شهادات ومذكرات

علي حسين: ميشيل اونفري يُلاحق موائد الفلاسفة

منذ يوم امس ومواقع التواصل الاجتماعي مشغولة برسالة الماجستير التي قدمتها احدى الطالبات وكانت بعنوان " صناعة الحلويات والمعجنات في كربلاء "، وبعيدا عن حالة السخرية التي رافقت العديد من التعليقات، وبعيدا عن الفديو الذي انتشر للطالبة وهي تتحدث عن بعض الحلويات، فان موضوع الطعام يعد مبحثا مهما في الكثير من الجامعات العالمية او حتى في الدراسات الانثربولوجية، وكنا قد قرأنا باعجاب كتاب ايزابيل الليندي " "أفروديت" والذي تناولت فيه موضوعة ثقافة الطعام بين الشرق والغرب، وكانت دار المدى قد اصدرت قبل سنوات مجلد ضخم بعنوان " الطباخ ودوره في الحضارة " تاليف بلقيس شرارة، فيما نشر عالم الاجتماع العراقي سامي زبيده كتاب " مذاق الزعتر.. ثقافة الطهي في الشرق الأوسط" – ترجمه الى العربية احمد خريس – اكد فيه أن الطعام يعد علامة ثقافية بارزة . وصدر بالعربية كتاب كارول كونيهان " أيديولوجيا الطعام والجسد، النوع والمعنى والقوة "- ترجمة سهام عبدالسلام - وكنت قد قرأت كتاب بعنوان" في المطعم .. ثقافة الطعام من بطن الحداثة" للكاتب الأمريكي كريستوف ربات - وترجمة محمد ابوزيد صدر عن دار كلمة – واصدر مشروع كلمة للترجمة سلسلة كتب عن التاريخ الكوني للتوابل والشاي والحلويات وللبسكويت والكعك والزيتون وللشكولاته والشاي، وقبل مدة قرأت كتابا ممتعا بعنوان "الخبز.. الأهمية الثقافية والرمزية لدى حضارات العالم المختلفة". ويمكن لي ان اعدد مئات العناوين تتحدث عن الطعام واصنافه وتاريخه .

في زيارته الاخيرة الى بغداد كنت اتحدث مع الصديق الاستاذ جواد بشارة عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل أونفري وغرابة الكتب التي ينشرها، حيث اصدر عشرات الكتب في موضوعات متنوعة، وللاسف لم يترجم منها الى العربية سوى " كتاب نفي اللاهوت " صدر عن دار الجمل واصدرت له دار سبعة السعودية كتابه عن نيتشه " الحكمة التراجيدية "، اثناء الحديث اخبرني الاستاذ بشارة والذي يرتبط بصداقة مع اونفري ان الفبسوف الفرنسي البالغ من العمر " 44 " عاما يكتب في كل شيء وان اول كتاب نشره عام 1989 خصصه لطعام الفلاسفة، ثم اصدر عام 1995 كتاب آخر بعنوان " فلسفة الطعام "

يخبرنا ميشيل اونفري انه اصيب وهو في الثامنة والعشرين من عمره بنوبة قلبية، جعلته يرقد في المستشفى ويخضع لنظام غذائي خاص افقده اكثر من عشر كليو غرامات من وزنه، وقد اوصته اخصائية اغذية بالامتناع عن الكثير من الاطعمة على حد قوله وعدته: " بطعام كئيب من أجل ما تبقى من حياتي، لو كنت أرغب في البقاء على قيد الحياة ! " من هنا جاءته فكرة كتاب " بطن الفلاسفة " حيث تخيل ان اخصائية تغذية تجبر نيتشه على تناول انواع معينة من الطعام اثاء مرضه الاخير الذي ادى بالنهاية الى وفاته

لا يحب ميشيل أونفري الحديث عن حياته التي يرى انها كادت أن تنسل منه اكثر من مرة، عندما اصيب بسكتة قلبية نجى منها باعجوبة، وبعد سنوات سيتعرض الى جلطة دماغية تقعده في السرير لعدة شهور، وتمنعه من الكتابة لأكثر من عام .

ولد ميشيل أونفري في الاول من كانون الثاني عام 1959 لعائلة ارجنتية، الأب يعمل في الزراعة، والام قضت حياتها في خدمة البيوت، وقد توفيا وهو صبي حيث ينتقل للعيش في دار للايتام، ويتذكر في تلك السنوات كيف سيطرت عليه رواية الغريب لالبير كامو، فقد ظل يردد ولسنوات الجملة التي جاءت في بداية الرواية على لسان ميرسو: " اليوم، ماتت أمي "، وسترافقه كتب كامو في مسيرته الفلسفية لينشر عام 2012 مجلدا ضخما بعنوان " النظام الفوضوي .. حياة البير كامو "، يحاول ان يعيد فيه الاعتبار لصاحب " الطاعون " أمام الهجمات التي تشن عليه بين فترة واخرى باعتباره مواليا للاستعمار، ومناهظا للافكار الاشتراكية، وفي الكتاب يتحدث اونفري عن كامو كأنما يتحدث عن نفسه، فالاثنان عاشا طفولة اتسمت بالفقر وباليتم، والاثنان عانا من المرض بوقت مبكر، كامو اصيب بالسل، واونفري ظلت الجلطات القلبية والدماغية تلاحقه، لكنهما كامو وأونفري، احبا الحياة وعشقا ملذاتها الصغيرة .. ومثل كامو احب اونفري الطعام، وعشق المطاعم، كان كامو مغرما بالمطاعم الفاخرة ربما تعويض عن الفقر الذي عانلى منه في طفولته وشبابه .

قال اونفري ان غاية طموحه في الحياة، كان الحصول على عمل في محطة القطار، إلا ان الكتب التي كان يقرأها في مكتبة المدينة منذ ان كان في الثانية عشر من عمره، غيرت حياته، فقرر ان يصبح روائيا بعد ان قضى اشهرا يحل الغاز رواية مارسيل بروست " البحث عن الزمن المفقود " ويتمتع بقوة روايات سيلين، لكنه اليوم ينظر الى رفوف الكتب التي تحتوي الروايات، ويعتبرها ذكرى جميلة من الماضي، قرأ ماركس وهو في الرابعة عشر من عمره، وسيتركه ليغرم بسيرة الفوضوي الفرنسي بيير برودون، يعترف ان حياته لا تمت بصلة الى الفوضوية، فهو يؤمن بالثورة التي يمكنها ان توفر مناخا يتساوى فيه الجميع، دون ان يسيطر اصحاب الشركات الكبرى او رجال الأيديولوجيات على الاقتصاد، يناهض الحتمية الاجتماعية والعائلية والتاريخية، ويؤمن بقدرة الفرد على التحرر وتشكيل نفسه بنفسه . عام 1986 ينهي دراسته الجامعية بعد ان قدم اطروحة بعنوان " الآثار الأخلاقية والسياسة للأفكار السلبية لشوبنهور "، بعدها يبدأ بالكتابة حيث تتوالى كتبه بشكل غزير، قرر الاستقالة من وظيفة مدرس فلسفة، لان تدريس الفلسفة في فرنسا قد تم تحريفه وأدلجته ولم يعد يؤدي الوظيفة المنوطة به أساسا، ألا وهي تنمية الروح النقدية وتقديم الفكر الفلسفي الحقيقي المغيب للطلبة بدل إلهاء عقولهم بفلسفة رسمية غبية ورجعية على حد قوله .

عام 2002 يؤسس كلية للفلسفة يطلق عليها اسم " جامعة كاين الشعبية " وقد وضع لها منهاجا خاصا، حيث يمكن لأي شخص مهما كان عمره أن يدرس فيها، من دون شروط كالشهادة، وفيها يقدم مع عدد من الاساتذة دروسا مجانية في الفلسفة .

 في الجامعة سيلقي محاضرات بعنوان " التاريخ المضاد للفلسفة " والتي صدر منها اكثر من عشرة اجزاء تناول فيها تاريخ الفلسفة قبل سقراط وصولا الى العصر الحديث، وهو يشير الى انه كتب هذه الموسوعة للرد على الذين يريدون افساد الفلسفة . يعد من اكثر الفلاسفة رواجا في سوق النشر حيث تصل مبيعات بعض كتبه الى 250 الف نسخة، يبتكر طريقة حديثة لنشر الفلسفة، لا تؤمن بالمصطلحات المعقدة، وتمزج بين الادب والفكر وعلم الاجتماع . ويلاحظ أن الفلسفة يمكنها ان تقدم لنا نصائح لمحاربة الخوف والقلق والامراض .

يرد ميشيل أونفري على الذين ينتقدون نظريته في المتعة، حتى اطلقوا عليه لقب فيلسوف المتع الزائفة، مؤكدا انه يدعو للاستمتاع بأبسط الأشياء في الحياة كالسير بين الاشجار، اوالاستمتاع بالطعام رغم نصائح الاطباء .

يرى أونفري إن الاقتراب من الفلاسفة من خلال الطعام يقدم وجهة نظر مثيرة للاهتمام. بالنسبة للبعض منهم، كانت علاقة الإنسانية بالطعام جزءًا لا ينفصم من نظام أوسع للأخلاق أو الأخلاق. أولئك الذين دافعوا عن البساطة التقشفية رأوا في الوجبة اليومية انعكاسًا لأخلاقهم الأوسع، وفرصة لتوضيح نقطة ما، وضرب مثال، وانضباط الذات. ورأى آخرون أن التقدم الحضاري ينعكس في التقدم في تقنيات تذوق الطعام والتعقيد. ورأى البعض في الأنظمة الغذائية للشعوب المختلفة انعكاسًا للقيم المتأصلة وتطور تلك الثقافات والمجتمعات.

يحضر الطعام في الكثير من محاورات افلاطون، كان صاحب الجمهورية يؤمن بأنّ على الفيلسوف المثالي ألّا يحرم نفسه من الأطعمة المنتشرة، والمتعارف عليها في محيطه. بالرّغم من أنّه يعتبر أن الطّبخ المتكرّر معرفة جوفاء. ويرى في الطّبخ وسيلةً لتفسير نظريّة المعرفة عند الإنسان أو فهمها. لذلك شغل الطّعام حيزاً من النقاشات في كتبه . لكن الفيلسوف اليوناني ديوجين اعتبر ان الحضارة قضت على قيمة الطعام الحقيقة، وان النار افسدته زلهذا كان يلجأ إلى شرب المياه من الينابيع، والتقاط الثمار من الأشجار، فيما كان يرفض طهي الطّعام.

كان الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط مهتما بأمرين فقط، طبعا اضافة الى القراءة والكتابة: وهما أهمية مواعيد المشي، ووجبة الطعام التي سيتناولها، وهي وجبة واحدة فقط تقدم في المساء يدعو لها بعض أصدقائه المقربين، وكانت تتضمن ثلاثة اطباق من الطعام مع الجبن وقنينة نبيذ، حيث يتناول كاسا صغيرا. يعتقد إكانط بضرورة الهضم الجيد للطعام والجلوس مدة اطول الى المائدة، وكان ينزعج من تناول الطعام بمفرده ويقال إنه أرسل العامل الذي يعمل بحدمته للحصول ذات مساء للحصول على رفيق من الشارع إذا لم يحضر احد من الاصدقاء لتناول العشاء معه . في المقابل كان ضد الشراهة في الاكل او تناول النبيذ .

فيما كتب جان جاك روسو أول عن الأطعمة الطبيعية وأهمية تناول المنتجات الموسمية. واتنقد الهوس بالموائد الفاخرة التي قال انها إلى إفقار الآخرين، ويرى روسو ان كثرة تناول اللحوم تؤثر على شخصية الانسان، فاللحوم حسب راي روسويميل الذين يكثرون من تناولها إلى العنف والهمجية، بينما الناس الذين يتناولون الخضار يميلون إلى السلام والمحبة، وعلى النقيض منه كان فولتير يعشق الاطعمة ويقيم الموائج الباذخة لاصدقائه . وكان الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي شارل فورييه يرى أن فن الطهو يجب أن يتم تدريسه منذ سن مبكرة باعتباره "علما محوريا" .

ويتساءل نيتشه عما إذا كانت الفلسفة بحاجة الى وضع نظرية مناسبة للتغذية، يصر ميشيل أونفري ان الفلاسفة ادركوا منذ فترة طويلة أن هناك علاقة عميقة جدا بين فعل الأكل وفعل التفكير ورغم هوسه بتناول اللحوم إلا انه يقرر الانحراط في النظام الغذائي النباتي،: "من الواضح أن الامتناع عن تناول اللحوم من حين لآخر، لأسباب تتعلق بالحمية الغذائية، مفيد للغاية. لكن، على حد تعبير غوته، لماذا نصنع منها " دينًا" ؟ وكتب إلى صديق: "إن أي شخص ناضج للنباتية، عموماً، ناضج أيضاً لـ "الحساء" الاشتراكي".

لكن نيتشه يثير قضية فلسفية أخرى تتجلى في الطعام: قضية الإرادة الحرة. ضد أولئك الذين جادلوا بأن تناول أطعمة معينة بطرق معينة من شأنه أن يؤدي إلى صحة جيدة وعمر طويل، يوضح أونفراي: اننا لانختار نظامنا الغذائي نظام، اننا تكتشف فقط ما هو الأكثر انسجاما مع احتياجاتنا ككائنات حياتية . من جانبه ظل جان بول سارتر كان يكره الأطعمة الطبيعية ويفضل الاطعمة الجاهزة او المعلبة التي تمت معالجتها وتسويتها وإعادة تشكيلها من خلال أيدي الإنسان.

ويتساءل أونفري ما الذي كانت حنة أرندت ستتغذى به وهي تمضغ كتاب " هايدغر " الوجود والزمان " ؟ بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة من أوروبا، هل أعربت عن أسفها على تفاهة اللحوم والبطاطس الأمريكية؟ هل كانت الفيلسوفة الامريكية جوديث بتلر من محبي المعجنات؟ وما علاقة سيمون دي بوفوار بالاطعمة التي تتناولها سواء مع سارتر او بمفردها .

في معظم كتاباته يستند ميشيل اونفري إلى تراث الفلسفة الرواقية التي اكدت على معنى العظمة الانسانية، وكيف نتعلم ان نفهمها، وكيف نحفز رغباتنا تجاهها .. آمن الرواقيون بان ضمان سعادة الانسان تكمن في تعلمه كيف يكون مستقلا: " الشرط الوحيد لسعادة الانسان هو في ان يقود حياة فاضلة تقوم على المعرفة ". ميشيل أونفري صاحب المئة كتاب خلال ثلاثين عاما، يُشبه نفسه بـ " ديوجين الكلبي "، فهو مثله يصر على ان يحمل بيده فانوسا في وضح النهار .. قال أن الانسان المعاصر ارتضى لنفسه أن يستسلم لحياة ضائعة . أونفري الذي يوصف بانه " متشائم نيتشوي " يرى أننا يجب ان نترك العالم يتفسخ، لكي يفسح الطريق لشيء جديد تماما، ولنظام ثقافي جديد، لمائدة بشرية جديدة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم