شهادات ومذكرات

حاتم حميد محسن: صفحات من تاريخ الفيلسوف فردريك هيجل

كان هيجل من بين الشخصيات الرائدة  في الحركة التي عُرفت بـ "المثالية الألمانية" في القرن التاسع عشر. هؤلاء المثاليون كانوا في عملهم يجسدون رد فعل لعمانوئيل كانط ولكن باسلوب لم يتفق عليه كانط ابدا. اعتقد كانط باننا لا يمكننا ابدا معرفة العالم الخارجي كما هو "في ذاته"، نحن لا يمكننا ابدا معرفة العالم كما يتقرر بأذهاننا لإعطائنا تجربة به. هيجل بنى على هذا الاستنتاج ليجادل بان الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد من وجوده هو الوعي الذي به ندرك العالم. لذا هو أعاد صياغة العالم بالنسبة للوعي وهذا ما كانت تعنيه "المثالية".

من المفارقة ان معظم الميراث العلمي الهام لأعمال هيجل هو تأثيره على ماركس بصبغة مادية. ذلك بسبب ان ماركس كان مفتونا باستعمال هيجل لفكرة هرقليطس في "الديالكتيك" لتوضيح الكيفية التي إنكشف بها المجتمع طوال التاريخ.

المراحل المبكرة لهيجل

وُلد هيجل في فترة هامة جدا من التاريخ، حيث وصلت الامبراطورية الرومانية المجيدة بعد ألف عام الى نهايتها. وخلال عشرين سنة من ولادة هيجل، اكتسحت متاريس وبنادق الثورة الفرنسية قرونا من اقطاعيات القرون الوسطى لتبشر باسس الديمقراطية الجمهورية التي استمرت حتى اليوم.هذه الاحداث الدراماتيكية ستترك انطباعا مستمرا على الشاب هيجل في تأثيرها الكبير على أفكاره.

بدأ هيجل تعليمه المدرسي في وقت مبكر. أرسله والداه الى مدرسة آلمانية في بلدته شتوتغارت Stuttgart عندما كان بعمر الثالثة، بعدها اُرسل الى مدرسة لاتينية وهو بعمر الخامسة. وعندما بلغ هيجل 11 سنة توفيت والدته التي أحبها كثيرا نتيجة لإصابتها بالحمى الصفراوية. ومباشرة بعد وفاة امه، حصلت لدى هيجل إعاقة في الكلام استمرت معه طوال حياته. وفي عمر 14 وبعد ان بانت عليه القدرة الأكاديمية، انتقل هيجل للدراسة في مدرسة شتوتغارت Stuttgart Gymnasium IIIustre لدراسة الكلاسيك واللغات القديمة والحديثة والفيزياء والرياضيات.

وعندما بلغ 18 عاما أدخله ابوه مدرسة توبنغن اللاهوتية على أمل ان يتبع خطى أعمامه الذين حضوا بمواقع محترمة كقساوسة. لكن هيجل وجد عناءً لا يُحتمل في اللاهوت. هو كان اكثر اهتماما بالفلسفة، وفي اللاهوت صنع هيجل صديقين شاركاه حماسه وهما فردريك شيلينغ وفردريك هولدرلن. شيلينغ سيصبح قطبا بارزا في الحركة المثالية الألمانية، ونجمه لمع باكرا لكن بالنهاية نجم هيجل سيصبح اكثر لمعانا. اما هولدرلن اصبح من اكثر شعراء المانيا الرومانسيين تبجيلا، وقد اُحتفي  به في حركة العاصفة والسحب الأدبية.

عندما كان هيجل بعمر الـ 19 عاما سمع هو و رفاقه أخبارا مثيرة عن الثورة الفرنسية تفيد بسقوط الحكم الارستقراطي في فرنسا بين عشية وضحاها بفعل رغبة الناس. هم كانوا سعداء جدا لرؤيتهم ان افكار أبطالهم الفلسفيين مثل كانط وفولتير وروسو كانت تلهم الامة الفرنسية نحو مجتمع راديكالي جديد؟ وكانوا يأملون ان تنتشر هذه الافكار شرقا (وهو ما لم يحصل).

بعد إكماله برنامجا دراسيا لمدة خمس سنين في مدرسة توبنغن، ابتعد هيجل عن ممارسة أي عمل بصفة قسيس وبدلا من ذلك عمل مدرّسا لأحدى عوائل برن الثرية. كانت لدى صاحب العمل الجديد مكتبة غنية، استخدمها هيجل للاطلاع على مجموعة من الكتب الكلاسيكية والمعاصرة. في هذا المكان عثر هيجل على كتاب (تاريخ انحطاط وصعود الامبراطورية الرومانية،1776) لـ بادوارد جيب Edward Gibbon. ما احتواه الكتاب من وصف مفصل وشامل لمصير أكبر امبراطورية اوربية اصبح مصدرا رئيسيا للالهام في عمله.

في شهر جنوري 1801 تلقّى هيجل دعوة من شيلينغ للالتحاق به في مدينة جينا الالمانية. وعلى الرغم من ان دعوة شيلينغ لا تتضمن عملا مدفوع الأجر الذي يبحث عنه هيجل، لكن ذلك ساعده في احتضان مجتمع اكاديمي مليء بالافكار الجديدة. وباشراف فون غوته، اصبحت جامعة جينا مشهورة كمركز للفلسفة المثالية لما بعد كانط ولكلاسيكيات ويرمر والادب الرومانسي الالماني. كانت جينا ايضا مكانا للرومانسية بالنسبة لهيجل. وفي عمر 37 عاما بدأ هيجل علاقة غرامية مع مالكة منزله جوانا بوركهارت، التي حالا اصبحت حاملا بابنها لودفيج.

وبعد ادراكه ان الولد الجديد سيشكل فما بحاجة للطعام،عمل هيجل في كل ليلة لإنهاء اول عمل رئيسي له وهو فينومينولوجيا الروح. هنا اقترح نظرية جديدة سميت الان (المثالية الديالكتيكية) اكّدت على ان تطور المجتمع طوال التاريخ  تقرر بقوى عملاقة وغير مرئية واحيانا متناقضة. وكتأكيد لهذه النظرية، دخلت قوات نابليون لجينا في 13 اكتوبر عام 1806، حينما كان هيجل يضع توا اللمسات الاخيرة لعمله. ومع انكسار جينا وعدم وجود أي عمل في الافق، انتقل هيجل الى بامبرج Bamberg ليمارس عملا كمحرر صحيفة. هو ترك طفله لودفيج وجوانا خلفه على أمل العودة ليتزوجها متى ما اصبح قادرا على ذلك.

في ابريل 1807، نشر هيجل فينومينولوجيا الروح في بامبرج . هذا العمل الضخم انبثق من عدة مصادر ألهمت هيجل وهي: دراسة هيجل للتاريخ، ومشاهداته للثورة الفرنسية، وقرائته لاستنتاج كانط بان العالم الواقعي لايمكن معرفته ابدا. وكما في المثاليين الألمان الآخرين، اعتقد هيجل بان الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد منه هو الوعي الذي به ندرك العالم. هيجل دمج هذه الفكرة في تفكيره التاريخي، ليقول ان التاريخ هو عملية ادراك الوعي لذاته. في فينومينولوجيا الروح تعقّب هيجل الكيفية التي اصبحت بها المجتمعات أكثر تعقيدا، وان الثقافة الانسانية اقتربت اكثر لما رآه هيجل كحالة حتمية لمعرفة الذات. هو تنبأ بان هذه العملية بالنهاية ستصل ذروتها في مجتمع انساني يصبح على وعي تام بالذات وهي الحالة التي سماها هيجل بـ الروح المطلقة.

ومع نشر اول طبعة لفينومونولوجيا الروح، أثار الكتاب فقط ردودا متواضعة في الحلقات الفلسفية وفي محيط القراءة العام. هذا بلا شك يعود الى اسلوبه الصعب وهو اسلوب تميزت به كل أعمال هيجل. وفي الأشهر التي أعقبت نشر الكتاب، وبعد ان أمكن للقراء فك التشابك والرموز الموجودة فيه واستوعبوا بشكل أفضل افكاره الرائدة، بدأ الإعجاب يتزايد بالكتاب وبسمعة هيجل ومكانته في الدوائر الاكاديمية وبالجماعات الأوسع نطاقا. ومع تزايد هذه الشهرة، نسي هيجل جوانا ولودفيج في جينا وبدأ البحث عن زوجة جديدة تتماشى كثيرا مع مكانته الجديدة.

في عام 1808،عُرضت على هيجل وظيفة راقية في نورمبيرغ كمدير لاحدى المدارس العليا. وهنا التقى هيجل مع ماريا توشر الشابة ذات الـ 19 عاما المنتمية الى عائلة ارستقراطية محترمة. ورغم ان جيانا حاولت عرقلة هذا الزواج، لكن هيجل مضى قدما للزواج من واحدة من أرفع مستويات المجتمع. هو الان في طور الرقي الاجتماعي الشخصي. وفي السنوات التي أعقبت زواجه حصل لديه انتاج متزايد ونشر عمله الثاني الذي نال شهرة ايضا وهو (علم المنطق) في ثلاثة أجزاء من عام 1812 الى 1816. هذا العمل ساعده في انجاز هدفه المنتظر منذ وقت طويل وهو نيل الاستاذية في الفلسفة. وبعد سنتين في جامعة هايدربيرج عُرضت عليه وظيفة أكثر احتراما في جامعة برلين .

هيجل في ذروته

عندما وصل هيجل الى برلين عام 1818، كانت عاصمة بروسيا اكبر مدينة المانية والمدينة الرابعة في الحجم في اوربا، ومركز مزدهر للموسيقى والفن. جمعية برلين رحبت بالفيلسوف الشهير وزوجته الانيقة الشابة. وعند بلوغه الـ 48 عاما بلغ هيجل ذروة أعماله . أعطى علم المنطق توضيحا مفصلا عن فكرته المركزية في فينومينولوجيا الروح، ليقول ان الواقع ليس فقط يتشكل بواسطة الذهن وانما هو الذهن. هذا العمل رسخ سمعته كأحد اكثر المفكرين الآلمان جرأة منذ كانط. محاضرات هيجل ممتلئة بالحضور واصبح هيجل حديث برلين، اسلوبه الغامض في الكلام الذي سُخر منه في الماضي،اصبح الان يُنظر اليه كشيء اكبر من السحر والافتنان بحياة الفيلسوف. وبعد سماعة بنبأ موت جيانا، أخرج هيجل ابنه غير الشرعي من دار الأيتام ليأخذه الى عائلته الى جانب الاولاد الاثنان اللذان أنجبتهما ماريا. لودفيج، لم يتناسب مع عائلة هيجل البرجوازية الثرية، مما جعل هيجل يشعر بالتمزق بين واجباته نحو زوجته واولادها (الذين هم لا يحبون الاضافة الجديدة لعائلتهم) والتزاماته تجاه لودفيج وامه الاخيرة. في الحقيقة، حياة هيجل الشخصية هي الان محاصرة بالتوترات الديالكتيكية المشابهة لتلك التي كتب عنها في فلسفته. في عام 1821 نشر هيجل عمله الثالث الكبير (فلسفة الحق) الذي طرح فيه افكاره حول الفلسفة السياسية. هو جادل بان القانون هو حجر الاساس للدولة الحديثة. هو كان محبطا من ان هذا الكتاب جرى فهمه من جانب العديد من القرّاء باعتباره متعاطفا مع جناح اليمين للملكية البروسية.

في تلك الأثناء، اصبحت حياته في البيت  مقلقة باستمرار بفعل الصراع مع لودفيج الذي اضطر هيجل لطرده في النهاية من المنزل وتبرّأ منه بعدما وجده يسرق النقود من صندوق العائلة. انضم لودفيج الى جيش المرتزقة في امستردام وأبحر الى جاوة للقتال في الحروب الاستعمارية. في عام 1831،الى جانب كل شيء في بروسيا، وجد هيجل نفسه مذعورا بالتقارير عن وباء كوليرا اكتسح آسيا متجها نحو اوربا. وعندما ضربت اول موجة للوباء بروسيا، طُلب إغلاق جميع المسالخ والمدارس والبنايات العامة، وصدرت الاوامر الملكية بتعقيم جميع العملات المعدنية والبريد بالدخان او الكبريت. ومع تزايد اعداد الاصابة، اصدر الملك مرسوما بفرض حجر صحي على جميع المنازل المصابة في برلين. هيجل وعائلته حزموا حقائبهم وتوجهوا الى مكان آمن في كروزبيرج، وهي منطقة خارج برلين حيث سمحت لهم عائلة صديقة لهم باستئجار الطابق العلوي من بيتهم.

استمر وباء الكوليرا يصول لشهور في برلين حيث كان هيجل وعائلته في كروزبيرج  ينتظرون انحساره. ورغم ان هيجل بقي قلقا من إمكانية انتشار الكوليرا الى موقعه الجديد، لكنه أمضى تلك الشهور بهدوء وراحة عالية للعائلة، حيث أشارت ماريا لمكانهم المؤقت بالقصر الصغير، وكان هيجل آنذاك يستمتع في الحديقة الخلفية للمنزل ممضيا الوقت في لعب الشطرنج مع ابنه وفي قراءة الصحف وكتابة الفلسفة.

وبعد الإعلان الرسمي عن إنتهاء موجة الوباء،عادت العائلة مجددا لمنزلها في برلين. لكن الفيلسوف المتقدم في السن لم يشعر بالأمان رغم التطمينات من السلطات بانحسار خطر الوباء. هو اشتكى لماريا بان هواء برلين القذر جعله يشعر "كسمكة اُنتزعت من جدول رقراق واُلقي بها في مياه الصرف الصحي". وكما تبيّن لاحقا، ان هواجس الفيلسوف القاتمة كانت في محلها. في الساعة 11 صباحا من يوم الاحد 12 نوفمبر 1831، وفقط بعد ايام قليلة من عودته الى برلين، شعر هيجل بمغص شديد في المعدة. وفي اليوم التالي تدهورت حالته الصحية أكثر ولم يعد قادرا على التبول، وبدأ يعاني من سعال شديد. و بعد الظهر من نفس اليوم، وجدته عائلته بلا حركة ودون تنفّس، وجهه كان شاحبا. تم إستدعاء الطبيب الذي أعلن عن وفاة آخر ضحية في المدينة. هيجل لم يسعه الوقت للإستماع الى أخبار عن وفاة ابنه اللاشرعي لودفيج قبل عدة شهور أثناء القتال في باتافيا.

استنتاجات ما بعد هيجل

في ذروة شهرته، نُظر الى هيجل  كمفكر عصره ومتحدث بامتياز عن اوربا ما بعد نابليون، وما بعد الثورة. بعد موته أسرع تلامذته لنسخ محاضراته معتقدين انه كان واحدا من الذين استوعبوا التغيرات التي تكتسح اوربا، عندما سمحت الكنيسة والارستقراطيون لرؤية نابليون حول الحاجة لمزيد من المساواة والمجتمع الانساني. وحتى بعد وفاته، كان تأثير هيجل في صعوده وهبوطه أشبه بحركة المد والجزر في التاريخ الذي وصفه في فلسفته، عندما قسّمه أحد أتباعه الى معسكرين متضادين: الهيجليون اليسار الذين اعتقدوا بالحاجة الى تغيرات ثورية اخرى، والهيجليون اليمين الذين دافعوا بحماس عن الدولة البروسية الملكية.

أحد اكثر الهيجليين اليسار الشباب راديكالية كان اسمه كارل ماركس (1818-1883). ماركس حوّل المشهد السياسي للقرن القادم بافكاره عن الكيفية التي يجب ان تستجيب بها اوربا للتحديات واللامساواة التي تجسدت بصعود الرأسمالية والتصنيع الواسع. اليوم نشير لهذه الافكار بـ "الماركسية" او "الشيوعية"، لكن ماركس سمى نظريته بـ "المادية الديالكتيكية" اعترافا منه بحقيقة انها تأثرت مباشرة بمثالية هيجل الديالكتيكية.

ورغم ان فلسفة هيجل الصوفية لا تتماشى مع الرؤية العلمية المادية المهيمنة اليوم، لكن رغبته في فهم التاريخ كان لها تأثيرا مستمرا، ليس فقط في الفلسفة القارية، وانما بشكل اوسع في الفكر الاكاديمي والشعبي.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم