تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

شهادات ومذكرات

علي حسين: رحيل ماريز كوندي.. الكتابة لفضح عالم الظلمات

في سن الثالثة والثمانين فقدت بصرها لكنها رفضت التوقف عن الكتابة والاستسلام .. ظلت تمارس عاداتها اليومية تخصص فترة الصباح للتفكير في الرواية التي تكتبها، الظهيرة للاستراحة، والمساء للكتابة، في سنواتها الاخيرة اخذت تملي كتاباتها على زوجها: " إنني اكتب كل فصل في ذهني، وقد اصبحت حساسة للصوت والمعنى كفنان موسيقي، وكانت العملية دقيقة ومعقدة. لقد حاولت أن أعطي الشخص الذي كنت أمليه عليه النسخة التي كتبتها في رأسي"، قالت ان الكتابة قوة لا تستطيع مقاومتها.

ماريز كوندي التي رحلت عن عالمنا ليلة الاول من نيسان من هذا العام، أطلقت عليها صحيفة الغارديان إمبراطورة الأدب الكاريبي تعد "من بين الكتاب الذين يستحقون قراءً أوسع بكثير"، وقد انتبهت دور النشر العربية الى رواياتها بعد حصولها على جائزة نوبل البديلة عام 2018 فترجم لها خمس روايات " أنا تيتوبا" – ترجمة محمد آيت حنا - و" في انتظار الظلمات " – ترجمة معن عاقل – و" ازهار الظلمات " و"الحياة الآثمة" – ترجمة رندة بعث – و" ديزيرادا " – ترجمة معن السهوي -.

ولدت في الحادي عشر من آذار عام 1937 في جزر الغوادلوب التابعة لفرنسا، كانت الاصغر بين ثمانية اشقاء، وصفت نفسها بأنها "طفلة مدللة... غافلة عن العالم الخارجي"، ولدت ماريز ليليان أبولين بوكولون، الأصغر بين ثمانية أشقاء، عمل والدها تاجرًا ومؤسسًا لأحد البنوك، وكانت والدته، جين كويدال، أول معلمة سوداء في غوادلوب. سعى الاب والام الى تعليم اطفالهم حب الثقافة الفرنسية، كانت العائلة تسافر بانتظام إلى باريس، لا يسمح في المنزل الحديث باللهجة الغوادلوب المحلية، الام تحلم بان ابنتها تصبح ذات يوم محامية، لكن الفتاةو كانت تحلم بشيء آخر، فقد بدأت القراءة بسن مبكر جدا" كنت التهم الصفحات " جربت الكتابة وهي صغيرة:" كنت أكتب القصص القصيرة والمسرحيات لعائلتي وإخوتي وأخواتي. كتبت مسرحيتي الأولى لأمي" .في السادسة عشرة من عمرها غادرت جزر الغوادلوب لمواصلة دراستها بباريس، فحصلت على درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون، في موضوعة "الأفكار النمطية حول الشخصيات السوداء في الأدب الكاريبي" .

بدأت حياتها الادبية بكتابة النقد وركزت على صورة المواطن الاسود في الادب الاوربي .. جربت حظها في الرواية فنشرت عام 1976 اولى اعمالها " موسم في ريهاتا " وهو عمل مستمد من تجربة العيش في افريقيا .. كانت تقترب من عامها الاربعين عندما دخلت عالم الرواية، قالت انها قبل هذا السن لم تكن مقتنعة بنفسها، ولم تجرؤ ان تقدم روايتها الى العالم:" عندما كنت طفلة، أفسدني والدي كثيرا. كنت غافلة عن العالم الخارجي. كنت مقتنعة بأنني واحدة من أجمل الفتيات في العالم وبالتأكيد واحدة من أكثر الفتيات ذكاءً، لكن عندما جئت للدراسة في فرنسا اكتشفت تحيزات الناس. كانت الناس ترى انني أقل شأنا، فقط لأن لون بشرتي كان اسود . كان علي أن أثبت لهم أنني موهوبة، وأن أظهر للجميع أن لون بشرتي لا يهم، ما يهم هو ماموجود في دماغ الانسان وفي قلبه " .

في باريس، انفتح عقلها على أسئلة الهوية عندما التقت بالكاتب والسياسي المارتينيكي إيمي سيزار، أحد مؤسسي الحركة الأدبية الزنجية التي سعت إلى استعادة التاريخ الأسود ورفض العنصرية الاستعمارية الفرنسية.وقالت في احدى حواراتها: "أفهم أنني لست فرنسية ولا أوروبية". "إنني أنتمي إلى عالم آخر، ويجب أن أتعلم تمزيق الأكاذيب واكتشاف الحقيقة عن مجتمعي ونفسي".

عاشت سنوات في اميركا حيث عملت مدرسة للنقد الادبي في جامعة كولومبيا، قبل سنوات قررت العودة الى موطنها الاصلي جزيرة " غوادلوب " حيث انشأت مركز " ذاكرة الرق " لتنفيذ القانون الذي يعتبر الرق وتجارة الرقيق جرائم ضد الإنسانية. وصلت روايتها " أطعمة وعجائب،" التي استمدتها من حياة جدتها التي كانت تتقن الطبخ الى القائمة القصيرة للمان بوكر 2015. وكانت تقول للصحفين ان وصفات جدتها تضاهي القصائد التي كتبها بودلير، والسوناتات التي وضعها شوبان، حيث تنسجم الرائحة والالوان والاصوات .

عام 2018 حصلت كوندي على جائزة نوبل للاداب البديلة عن الجائزة العالمية التي توقفت عام 2018 بسبب مشاكل وقضايا اتهم فيها بعض اعضاء اللجنة، وقد وصفت لجنة نوبل البديلة روايات ماريز كوندي بانها "تسرد ويلات الاستعمار وفوضى ما بعد الكولونيالية بلغة دقيقة وبالغة التأثير على حد سواء، وهي تستحضر في رواياتها الأموات إلى جانب الأحياء في عالم يتم فيه تناول الجندر والعرق والطبقة باستمرار في قوالب جديدة". وعلقت كوندي من جانبها على خبر فوزها بابتسامة عريضة قائلة إن أكثر ما أسعدها هو أن اسم بلادها غوادلوب لن يظهر هذه المرة في أخبار الفيضانات والكوارث بل في أخبار مفرحة لشعبها المهمّش على أجندة العالم، وتمنح صوتاً لأولئك الذين نسيهم التاريخ .. وعن دخولها عالم الرواية تقول: "كل كاتب في الدنيا يشعر بالغيرة من حكائي القصص، يوجد للكلمة المنطوقة سحر خاص وعفوية ترسمها. أردت تذكير القرّاء بأنني أنتمي إلى مجتمع لا تزال فيه التقاليد الشفهية حية، وأن كلماتي تعبّر عن قوة سحرية، وأن قصتي يمكن أن تُرى كبوابة رائعة للعواطف والمعرفة".، وتضيف: "شغفي بالرواية يأتي من معرفتي بالأدب من أماكن مختلفة من العالم ومن خلال قراءة أعمال مؤلفين معيّنين جعلوني أكثر قرباً وحساسية من الكتابة والتأثير في القرّاء. لم أدرس أبداً خلاف ذلك. القراءة بالنسبة إليّ هي أصل كل شيء".، قالت انها مغرمة جدا بمارغريت دوراس وجان بول سارتر وميشيل فوكو ولويس أراغون وسيمون دي بوفوار:" كل امرأة من جيلي قرأت كتاب سيمون دي بوفوار الجنس الاخر . عندما انتهيت من قراءة الكتاب أدركت أن تحرري كامرأة كان مختلفًا عن تحرر أصدقائي الذكور، وأنه يتطلب جهدًا أكبر" .

تبدو أعمال صاحبة "انا تييوبا "، مسكونة بالهاجس الأفريقي الأكبر تاريخا وجغراقة، مخصّصةً مشوارها الطويل بالادب لعرض قضية شعبها الذي حكم عليه التاريخ حكما قاسيا .تقول انها عندما كانت طفله كان من السهل عليها ان تفهم العالم، اما اليوم فانها كامراة عجوز تؤمن ان العالم يجب ان يتغير:" نعم، آمل أن يأتي التغيير. أعتقد أن الأمور ستتحسن لكنها ستستغرق بعض الوقت. يشتكي بعض الناس من عنف احتجاجات حركة (حياة السود مهمة ). إنها لا تحدث فقط في أمريكا، ولكن في جميع أنحاء العالم. في فرنسا، استغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتم الاعتراف بالرق كجريمة ضد الإنسانية. في القرن الثامن عشر، كان بعض العلماء لا يزالون يؤيدون العبودية وادعوا أن السود أقل شأناً وأقرب إلى الحيوانات وما زلنا نكافح سوء الفهم هذا. انه ليس من السهل. سوف نتغلب. لكن الأمر سيستغرق وقتا طويلا. أنا متفائلة بالرغم من كل شيء " .

في رواية " أنا تيتوبا .. ساحرة سالم السوداء "،، تستعيد كونزي شخصية الساحرة السوداء من التاريخ المنسي لتخلق من "تيتوبا" عالم جديد لكنه متخيل، وقد استندت في احداث روايتها إلى حادثة محاكمة الساحرات في بلدة سالم الواقعة في مقاطعة دانفرز الامريكية عام 1892، وهي الحادثة التي كتب عنها الكاتب المسرحي الشهير آرثر ميلر مسرحيته " ساحرات سالم "، نجد في رواية كونزي ان " تيتوبا " تعود جذورها الى قارة أفريقيا حيث كانت مستعبدة لدى عائلة بيضاء، تتعرض للاغتصاب على اكيد احد البحارة البيض، ثم نجدها تهرب من عبودية الى عبودية جديدة وتتعرف على حبيبها " جوان " الشاب الهندي وهو ايضا مستعبد، في هذه الاثناء يتم بيعها لعائلة في بوسطن وتظل معاناتها مع العنصريين . تتهم تيتوبا بالسحر، وتنجو من محاكمة ساحرات سالم الشهيرة، في الرواية تحاول ماريز كوندي ان تسلط الضوء على ظواهر لايزال يعيشها المجتمع، منها استخدام الدين في تعزيز ثقافة العنصرية، مثلما حدث في القرن الثامن عشر حيث لعب بعض رجال الدين دورا في المشاركة في التحقيق والتعذيب، وتواطؤا مع السلطات العسكرية والدكتاتورية لتنفيذ أيديولوجيا تتيح لهم السيطرة على النفوذ والمال، ويلعب رجال الدين في رواية كوندي دورا كبيرا في تشجيع على استغلال موارد الشعوب المستعمَرة سواء كانت الطبيعية اوالبشرية لتحقيق أطماع بلدانهم، قالت كوندي انها كتبت " انا تيتونا " لتسهم في تحرير ضحايا العبودية من الظلم التاريخي الذي لحق بهم .. ولهذا نجد بطلة الرواية تظهر لنا بثوب مناضلة تحارب الظلم، وتمد يد العون إلى المستعبَدين.

عام 2008 تنشر ماريز كوندي رواية بعنوان " مرتفعات مهب الريح " حاولت من خلالها اعادة كتابة الرواية الشهيرة " مرتفعات وذيرنغ للكاتبة الانكليزية الشهيرة إميلي برونتي وهي الرواية التي قرأتها كوندي عندما كانت في العاشرة من عمرها:" أعطتني الرواية صديقة لأمي كانت تعرف أنني مولع بالقراءة. لم اسمع ابدا عن اميلي برونتي. كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يصبح فيها الكتاب قريبا من قلبي واكتشفت قوة الأدب، وان بامكاني ان اكون كاتبة "، وتتذكر انها عندما اخبرت صديقة والدتها عن مدى اعجابها بالرواية، وانها تتمنى ان تصبح في يوم من الايام كاتبة مثل اميلي برونتي، كانت اجابة المرأة صادمة عندما قالت لها بان اشخاص مثلها لايمكن ان يكتبوا مثل هذه الروايات:" هل كانت تعني السود أو النساء أو الأشخاص من الجزر الصغيرة؟ لن اعرف ابدا " ..تقول انها ارادت من خلال رواية " مرتفعات مهب الريح " ان توجه تحية لكاتبتها المفضلة، وان تخصص رواية تتحدث فيها عن مسقط راسها " جزر الغوادلوب " واحلام شعبها .

ومن خلال تجاربها الافريقية، ادركت كوندي أن افريقيا لا تعترف بها كابنة لها بل تعتبرها غريبة عنها، لكنها لم تتنازل عن كونها القلب النابض بآلام افريقيا لذا واصلت الكتابة عنها والقاء المحاضرات في جامعة كولومبيا وتعاقبت رواياتها التي تغوص في قضايا القارة السوداء، ثم تم تعيينها كرئيسة للجنة احياء ذكرى العبودية ..ومن رحم هذه الحياة، ولد عملها الأدبي الذي تم تتويجه بجائزة نوبل البديلة للأدب، وهو العمل الذي يستكشف العالم مابعد الاستعمار، فضلا عن تناول قضية الاصول الافريقية وتعدد الهويات ومحاولة النساء تحرير انفسهن من اضطهاد الرجال ومصائر اولئك الذين يفرون من الجزر الافريقية طمعا بحياة أفضل ثم معاناتهم من العنصرية والاقتلاع من الجذور.

تقول ماريز كوندي:" عندما كنت شابة، كنت اؤمن باننا سنبني عالما أفضل يتوحد فيه الناس وتختفي العنصرية وهيمنة جهة على جهة أخرى، لكني كنت مخطئة، فالبشر لا يتوحدون بسهولة ووعود الحكومات بالتقدم لم تتحقق".

روايتها الاخيرة الصادرة عام 2021 " الإنجيل وفقا للعالم الجديد " وصفتها بانها تمثل العالم المنقسم الذي عاشته بين ام مؤمنة مخلصة، واب ملحد ومنتقد للمعتقدات:" أردت أن أترجم هذا الانقسام في روايتي إلى فكاهة وسخرية، لكنني لم أتحلى بالشجاعة حتى قرأت " الإنجيل بحسب يسوع المسيح" لجوزيه ساراماغو "  .

كوندي التي رحلت عن " 90 " عاما قالت في آخر حوار معها انها لاتعرف ان تفعل أي شيء آخر غير الكتابة.:" بالنسبة لي، الكتابة هي أن تكون على قيد الحياة. عندما أتوقف عن الكتابة، أتوقف عن العيش. وفي كل عام اعتقد انني أكتب كتابي الأخير "، قالت انها تستمد الهامها الثقافي من روايات مارغريت دوراس، وكتب سيمون دي بوفوار، وجان بول سارتر، وميشيل فوكو، واشعار لويس أراغون .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم