شهادات ومذكرات

عندما تتداخل المناسبات

عندما تتداخل المناسبات

أول يوم من العام السابع؛ بعد الألفية الثانية للميلاد، بدأ بيوم ماطر في سدني؛ رذاذ خفيف لم يكن كافيا لأطفاء حرائق العام الماضي؛ الذي انتشرت في ولاية نيو ساوث ويلز الأسترالية، كانت رسائل الأشجار المحترقة تبعثها الريح تباعا؛ عبارة عن أوراق متفحمة، ودخان كثيف.

غلالة حزن؛ نفس منقبضة؛ وألم متشبث بعناد في أعصاب مرهقة، لم تسعف التمنيات بإزاحته؛ ومع انقشاع غيوم السماء؛ اشرقت الشمس على نهار جديد.

تساءلت .. ماذا أضاف للعام الجديد، غير ترهل الزمن وتراكم ارقام الأعوام،  سيسخر الزمن منا ومن اعوامنا وهو يرانا نودع عاما ونستقبل آخر، وهنا أتذكر قول صديقي أحمد هادي:

" سماء الغد كسماء اليوم، فما ازدادت علوا ولا سموا".

لكنه الأمل يا صديقي الذي يراود الأنسان ويخدعه، والواقع انها أوهام تسالم الناس على تصديقها والتعايش معها.

قبل غروب العام الراحل، أعدم اشهر رجل عرفه تاريخ العراق في العقود الثلاثة الماضية من القرن العشرين، أشتهر بحروبة العبثية، وجبروته وعناده واستهتاره بالحياة البشرية والبيئية، كان مشهد إعدامه معلقا على حبل المشنقة، واستسلامه لقدره ومصيره المأساوي البائس، قد ترك انطباعا غامضا في النفس، شئ من الذهول والصدمة، حزن اسود ينتاب النفس التي يأست ان تزحزح صخرته الجاثمة فوق الصدود.

خرج هذا الرجل  فقيرا ويتيما من وسط الشعب، ليصل لأعلى مراكز السلطة  والحكم، ويتحكم ببلد غني بثرواته؛ وعريق بتاريخه الضارب في  عمق الزمن. فينشر الخوف والرعب في النفوس؛ ويسلط الأشرار ليكتموا الأفواه ويحصوا الأنفاس،  بطريقة استبدادية قل نظيرها في تاريخ العالم، مما أدى بالحياة  ان تنسحب الى أبعد وأضيق زوايا الظلام؛ وتصاب الروح الأنسانية المبدعة، بحالة من الشلل والخمود والموت، وينزوي الأنسان العراقي وارث اول حضارة انسانية، في زوايا النسيان.

إستدعاء الماضي المقييت، هو تعذيب الذات وجلدها بسياط الثأر والكراهية، هو العجز واليأس عن استشراف الطريق للخروج من المأزق، الذي وجدنا انفسنا فيه بإكراه أو بإرادة حرة، لقد كان الرجل من نفس النسيج الأجتماعي الذي كون قيمنا في  تقديس القوة، والبطولات الزائفة التي البست لباس البطولة والرجولة والإقدام

مات صدام الذي هتفت بأسمه  حناجر العراقيين والعرب، سواء كانت مسلتبة، خائفة او متملقة، كما هتفت لجميع الرؤوساء الذين اعتلوا سدة الحكم ثم هووا للحضيض، متى يفيق هؤلاء وينتبهوا لخطرهدير الأصوات التي  تجرفهم في عاصفتها الهوجاء الى الجحيم.

الرجل الذي أعدم في صبيحة العيد، سلب الأطفال رعشة صباحة، لمسة الأيدي التي تمنحهم الفرح، هذا العيد شاهدوا إعدام رجل رأوه من قبل متأنقا في بدلته البيضاء؛ بمناسبات اعياده ميلاده، وفي المشهدين تداخل وإنثيال للمشاعر، الحزن يختلط بالفرح، ويموتان معا، فعندما تنكفئ المشاعر تستهزئ بالحواس التي خلقت مثل هذه الصور الوهمية، التي فيها الكثير من الخداع والزيف،  شئ من المكر تستقبله مراكز الأدراك، على انه الحقيقة؛ ولكنها ابعد حتى من الوهم نفسه.

مشاهد المقابر الجماعية التي تنقلها شاشات التلفاز، الكم الهائل من الألم التي تركتها عن القسوة وبشاعة الموت العنيف، تحت آلة بشرية صماء، الموت الذي تجسد في وجدان العراقي كشئ يوثق هويته في التعايش مع الحياة، التي وهبها الله  له، صارت مشروعا للموت الذي تقلص ليتحول من أجل الوطن، الى الفداء للقائد الملهم.

مات الرجل وإنطوت معه صفحة مجللة بالسواد؛ غطت خارطة العراق الحافل بالمآسي والنكبات،  لقد حكم العراق منذ تأسيس الحكم الوطني في أوائل عشرينيات القرن الماضي سبعة حكام، ثلاثة منهم  ملوك، وأربعة رؤوساء جمهورية، لم يمت منهم إلا واحدا حتف أنفه، والآخرون قضوا بين إغتيال وإعدام*.

***

عندما يأتي العام الميلادي الجديد بصبحة كوفيد 19

أصبت بكوفيد 19، وأخبرت صديقي الدكتور صالح الرزوق بحالتي المرضية؛ ومعاناتي خلال أيام المرض الذي ظهرت أعراضه منذ اليوم الأول من العام الميلادي الجديد، وفي اليوم السابع عشر، عدت كما عاد الإله تموز من أطباق الجحيم الى الحياة ..

بثقة أقول هذا يوم مختلف، ودعتني الكرونا بإبتسامة صفراء ساخرة، لقد هزمتني شر هزيمة، أتمتم مع نفسي خجلا ..أما كان بوسعك يا رجل أن تصمد يوما آخر لتعلن انتصارك، أوهمتني فأيقنت الا نهاية لعذابي.

منذ اليوم الأول للعام الميلادي الجديد، وأنا في صراع غير متكافئ مع عدو شرس، سلب كل ما لدي من قوة متواضعة.

يتجنب الإنسان العادي خلق الأعداء، بعكس السياسي المحترف؛ احيانا تحشره تقلبات السياسة في زوايا ضيقة؛ ويجد نفسه وجها لوجه مع أعداء فرضوا عليه فرضا؛ او اختارهم  بنفسه لتصفية حسابات قديمة، ولكن الأمراض التي تفتك بنا، وندخل المنازلة معها على حين غرة، متسلحين بلا وعي بالمناعة الطبيعية، وهي القوة المادية الذاتية، وبالإيماان بوعي؛ وهو الطاقة الروحية، فطوال أيام المرض، والآلام التي خلتها لن تنتهي، كأنها التحمت وإمتدت فصارت يوما عبوسا قمطريرا.

كنت قد وضعت لأول مرة في حياتي؛ خطة عمل للعام الجديد، استغل كل يوم فيه بما يعود علي بالفائدة، وطبعا اقصد الأدبية المعنوية، فأنا رجل ثمانيني، أعتمد في معيشتي على الضمان الأجتماعي الحكومي.

عَينتُ مثلا أحد الأيام للتأمل؛ وفيه يجب ان انقطع تماما عن استخدام  كل وسائل التقنية الحديثه، الكومبيوتر او الموبايل، بإستثناء الرد على المكالمات الهاتفية عند الضرورة.

هذه ليست دعوة رجعية للعودة الى ما قبل عصر التكنولوجيا الفائقة التطور،  او مقاطعة أملتها ردود الفعل السلبية التي احدثتها فوضى العبودية؛  لهذه الوسائل التي اقتحمت حياتنا الخاصة، إنما هي رغبة متألصة في النفس البشرية للعودة الى أمنا الطبيعة، وتصحيح الأخطاء او الإساءات الكثيرة التي إرتكبناها بحقها منذ قيام الثورة الصناعية الغربية الرأسمالية.

نشأت في  بيئة شبه ريفية، وعشت في بيت بسيط  لم يدخله التيار الكهربائي، قبل إنهاء المرحلة الإبتدائية، عام 1953 م.

الأختيار والأرادة الحرة.. هما من بين أهم المحركات المحفزة لتنشيط الحياة، وبث روح التجديد في أوصالها، أتذكر اني عندما أنهيت دراستي الثانوية وكنت على عتبة الدخول للجامعة؛ لم أفكر ماذا سأدرس، كنت مولعا بالأدب الأنكليزي، ولكني أخترت علم الإجتماع؛ بتأثير زميل قديم كان معي في مراحل دراسية سابقة، فهل كان ذاك خيارا صائبا، الجواب قطعا لا، كان أكبر خطأ ارتكبته في باكورة حياتي الدراسية، ولكن لا يهم؛ في النهاية وسع علم الإجتماع ملكتي الفكرية  فقرأت أفكار الموسوعيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية : فولتير، مونتسكيو، وروسو، لا تبدو لي الأمور سيئة لدرجة التنصل منها، او عدم ذكرها.

غالبا لا تنطبق المقولة المعروفة :

" إختيارالرجل المناسب في المكان المناسب"

على كل الحالات التي نراها في الحياة، مما قد يؤدي الى إختلاط الأدوار، فنجد رجلا كل امكاناته المتاحة، ان يصلح  جلادا في سجن ينفذ احكام الأعدام بالمجرمين، لكنه لسبب ما نجهله؛ يتخطى مكانه فيصبح بالخطأ رئيس دولة، او تجد رجلا لديه مؤهلات التاجر ورجل الأعمال الناجح؛ وعنده ميل كبيرللمنافسة والربح، يتجاوز دوره فيصبح طبيبا، كيف تحدث هذه الأمور!

هذه أمثلة قليلة ضُربت للأدوار الخطيرة في حياة الناس، اما فوضى  تضارب الأدوار التي لا تسبب اضرارا جسيمة فمسألة عادية جدا.

وهكذا عندما فكرت بالكتابة، قلت لنفسي هل أختار طريق الشعر الذي  سار عليه السياب، الذي كنت معجبا به واحفظ الكثير من قصائدة، فأكون شاعرا، ام أتخذ من الكتابة السردية طريقا أواصل السير عليه، لأكون كاتبا روائيا، لكن كل تلك الأحلام كانت تفتقر الى قدحة الطموح للشهرة، مثلي في ذلك كناسك معتكف في صومعته، الأختيار مسؤولية أدبية، يتبعه بالضرورة الإلتزام، وينتهي سلوكيا بالإنتماء . يبدو لي  أنني لست من هذا النوع، هل استطيع ان اصف نفسي باللامنتمي، ولكن ليس على غرار لا منتمي كولون ولسن. وهل المؤمن  بالله فطريا لا منتم لدين معين، كما في إدبيات الفلسفة الأستشراقية، وخاصة كتاب إبن طفيل، حي بن يقضان.

هذه ليست أعترافات او سيرة ذاتية، بقدر ما هي بوح نفسي، اخرجها المرض من دياجير الظلام الذي لبثت فيه طويلا، وارجو من القارئ الكريم ان ينظراليها من هذا المنظور، اي انها ارهاصات وجدانية، او بوح جرئ قد يفتقر للباقة العرض، في طرح ما في دخيلة النفس.

***

صالح البياتي

1/ 1 / 2023 م

.......................

* نشرت الخاطرة الأولى في صحيفة  كتابات، تحت اسم صالح محمد، بتاريخ 3/12/ 2007 م

في المثقف اليوم