شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: مبروك عطية.. ظاهرة فلسفية لفقيه مشاغب

علمتنا الخبرة الإنسانية أن التاريخ البشري يحوي الكثير من الأحداث والوقائع والظواهر التي تستحق الوقوف عندها للتأمل والنظر والدراسة.. ومن هذه الظواهر التاريخية ما يمكن أن نسمّيه "بالشخصيات الجدلية" فعندما نقلب صفحات التاريخ نلتقي عبر ممراته، ومنعطفاته الكثيرة بهذه الشخصيات المثيرة للجدل! التي خالفت بما صنعت وأحدثت من سلوكيات، وممارسات الأنساق الثقافية والاجتماعية الطبيعية، الأمر الذي تفجّرت معه الكثير من الأسئلة، وانعكست من خلاله ردود فعل متباينة من الخلاف والاختلاف حولها.

ولعل إشكالية الشخصيات الجدلية التي لا تنتهي هو استحواذها على مساحة كبيرة من الذاكرة التاريخية، إذ تتأرجح (كما يقول الأستاذ سعد الساهري في احدي مقالاته عن الشخصيات الجدلية) أقوالها وأفعالها عبر التاريخ ما بين الإدانة والإنكار الشديدين لدى الشريحة الكبرى من المجتمع الإنساني إلى التبرئة والإقرار لدى أقلية أخرى من ذلك المجتمع الأمر الذي يضع أكثر من علامة استفهام على موقف تلك الشريحة لمعرفة أسباب ذلك السلوك التبريري.

ولعل المشكلة الحقيقية تبرز بشكل أوضح عندما تصبح تلك الشخصيات رموزاً تاريخية يُشار إليها بالبنان كما يُشار إليها أيضاً بأصابع الاتهام، الأمر الذي يربك قارئ التاريخ ويصيبه بالحيرة؛ وذلك بسبب صعوبة التقييم والحكم بشكل منهجي وموضوعي، وما ذاك إلاّ لأنها خلطت ما بين عمل صالح وآخر سيئ كما يقول الأستاذ سعد الساهري.

ولعل شخصية الدكتور "مبروك عطية" أنموذجاً من نماذج تلك الشخصيات الجدلية سواء على الساحة الدينية، أو على الساحة الإعلامية، فهو من أكثر الشخصيات الدينية حضوراً ما بين "أتباع له ولأقواله" و"أعداء له ولآرائه".

ورغم هذا الحضور الطاغي لاسم الدكتور "مبروك عطية" في مشهد السجال الديني ، فإنّني أرى أنّ أكبر الغائبين المغيَبين في هذا المشهد هو الدكتور "مبروك عطية" نفسه! وكبرى ضحايا هذا السجال هي قضايا الدكتور "مبروك عطية" نفسها؛ فـ" الدكتور "مبروك عطية" مظلوم عند "أتباعه ومُعظِّميه" قبل "مخالفيه وكارهيه"، والراصد لمواقف "الأتباع" و"المخالفين" يلحظ أنّ أغلب أفراد الفئتين ينطلقان من موقف حَديّ حاد لا يعترف إلا بالأسود والأبيض لونين؛ فإمّا أنّ " الدكتور مبروك عطية" خير كلّه أو شرّ كلّه. وهذه "الحَديّة" و"الحِديّة" سمتان ترافقان سيرة "الشخصيّات الجدليّة"، وكلما ازداد الجدل ازداد تطرّف المواقف في حَدّيتها وحِدّيّتها.

ولمن لا يعرف الدكتور "مبروك عطية" فهو داعية، وأكاديمي مصري، ولد في المنوفية عام 1958، التحق مبكرًا بالأزهر، وحصل على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة القاهرة عام 1989، وكان عميدا لكلية الدراسات الإسلامية، وأستاذ الأدب والنقد المتفرغ بجامعة الأزهر.

قدّم "مبروك عطية" برنامجين تلفزيونين الأول برنامج الموعظة الحسنة على قناة دريم، والثاني برنامج كلمة السر على قناة إم بي سي مصر. وكلا البرنامجين متخصصان في الفتاوى الدينية، علاوة على قناته الخاصة على اليوتيوب والتي يغرد فيها كل يوم صباحا ومساءً بالفتاوي والمواعظ التي أحدثت زخما إعلاميا جعلت المثقف المصري والعربي يراقبه عن كثب.

وهذا الأمر أحدث له ضرر كبير إثر موجة عاتية من الانتقادات الموجهة له بسبب تعليقاته على مستجدات الحياة الجارية في مصرنا الحبيبة، ومن بين تلك الانتقادات: تعليقات أدلى بها حول حادثة مقتل طالبة مصرية أمام الجامعة على يد زميل لها فيما عُرف إعلاميا بـ "فتاة المنصورة".. ما قاله من أن طلاق الرجل لزوجته سليطة اللسان "مستحب".. قوله أن حديث "أبغض الحلال عند الله الطلاق" حديث ليس بصحيح ولا يصح الاحتجاج به.. قوله أن "الصيام يعني عدم الاقتراب من الطعام والشراب أو الجِماع، وأنه إذا نطق الصائم بالسب أو حتى شهادة الزور فلا يبطل صيامه ما دام لم يقترب من الأكل!.. قوله " لا يجوز للزوجة المبيت عند أهلها طالما لم تكن والدتها مريضة ولا تقوم على رعايتها، وأنه ينبغي مراعاة أنها أصبحت متزوجة ومسؤولة عن زوجها، ومبيتها عند أهلها بدون سبب لا يجوز.. قوله أن " أن كورونا "عقاب إلهي"، وأن المتوفين بكورونا ليسوا "شهداء" وإنما انتقام وأسوأ ميتة، وشبّه ضحايا الكوارث والأوبئة بـ"قوم لوط".. قوله أن ارتداء "الحجاب يقلل الحوادث" عندما قال لسائليه عبر برامجه: «عاوزة تحافظي على نفسك إلبسي قفة وإنتي خارجة».. تصريحه بأن التدخين ليس حرام شرعا، قائلاً إن الشخص الوحيد الذي حرم السجائر هو مفتى الديار الأسبق نصر فريد واصل وقال: «لما هى حرام زي ما قال مفتى الديار، ليه لم تمنع الدولة المتاجرة فيها؟».. هجومه العنيف على سيدة ترعى قطة وتهمل طلبات زوجها موجها لها رسالة: «محدش علمك الدين».. وقوله أن القهقهة في الصلاة تُبطلها.. قوله في وصف بعض الموتى بأنهم عريس وعروس الجنة: «بدع».. قوله أنه لا يحق للزوجة المسلمة أن تدخر من مال زوجها أو تكرم منه أهلها دون علمه، وإذا قامت بهذا الفعل دون علمه تكون وقتها زوجة خائنة.. قوله أن من قرأ بعض آيات البقرة كأنه قرأ البقرة.."قوله :البوس اللي في السينما حقيقي مش تمثيل" وهو يرد على الفنان هادي الباجوري زوج ياسمين رئيس، الذي كتب منشورا قال فيه: «معنديش مشكلة مراتي تعمل مشهد رومانسي لأن البوس في السينما عادي».. وهلم جرا.

ولم تتوقف فتاوى وتصريحات "مبروك عطية" في مجال الدين فقط، بل امتدت إلى مجالات أخرى مثل الرياضة والفن، حيث علّق على خبر طلاق رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة والفنانة ياسمين صبري، وهو أمر شغل اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر لفترة.. وفي ذروة اهتمام الإعلام ومواقع التواصل بتألق محمد أبو جبل حارس مرمى منتخب مصر خلال مباريات الدور الإقصائي ببطولة كأس أمم إفريقيا 2021، انتقد عطية الإعلامية منى الشاذلي بسبب سؤال وجهته لأبو جبل حول حالته الاجتماعية.. الخ.

كل هذا الأمر قد أوقعه في مشاكل لا حصر لها نذكر منها مثلا: وصف لقاءه مع الإعلامية وفاء الكيلاني بالتخاريف.. تقدّم المجلس القومي للمرأة ببلاغ للنائب العام ضد عطية بتهمة تحقير للمرأة وتحريض على العنف والقتل ضدها وهي جريمة يعاقب عليها القانون.. اتهام الأستاذة "نهاد أبو القمصان"، رئيسة المركز المصري لحقوق المرأة، عطية بارتكاب عدد من الجرائم عبر تعليقه على الحادثة، ومن تلك الجرائم تعطيل الدستور والقانون، والتحريض على العنف.. اجباره في كثير من الأحيان في عدم الظهور بسبب الانتقادات المتكررة.. وأمور أخرى يطول حصرها.

وهنا استشهد في حالة الدكتور "مبروك عطية" ما قاله صديقي الأستاذ الدكتور بهاء درويش على موقع أساتذة الفلسفة في مصر من أن أكبر مشاكل قيمنا المجتمعية أن النخبة تنسى أو تتناسى أهمية المساهمة في تشكيل العقل الجمعي. الناس عادة في مسلكهم لا يتوقفون عند كل صغيرة وكبيرة يفكرون فيها ولكنهم بشكل من أشكال الاستسهال يسلكون وفقا لما تسلك العامة. والعامة تسلك وفقا لما يعرف بالعقل الجمعي الذي يحركها. على النخبة أن تعي هذا وتعلم أن صواب أو عيوب العقل الجمعي ترجع الى نسبة مشاركتها في تشكيله. من أكبر عيوب النخبة مثلا رؤيتهم للخطا وصمتهم بازائه، فيصبح هذا مسلكا معتادا ضمن العقل الجمعي للمجتمع ولا تشعر النخبة بفداحة صمتهم وحياديتهم ازاء الخطأ الا عندما يقعون في أزمة يحتاجون لمن يقول للمخطيء في حقهم: هذا خطأً

وها الخطأ الذي قاله الدكتور بهاء درويش راجع إلي أن هناك حالة فوضى في الفتوى، وأن العمل الفردي الافتائي فات آوانه ويجب وقفه فلم يعد ممكنا اليوم.. وأن الانشغال الإعلامي بالشأن الديني بغير إعداد علمي كاف، وأن السير خلف فتاوى وآراء فردية يؤدي إلى مزيد من إرباك الناس وتخبطهم.. وأن زمننا الحالي هو زمن الاجتهاد الجماعي والمؤسسي، والعمل الفردي فات أوانه ولم يعد ممكنا.. علاوة على أن التقدم التقني وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي شكلا صعوبة بالغة في إمكانية السيطرة على ضبط الفتوى.. وصعَّبا على طالبها القدرة على فرز الغث من السمين.. وهنا تظهر أهمية توجيه الناس للهيئات المختصة بالفتوى وذلك حسب قول الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.

وأقول للدكتور مبروك عطية  يكفيك قولك:.. ونفسي لا أبرؤها وربي.. عليمٌ بالمظاهر والخفاء.. سيحكم بيننا رب عظيم.. إذا جمع الخلائقَ للجزاء.. إذا ما كنتُ خيرا عند ربي.. تساوى المدح عندي بالهجاء.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة أسيوط

في المثقف اليوم