شهادات ومذكرات

كريم الجاف: في ذكرى الخالد محمد هادي السبيتي

وقائع تاريخ فكري ونضالي غير معلن

هل مازالت الكتابة عن القائد محمد هادي السبيتي (1930- الخالد) ممكنة؟ وما معنى أن نكتب عنه الآن، وقد رحل عن عالمنا منذ عقود من الزمان؟

عندما أقول معنى الكتابة، فإنني أشير بالتأكيد إلى أثر، وأهمية، والدور الذي لعبه ذلك الإنسان، والقائد، والمفكر الذي ملء الدنيا وشغل الناس بشخصه، وأخلاقه، وأفق تفكيره، وتمرده، وفي كيفية استشهاده.

تدعى هذه المقالة التي أكتبها راهناً تقديم سيرة محمد هادي السبيتي بشكل جديد ومختلف ومن خلال معطيات جديدة، تسعى إلى فك رموز بعض الإشكاليات التي تتعلق بالطبيعة النضالية في إطار نشاطه كقائد لحزب الدعوة الإسلامية في فترة الستينات، والسبعينات، والسنة الأولى من الثمانيات من القرن المنصرم، ولاشك أن واحدة من تلك الإشكاليات تكمن في إبراز شخصيته الحقيقية كمناضل سياسي ذي وجه إنساني نشطت دينامياتها في عمله كقائد لحزب تجلى نشاطه في لحظات مصيرية من تاريخ العراق المعاصر هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى أجد أن ما أكتبه عن السبيتي ستكون دعوة من أجل أن تتعرف الأجيال الجديدة إلى الأشخاص الذين يحضون بتاريخ مشرف وأصيل، فالتعرف على هؤلاء الأشخاص؛ ولاسيما السبيتي سيخلق نوعاً من التواصل، وصناعة المثل الوطنية العليا التي يحتاجها شبابنا في عراقنا الراهن، وأرى أنها من المسائل المهمة؛ وذلك لأن الجيل الحالي من الشباب ليس لديه معرفة بأسماء السياسيين الذي صنعوا التاريخ وأحدثوا فارقاّ في المجال التاريخي الذي نشطت دينامياتهم النضالية فيه؛ إذ إن سرد سير هؤلاء القادة سيضع تلك الأجيال على إطلاع بتجارب سياسية عراقية أصيلة ومخلصة قادرة على صناعة روح التحدي إنطلاقاً من تلك السير التي تكتب عنهم بموضوعية، فضلاً عن إعادة هيكلة الكيفية التي ينبغي بها مواجهة التحديات المصيرية؛ ولاسيما السياسية والفكرية منها.

ومما لاشك فيه أن هذه المقالة ستفجر العديد من الأسئلة في الأوساط السياسية والاجتماعية بشأن طبيعة النضال السياسي والفكري له؛ وذلك لما تنطوي على معلومات تنشر لأول مرة بشأن سيرته الفكرية، والنضالية، التي تختلف كثيراً، وبشكل جذري عمّا كتب عنه من قبل مؤيده، أومعارضيه.

بداية العلاقة

لقد عاصر والدي حسين الجاف (1918- 1998) شخص محمد هادي السبيتي منذ عام 1969 وتعرف عليه عن كثب عندما كان يدير خلية استخباراتية أستئنفها القائد الكوردي ملا مصطفى بارزاني، وقبلها كانت من مسؤولية الشيخ لطيف محمود الحفيد، وقد أشرف على بعض حلقاتها السياسية الشخصية الوطنية العراقية الكوردية اللواء فؤاد عارف؛ إذ كانت أحدى مهام هذه الخلية التواصل السري مع المرجع الديني للشيعة سيد محسن الحكيم عبر أنجاله سيد يوسف، والسيد مهدي، والسيد علاء، والشيخ عارف البصري، وعبد الصاحب دخيل (أبو عصام)، من أجل التنسيق بين المرجعية الدينية للشيعة، والثورة الكوردية التي كان يقودها ملا مصطفى بارزاني آنذاك.

وبعد الأحداث التي اتهم بها السيد مهدي الحكيم بالعمل على الإطاحة بنظام الحكم في بغداد عام 1969، ومن أجل حمايته من الإعتقال عندما كان يقيم في مدينة الكاظمية في حينها، فقد تم اختيار بيتنا في شارع فلسطين (منطقة الطرق والجسور) لتكون ملاذا آمناً له؛ وذلك بعد الاقتراحات التي قدمها عبد الصاحب دخيل  بأن يكون بيته في الحرية، أو بيت محمد هادي السبيتي ملاذا آمناً للسيد مهدي الحكيم، لكن شقيقه سيد علاء الحكيم وجد بعد (الاستخارة) أن بيتنا هو الملاذ الأكثر اطمئناناً وأمناً على حياة شقيقه سيد مهدي.

وبعد هذه المناسبة التاريخية الخطيرة في نوعها يتعرف والدي على المهندس محمد هادي السبيتي، وقد كان من الصدف الطيبة أن يكون من سكنة شارع فلسطين (حي 14 تموز) وهي منطقة قريبة جداً من محل سكننا، وقد اخبر أبو عصام والدي أن المهندس أبو حسن السبيتي هو من الثقاة (وهي لفظة يتداولها مراجع الدين الشيعة ويطلقونها على الأشخاص المخلصين، وعلى قدر المسؤولية)، ويمكن التعامل معه بحرية ومن دون قلق، أو خوف وبالفعل يتعرف والدي عليه، وقد جمعتهما صداقة سرية جداً بسبب نشاطهما السري والخطير جداً، وقد طلب والدي منه أن لا يعرّفه على عائلته؛ لأن العمل الذي يقوم به خطير وحساس جداً، وقد تعلم من ملا مصطفى بارزاني القاعدة الاستخباراتية الذهبية التي تقول: إن أي نشاط استخباري تقوم به يجب أن لا تعلم به يدك اليسرى ما تقوم به يدك اليمنى.

لذلك فقد كان التواصل مع الداعية الاسلامي المهندس أبو حسن السبيتي بالقرب من منطقة قناة الجيش التي تقع شرق شارع فلسطين والقريبة من محلات سكن بيتنا وبيت السبيتي، ومن الجدير بالذكر أن والدي لم يتعرف عليه بوصفه أحد مؤسسي حزب الدعوة الاسلامية، بل تعرف عليه بوصفه داعية اسلامية قريب من المرجعية الدينية، وهذا دليل على قوة السرية والكتمان الذي كان يمتاز به ذلك أشخاص ذلك الحزب، ولم يعلم بحقيقة، إلا في نهاية سبعينات القرن المنصرم، فكل ما يعلم عنه أنه داعية اسلامية ومهندس يشتغل في وزارة الصناعة، ويعمل ضمن مشروع معمل لإنتاج الطاقة الكهربائية في سامراء.

السبيتي ورفاقه في كوردستان

في ربيع عام 1971 اقترح أبو عصام على والدي زيارة كوردستان ولقاء القادة الكورد، وقد رحب والدي بالفكرة، وأرسل المقترح إلى كاك صالح اليوسفي وحصلت موافقة كاك إدريس بارزاني الذي كان مسؤول المكتب العسكري في حينها، وبالفعل تحققت الفكرة بزيارة كوردستان وقد ضمت مجموعة دعاة الإسلام كل من: أبو حسن (محمد هادي السبيتي)، أبو عصام (صاحب دخيل)،  والشاب أبو زينب ( مهدي عبد المهدي)، وقد تخلف عن ركب الزيارة الشيخ عارف البصري بسبب انشغاله في إدارة اعماله في الكرادة.

يخبرني والدي أن جدول الزيارة تضمن ضيافة ولقاء في مقر كاك وهاب آغا جندياني عضو مجلس قيادة الثورة الكوردية وثقة ملا مصطفى بارزاني، وقد فرح كثيراً بهذه الشخصيات التي تتعاطف مع الثورة الكوردية وتتبرع بالمال والأدوية، وقبلها تمت زيارة الشيخ محمد آغا ميركةسوري وعائلته بمناسبة مقتل ولده جميل، وقد كان في استقبالهم بطل معركة هندرين كاك فاخر ميركةسوري نجل شيخ محمد الذي تعرّف عليهم أصلا في بغداد، ولا سيما الأخ أبو حسن السبيتي، وأبو عصام، والشيخ عارف البصري.

وبهذه المناسبة أيضاً يحدث لقاء بين كاك إدريس بارزاني ومجموعة الدعاة وقد استقبلهم في منطقة قسري، ودار حديث عن هموم النضال في مقارعة البعثيين، وما يخلقونه من مشكلات ومؤامرات ضد قيادة الثورة الكوردية على المستوى العائلي والعشائري، وبهذه المناسبة سلّم أبو عصام معلومات لكاك إدريس عن مخططات لضرب البنية الاجتماعية لقيادة الثورة الكوردية يقودها جهاز الأمن العام لناظم كزار وطلب من قيادة الثورة الكوردية الحيطة والحذر، فجماعة ناظم كزار يمارسون نفس اللعبة داخل المرجعية الدينية عبر اطلاق الاشاعات وزرع وكلاء أمن من رجال الدين المقربين للمرجعية من أجل إشاعة الفوضى داخل المذهب الشيعي. وبمناسبة زيارتهم لكوردستان قدم الدعاة مبلغا مالياً لدعم الثورة الكوردية.

يقول والدي أنه أثناء لقاء كاك إدريس بارزاني مع محمد هادي السبيتي ورفاقه، سأل كاك إدريس الجماعة إن كان لديهم تنظيماً عسكرياً لمواجهة نظام البعث، فكان جواب السبيتي اننا كدعاة مؤيدين من المرجعية نسعى إلى تحقيق دولة الإسلام في نفوس المؤمنين سلماً، وليس بالقوة الآن، لكن الظروف هي التي ستفرض اشتراطاتها في المستقبل إن كانت المقاومة العسكرية لنظام حكم البعث ضرورة وطنية.

وبعدها حصل حوار شخصي وثقافي بين كاك إدريس الذي فتح حوارا فكرياً مع السبيتي، وقد اخبره أنه عندما كان تلميذاً في متوسطة الغربية إطلع على كتاب جمهورية افلاطون وقد كان معجباً بفلسفته، ولا سيما في تناوله موضوع العدل، وهنا يخبره السبيتي أنه أطّلع على كتاب الجمهورية باللغتين العربية في بغداد، والانجليزية في أمريكا، وكان يرى أن العنوان الأفضل للكتاب ليس (الجمهورية) بل (ما العدل؟) فالكتاب كما شرحه السبيتي يبحث في كل أجزائه عن العدل ويجدها في الدولة العادلة التي يحكمها الفلاسفة، وهنا يعجب السبيتي كيف ان كاك إدريس قد إطلع على الكتاب في المتوسطة وقد تكون لغته العربية ضعيفة جداً، لكن كاك إدريس يخبر السبيتي أنه كان من المتفوقين في مادة اللغة العربية بشهادة المعلمين الذين درّسوه وزملائه من بني قومه، وزملائه التلاميذ العرب أيضاً.

بعد أن تمت زيارة كاك إدريس في مقره العسكري يقترح أبو حسن السبيتي زيارة دهوك، فقد سمع أن جبالها تشبه جبال لبنان التي يعشقها كثيراً، وبالفعل يأخذ والدي مجموعة الدعاة إلى دهوك، وقد تم ضيافتهم من قبل شيخ الدوسكية العام والمناضل كاك ديوالي آغا، وقد كان معهم كاك جميل جميل برواري (والد اللواء فاضل برواري قائد العمليات الخاصة في جهاز مكافحة الإرهاب) الذي اصطحبنا برحلة جبلية في منطقة برواري بالا، وهي منطقة جميلة جداً تقع عند الحدود التركية، فضلا عن انها مكان تواجد عشيرة كاك جميل.

وفي هذه الزيارة طلب أبو زينب الخالصي أن نزور مقرات الثورة الكوردية، وقد نفذ والدي طلبه بزيارة منطقة زاخو حيث مقر القائد عيسى سوار الذي استقبل الضيوف بحفاوة شديدة، وقد أهدى مسدسات إليهم، وبدورهم جمع الضيوف الأسلحة  وأعطوها إلى أبو زينيب ليستعملها عند الضيق، وبعدها قال أبو حسن السبيتي باللغة الانكليزية ( In Kurd I trust ). وقد بقي تواصل السبيتي مع الكورد بعد لقاءه الأول بكاك إدريس بارزاني الذي يعد أول تواصل بين مجموعة الدعوة الأسلامية بالثورة الكوردية، وأما اللقاء الثاني في عام (1980) فقد كان في سوريا وفي بيت السيد مهدي الحكيم، وقد كان مع مام جلال، وكاك مسعود بارزاني، والدكتور محمود عثمان، وغيرهم من القادة الكورد.

لم يكن والدي مثقفاً  بمستوى أبو حسن السبيتي، لكنه كان ذكياً وقد تعلم منذ شبابه المبكر على يد الملالي والكتاتيب في الجوامع بين منطقة بينجوين، وسنندج، وكرمنشاه اللغة الفارسية، والعربية، والانجليزية، والتركية، بل وحتى الروسية، وقد تأثر بالشخصية الوطنية الكوردية (توفيق وهبي) على المستوى الثقافي، وقد كانت حصيلته الثقافية قراءة جمهورية أفلاطون، وأشعار الخيام، وسعدي، والجواهري، وزرادشت نيتشة الذي كان والدي يعتقد أنه كتاب النبي زرادشت حتى جاء السبيتي ليصحح لوالدي حقيقة الكتاب الذي ليس لزرادشت، بل للفيلسوف الالماني نيتشة الذي أختار زرادشت عنواناً لكتابه الفلسفي، لأجل تداوله كثقافة مضادة لكل ما هو روحاني، ومن أجل تعظيم دور الجسد، وإرادة القوة في صناعة تاريخ الوجود الانساني.

وبعدها تعلم والدي من السبيتي أن نيتشة يرى أنه يجب العناية بالجسد وعدم احتقاره، فعقولنا توجد في أجسادنا، وليست في أنفسنا؛ لذلك ومن خلال ماسمعته من والدي فقد كانت شخصية السبيتي الثقافية ذا ثراء فكري ومعرفي فهو شخص ألمعي أتقن الإنجليزية، وعلوم الهندسة، فضلاً عن جولاته المهنية في أوربا وأمريكا التي يبدو أنها شكلت أفقه الثقافي غير التقليدي، كما شكل الأخوان المسلمين، وحزب التحرير، وتراثه الديني أفقه الأسلامي، لكن بشكل أحدث الفارق في هويته الثقافية.

لقاء تاريخي بين السبيتي  وفؤاد عارف

في صيف (1971) إقترح أبو حسن السبيتي إقامة وليمة للشخصية الوطنية الكوردية فؤاد عارف؛ وذلك من أجل التعرف عليه عن كثب كونه كان متصرفاً لكربلاء، بعد ثورة 14 تموز، وله أدوار مشرفة كما يذكر سيد مهدي الحكيم في كل مناسبة يذكر فيها هذا الرجل، وبالفعل ينقل والدي الدعوة إلى كاك فؤاد عارف الذي يستعد في كل صيف السفر خارج العراق، وقد قبلها بكل سرور.

وبحسب خطة أبو حسن السبيتي كما يخبرني والدي تكون بداية اللقاء عند جامع المرادية مقابل وزارة الدفاع، وبعدها يتم سيراً على الاقدام لشرب الشاي في مقهى حسن عجمي، وبعدها الذهاب إلى الكرادة عند الشيخ عارف البصري حيث مكان إقامة الوليمة، وبالفعل حدث اللقاء بحسب الخطة المرسومة من قبل أبو حسن السبيتي الذي يتقن عمله بطريقة أنيقة، كإناقته التي تشبه إناقة نجوم السينما، ومرتبة ورقيقة وحضارية جداً.

لقد حضر فؤاد عارف ونجله فرهاد، ووالدي، بالموعد المقرر، وعند جامع المرادية يستقبل أبو حسن ضيفه كاك فؤاد عارف ويتجاذبان أطراف الحديث عن المدينة، والسياسة، ودور العسكر في إدارة العراق، وكان ذلك في مقهى حسن عجمي الذي تحدث عنه فؤاد بحسب والدي عن دور المقهى الذي كان مكان للقاء الوزراء والعسكر قبل الذهاب إلى وزارة الدفاع من أجل حضور اجتماعات الزعيم عبد الكريم قاسم التي تبدأ الساعة العاشرة مساءا وتنتهي عند الفجر مع فطور يقيمه الزعيم للمجتمعين على حسابه الخاص.

وبعد جلسة المقهى يذهب المدعوين برفقة السبيتي إلى الكرادة حيث مقر الشيخ عارف البصري الذي كان بانتظار الضيف ومعه عدد من الشخصيات من قبيل: السيد محمد باقر الصدر، والسيد علاء محسن الحكيم، والسيد محمود الشاهرودي، والأخ أبو عصام الذين احتفوا بفؤاد عارف وأثنوا على عمله ونشاطه ومواقفه، وبدوره شكر كاك فؤاد الحضور وأخبرهم أن كل ما قام به هو واجب، ولخدمة العراق، ويتشرف بخدمة الناس الشرفاء أصحاب المواقف، ولا سيما مواقف السيد محسن الحكيم في حرمة دم الكورد.

لكن الشيء المهم الذي وجده والدي في هذه الوليمة المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها أبو حسن السبيتي، ذلك الأفندي الأنيق الذي يجلس بين رجال الدين الذين يتمتعون بهالة القداسة، فقد كان أشبه بقائد كبير بين الحاضرين، وكان عندما يتكلم يصغي اليه الجالسون بشيء من القداسة والطاعة كالتي يشاهدها في مجلس ملا مصطفى بارزاني، فضلا عن ثقافته العالية جداً، وقد أخبر والدي انه ينتظر أن تستقر الأمور لكي يقرأ: إبن خلدون، وزرادشت نيتشة، وعلي الوردي، وجمهورية أفلاطون، والسياسة لأرسطو، والمدينة الفاضلة لكارل بيكر فهي كتب مهمة لتأسيس العقل المستنير على حد تعبيره.

في أواسط عام (1985) حدث لقاء في مطعم بشارع السعدون وكان القائم على هذا اللقاء كاك كريم فتاح بيك الجاف وحضرته أنا شخصياً، وكاك فرهاد نجل فؤاد عارف الذي أعتبره مثقفا من الطراز الممتاز قد تحدث بشكل مفصل عن دعوة السبيتي التي أقامها عند الشيخ عارف البصري صيف عام 1971، وكان من أهم ما أخبرنا به هو الثقافة العالية التي يتوافرها محمد هادي السبيتي عند حديثه عن الهموم السياسية، والفكرية، والاجتماعية للمجتمع العراقي بخاصة، والإسلامي بعامة، وقد كان معجباً بتجربة الحزب المسيحي الديموقراطي في المانيا؛ ذلك الحزب الذي جمع البروتستانت والكاثوليك، بل وحتى الملحدين جبهة واحدة بقيادة اديناور لإعادة إعمار المانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ورأى أن خلاص الأمة العربية والإسلامية هو بتكرار هكذا تجارب لحصول النهضة فيها من خلال توحيد المذاهب، والأديان، والأحزاب في كتلة وطنية تسعى لإعمار الأوطان، وهذا على المستوى السياسي.

وأما على المستوى الفكري فقد كان رأيه بالتجربة الوجودية، والشيوعية في العالم العربي، فقد أنتقد السبيتي كما يخبرنا كاك فرهاد بشدة الفلسفة الوجودية لا بسبب الحادها، بل بسبب تقديمها البعد الفردي للإنسان على حساب وجوده الإجتماعي بشكل متطرف وقد علمنا أرسطو بحسب السبيتي أن الإنسان كائن اجتماعي، وقد أعاب السبيتي ايضاّ على العقيدة الشيوعية التي تستنتد إلى دكتاتورية العمال والفلاحين وتهمل التعددية الاجتماعية.

ويستمر كاك فرهاد في الكلام ويقول أن السبيتي من الناحية العلمية كان معجباً بالقانون الثاني للثرموديناميك، ذلك القانون الذي يرى أن كل شيء يتجه نحو الفوضى ويفقد انتظامه الأصلي، ولا يمكن اعادته، أو تكراره، بإعادته إلى نهج أسلافه، لذلك فقد كان يقترح أمام ضيوفه فكرة تجديد أفكارنا وعقائدنا الدينية إنطلاقاً من المتغيرات العملاقة التي يتعرض له الوجود الانساني في مناحيه كافة، ويستمر كاك فرهاد في كلامه ويقول أن الشخص الوحيد الذي كان يتفاعل مع السبيتي بجدية هو السيد محمد باقر الصدر الذي كان يقول أن السبيتي هو ملهمه، ومصدر الافكار الجديدة التي يغتني بها، وأن كل لحظة يلتقي فيها بالسبيتي يكتسب عقله فكرة جديدة تنير وجوده الفكري والمعرفي.

هذا ما حدثنا به فرهاد فؤاد عارف لما سمعه من آراء فكرية لمحمد هادي السبيتي التي أرى أنها نتاج تجارب فكرية شخصية شكلت منظوراته الفلسفية ورؤيته للعالم، وهي أشبه بوجهات النظر التي أبتكرتها الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، والفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي اللذان نطلع على أعمالهما الفكرية راهناً، تلك الأعمال التي تعزز في الوجود الأنساني روح المشاركة والاعتراف بالآخر المتعدد، وتنبذ ثقافة الفكر الواحدي، والإقصائي من الفضاء العمومي الذي يلتقي فيه الناس.

تلك الأفكار التي تنبه اليها السبيتي في بواكير فكره السياسي والديني، والتي تعبر عن أصالته في التفكير، والروح الانسانية التي تقطنه التي هي على حد تعبير فرهاد فؤاد عارف نتاج ثقافة البحر المتوسط، ثقافة التعدد الثقافي والمشاريع الفكرية الغربية التي يتأثر فيها العالم كله؛ إذ إن السبيتي حتى وإن ولد في العراق فقد كانت جذوره الأولية (اللبنانية) سببا في تشكل ثقافته الإنسانية، وهي وجهة نظر لا تخلو من الصحة.

تشكلات "الظاهرة السبيتية": الحدود والآفاق

يمكن القول مما تقدم: لقد مثل محمد هادي السبيتي تجربة نضالية أصيلة يمكن أن نطلق عليها (الظاهرة السبيتية)، تلك الظاهرة التي تشكلت في ضوء تجربته السياسية والدينية، وتمكنت من أن توصل أسئلتها الخاصة عن الوضع السياسي العراقي في إطار الدولة الوطنية التي تأسست عام 1921، وانتجت تجربة سياسية إسلامية، إلى جانب التجارب الشيوعية، والقومية، والبعثية، لكن التجربة الاسلامية في حلتها السبيتية على عكس التجارب التي ذكرناها ابتكرت نسقاً ثقافياً، وفكرياً شكلت تجربة سياسية أصيلة، تجربة كانت تسعى إلى إثارة الأسئلة النضالية غير المحملة بالحمولات الأيديولوجية المغلقة، أسئلة تكتسب معطياتها في أطار راهنيات الواقع العراقي والإسلامي، وتمثل إضافة نوعية إلى التجارب السياسية النضالية العراقية، لكن المشكلة التي كانت تواجه السبيتي تكمن في التضاد الحاد بين هرم القيادة والهيكل الداخلي لتنظيمه؛ أي بين حداثته النهضوية، وأصولية رفاقه الذين يمثلون الجانب التقليدي، وهم بعض رجال الدين، أو مقلديهم في سياق التجربة الاسلامية الشيعية في العراق.

لقد نشأ السبيتي متمرداً وثائراً، وكانت ثورته تنبع على وجه التحديد من ردة فعله تجاه القيم، والعادات، والتقاليد التي تتأسس عليها ثقافته الدينية، والمذهبية، والسياسية السابقة؛ أعني تجربته مع حركة "الاخوان المسلمين"، و"حزب التحرير"، وبعدها تنظيمه الذي يقوده "الدعوة الاسلامية"، وقد كانت تلك الظروف والمناسبات هي التي شكلت تكوينه وتنشئته، وغذاه شعور عام بالرفض والتحدي الذي اجتاح جيله في الجامعات، والعمل السياسي.

لا شك أن من يطلع على تجربة السبيتي السياسية، سيجد أنها تتأسس على الاستقلال الذاتي لإرادة كل من تنشط دينامياته في العمل السياسي كقائد/ داعية اسلامية وهي في جوهرها فردية وتتحقق في إطار الحرية، وأن أي قيادة سياسية يجب أن تزيح من أدبياتها ثقافة القطيع والانقياد الأعمى في العمل السياسي، لذلك يجد السبيتي أن القيادة الحقيقية هي تلك التي تحول الدعاة إلى شخصيات بارزة تنشط دينامياتها في إطار "الارادة الحرة"، و"الوجدان الاجتماعي"، و"العقلانية" التي هي الاشتراطات المعقولة لعمارة الأرض كما عرضها في مانفيستو التفاهم عام (1980)،وهي بالتاي ليست في حاجة لمرجعيات مركزية( دينية، حزبية، سياسية)، بل حتى تلك المرجعيات تغدو افرادا، واعضاءا في تنظيماتها السياسية، وليست لديها ولاية على الآخرين، فالتنظيمات التي يؤمن بها السبيتي؛ ولاسيما في المجال السياسي يجب أن يكون القائد والجماعة التي يقودها أحراراً، وليس عبيداً، ويقودهم هدفاً مشتركاً؛ فضلا عن أنه يجب عدم الاهتمام بالأصول الفكرية والاعتقادية للمشاركين في التحالفات السياسية عند العمل في إطار إعمار الأرض حسب السبيتي، وهذا ما يمكن اعتباره مثالاً للمثقف العضوي الذي يسعى إلى تحقيق وجوده في إطار كتلة تاريخية تشكل مشروعاً ثقافياً وسياسياً من أجل تأسيس عراق يتحقق فيه مفهوم العدالة الاجتماعية، واحترام كرامة الإنسان.

خلاصة القول، وانطلاقاً من المعطيات اللامفكر فيها، والتي حجبتها عنا الظروف التي شكلت تحديات مصيرية للقائد الخالد محمد هادي السبيتي، نجد أنه كان يتعامل مع أشكال الحياة بوصفها منظومات ديناميكية مفتوحة، تلك المنظومات التي تأبى أن تكون ايديولوجيات مغلقة تعمل بشكل روتيني، أو مكيانيكي تؤسس لدوام الأشياء وثباتها على وتيرة واحدة لا تتغير مطلقاً؛ وذلك لأن أشكال الحياة يستحيل اختزالها في سياق عقيدة مغلقة، وهي مفتوحة على الاحتمالات كافة من أجل احتمال مستحدثات الأمور، وتجعل من أفرادها شخصيات بارزة ترتفع بوضوح بما حولها، وترفض الرتابة وتتعامل مع راهنيات عالمها بقوة حضورها الخاص، وليس بشكل آلي يسعى إلى التطابق مع ما هو سائد، بل مع ما هو ممكن يفسح المجالات للمفكر، أو القائد الاستراتيجي استئناف التفكير، والتحليل، والنقد؛ وذلك لأن منظومات الحياة المعقدة لاشيء مستقر في نظامها، وكل شيء فيها يتغير، أو يتحول بفعل الظروف، والمستجدات إلى واقع جديد قد يحدث الفوارق.

ولاشك أن هذا التأليف الجديد من التجربة الفكرية والسياسية التي أطلقنا عليها مجازاً"الظاهرة السبيتية" قد أحدثت صدمة كبيرة عند أصحاب الفكر التقليدي من الدعاة الذي يسعون إلى الدفاع عن مبادئهم بوصفها حقائق مطلقة؛ تلك التي كان السبيتي يرفضها رفضاً تاماً ان تكون منطلقاً للعمل السياسي والفكري؛ ولاسيما تلك التي تتعامل مع الواقع السياسي العراقي بالثقافات المذهبية المليئة بالتعقيدات التاريخية، والايديولجية الحزبية المغلقة التي رفض السبيتي أن تكون قواعداً لتأسيس ثقافة سياسية للدعاة الاسلاميين الذين يسعون إلى تغيير الواقع السياسي العراقي، وإحداث الفارق فيه*.

تكتفي هذه المقالة بسرد الواقع الفكري لنضال القائد محمد هادي السبيتي، وقريباً سيصدر كتاب بعنوان: "ذكريات رجل عادي: قصة العمليات الاستخباراتية للثورة الكوردية" فيها معلومات تقال أول مرة عن اعتقال السبيتي وما حصل له في العراق قبيل استشهاده.

***

الدكتور كريم الجاف

أكاديمي- العراق

في المثقف اليوم