدء فإن فتاح يمضي في عرض الاتجاهات العامة للفكر في الإسلام والتصور الإسلامي للألوهية والحياة ودوافع حركة الزهد في الإسلام وتطور الزهد إلى التصوف والمعرفة الصوفية القائمة على أن التصوف وسيلة منتخبة « تؤدي إلى تصفية القلب بقهر شهوات النفس ومغالبة الهوى»، وأما غايتها فهي « الوصول إلى معرفة الله تعالى»، ولقد كان عرفان عرفاني المعرفة، صوفي النزعة، عارفاً بالله حق معرفته، صافي النفس، ساعياً للخير والهداية في منهج وسطي واعتدال إسلامي، مما فتح له القلوب أينما توجه وأرتحل.

وقد استقر به المقام بعد العام 2003 في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا التي عرفت قدره، وحجم مقامه، واعتزت به، واستثمرت وجوده استاذاً في كلية معارف الوحي، واحتضنته داخل حرمها الجامعي حياً وميتاً بعد رحيله في العام 2007 عن عمر ناهز الرابعة والسبعين عاماً.

***

د. طه جزّاع

 

 

في المثقف اليوم