شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: خالص جلبي .. عاشق العلم والسلم

أكتب اليوم عن الدكتور "خالص جلبي" ذلك المفكر السوري العملاق الذي أتحقنا بالعديد من الدراسات والأبحاث الفلسفية المتعمقة في مجال التنوير، وتحرير العقل الإسلامي ، ونبذ العنف في شجاعة نادرة تمثلت في مواجهة كل أنوع الاستبداد والفساد ، فهو والله ذو أصالة شامخة ، فممارساته كانت قادرة على إيصال رسالته الفكرية للسوريين وبأن الفكر المبني على الجهد بحثي دؤوب وشاق ومازال وسيزال.

ولهذا عُرف  "خالص جلبي" بأفكاره الجريئة في مختلف القضايا المحورية في المشهد السياسي العربي والإسلامي.. قادته آراؤه للسجن في سوريا، وعمل فترة في القصيم بالسعودية، ومنها واصل كتابته في الصحف وطرحه الجريء في القضايا الجدلية. كما عرف عنه اهتمامه الواسع بالثقافة، واقتناعه الراسخ بالفكر كضامن للتقدم والرخاء.

ويعرف خالص جلبي نفسه بقوله: "إنني سوري المولد، عربي اللسان، مسلم القلب، وألماني التخصص، وكندي الجنسية، وعالمي الثقافة، ثنائي اللغة، لغة التراث ولغة المعاصرة, وأدعو إلى الطيران نحو المستقبل بجناحين من العلم والسلم" .

ولد في مدينة القامشلي شمال شرق سورية، وتخرج من كلية الطب عام 1971 وكلية الشريعة 1974.. سافر إلى ألمانيا وأتم هناك تخصصه في جراحة الأوعية الدموية، وعاش فيها حتى عام 1982 حصَّل دكتوراة في الجراحة ـ ألمانيا الغربية 1982 م ثم عمل كرئيس لوحدة جراحة الأوعية الدموية في المستشفى التخصصي ـ القصيم ـ السعودية .

كتب جلبي مئات المقالات في الصحف والمجلات السعوديّة والعربيّة، وشارك في العديد من المؤتمرات العلميّة العربيّة والدوليّة.. وألّف كتباً علمية عديدة منها: الطب محراب الإيمان، وعندما بزغت الشمس مرتين: قصة السلاح النووي، وأين يقف العلم اليوم، والإيدز طاعون العصر، والعصر الجديد للجراحة -من جراحة الجينات إلى الاستنساخ الإنساني، والإيمان والتقدم العلمي، وحوار الطب والفلسفة..

ومن كتبه الفكرية: فلسفتي، ومخطط الانحدار وإعادة البناء، وقوانين التغيير ظاهرة المحنة- محاولة لدراسة سننية، وضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية، وسيكولوجية العنف وإستراتيجية العمل السلمي".

تأثر خالص جلبي  في فكره بمفكرين غربيين كما تأثر ببعض المثقفين العرب الآخرين في عصر النهضة حيث كانت من أبرز الأفكار التي نادى به نتيجة هذا التأثير هي أن تحقيق النهضة في المجتمع يستوجب التمثل بالغرب وذهب إلى القول أن الحضارات تسقط بالانتحار الداخلي، وليس بالهجوم الخارجي، وبالمرض الطويل الذي يسلّمها إلى النهاية المحتمة: الانهيار والاندثار".

كما انتقد خالص جلبي ما يسميها ظاهرة اغتيال المثقفين في العالم العربي، حيث يقول "لم يبق في الغابة إلا الضواري تسرح، وأما المثقفون فداخل أقفاص الغابة بين متهم وعميل ومشترٍ ومنسحب وخائف على نفسه يترقب أن يخرج من اعتقال إلى إقامة جبرية إلى ملاحقة قانونية، وأحيانا ضربا باليمين على الوجوه والأدبار".

وكان يرى أنه ليس هناك من مسألة عويصة وغامضة مثل الزمن، وليس هناك من قضية واضحة مثل الزمن، فهي العملة التي بها نتعامل كل لحظة، ولا نتحرك وننجز دون معرفة تدفق الزمن وكم الساعة؟ وليس من أحد لا يحمل ساعة يد، بغض النظر عن شكلها الجمالي وثمنها مرتفعا أو هابطا.

كان خالص جلبي قارئ للتاريخ حيث قال إن قراءة التاريخ مفيدة. ولولا ذلك لم يعتبرها القرآن مصدرا للمعرفة. «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل». وأنا أحياناً يعتريني شعور أشبه بالدوار، حينما يسبح خيالي في تصور البشر الذين سبقونا؛ فأقول هل يعقل أن يكون قد عاش قبلنا أجيال وأجيال، ولم نجتمع بأحد ولم نر أحداً؟ ولكن القبور تتحدث أخبارها ويكذبني الواقع!! فأقول ولكن من أين جئت أنا؟ ثم أقول كيف عاشوا وكيف عانوا وكيف ماتوا؟ وما شعورهم حينما دخلوا الأبدية؟ وكيف كانوا ينظرون إلى ظروف أيامهم؟ ويأتني الجواب من سجف الغيب؛ لقد عاشوا تماما مثلنا، فأكلوا وشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا. وأحياناً أسبح في التفكير إلى درجة أن تدمع عيني، عندما أتصور طوابير لا تنتهي من أجدادنا، سلكوا إلى العالم الأخروي؛ فلا نسمع لهم ركزا.

كما كان خالص جلبي يؤمن أن هناك ثلاث أفكار رئيسية تجمل فلسفة هذا الرجل، الحرب هي أم كل الأشياء. ولن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين. والكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم. وهناك صيرورة متدفقة في الكون. وكل يوم هو في شأن. وفي الغالب لم يفهم الرجل على نحو واضح، مع أن نظرته للعالم تتمتع بشيء كبير من القوة والتماسك، فحواسنا تضللنا كثيرا عن الحقيقة المختبئة.

وكان يرى على أنه إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) .

كما كان يرى أن إن الفوضى الاجتماعية في العالم الإسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكيك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي .

وكان يرى أنه :" ليس أبغض على النفس من النقد ولا أحلى عسلا من الثناء، ولكن لا تصحيح بدون مراجعة، ولا تقدم بدون تعديل. قانون الحذف والإضافة أساسي في تصحيح أي مسار وكل مسار.. كارثة المسلمين اليوم أنهم يحيلون في تردي وضعهم إلى قوى خارجية؛ فلا يقومون بمراجعة للذات. وبهذا تحبط أعمالهم، فلا يخرجون من حفرة الخطأ.. إن مبدأ النقد الذاتي أساسي في أي وحدة عمل، سواء كانت عملية جراحية أو بناء هندسيا أو زواجا وتأليف كتاب. أداة نفض مستمرة للوعي. وليس مثل الوعي نور.

يقول جلبي:" إننا نعيش في عالم متوقف فقير أنهكه التعب، عالم فقير سياسيا، تغادره العقول وتهرب منه، ولدخول العالم المعاصر لابد من إدراك هذه الوضعية علي النحو التالي :

1- نحن أولا أمام (نقد) الفكر الديني وليس (نقض) الفكر الديني. بمعنى أننا من داخل هذا الإطار نحاول أن نقوم بتجديد الفكر الديني.

2- نحن أمام كسر التابو الثلاثي؛ المتمثل في الدين والجنس والسياسة؛ فالفقهاء والكهنة يحتكرون الحديث والحقيقة تحت مظلة الرب والله. ويحتكر السياسيون السلطة والمال والسلاح، ويأخذ الجنس قوته من التأرجح بين الستر والغطاء، فدخل الدين على الخط ليتحدث عن الحشمة حرصا على إبقاء هذا الدافع شغالا لإنتاج الحياة؛ ذلك أن مستودع الحياة هو الجنس.

3- يعد النقد مؤشرا للنضج، وإن كنا في الثقافة العربية الإسلامية لا نعرف (النقد) فضلا عن النقض.

4- ضرورة تشبع النفس الإنسانية بروح النقد؛ فاللوم الذاتي هو أعظم مؤشر على وضع آلية التصحيح، وليس الجلد الذاتي، اللوم الذاتي هو قدرة مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ وعدم الإصرار عليه.

5-علينا أن نؤسس لعملية النقد الديني، لأنه ليس من نهضة بدون إصلاح ديني؛ ولتحقيق ذلك، لا بد من الاطلاع والاستفادة من علماء، أمثال ماكس فيبر، وهو من علماء الاجتماع الألمان (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية) والمؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي.

ولكن أعيب على خالص جلبي الحدية الشديدة التي كانت يكتب بها ضد النظام السوري ، ومن مظاهر ذلك قوله في 11 أكتوبر عام 2011 ، كتب مقالا بعنوان " الثورة السورية وحق الفيتو حيث كتب يقول : حق الفيتو أو (النقض) يعني أن العالم كله لو قال إن الشمس تطلع من مشرقها، فيمكن لأحد أعضاء مجلس الأمن الدائمين أن يقرر أن الشمس تطلع من مغربها بدون أن يبهت الذي كفر. وحق الفيتو، ثانيا، يعني أن العالم مكون من طبقتين، سادة وعبيد، فمن أصل ستة مليارات من البشر يتكلم بالنيابة عنهم أقلهم، والحل والعقد بيد خمس دول، يبلغ تعداد سكان أربعة منهم أقل من سكان الهند. وحق الفيتو، ثالثا، يقسم الكرة الأرضية إلى نادٍ يفرض الوصاية على العالم، ويمكن لديناصورات القوة في هذا المجلس أن تلغي إرادة العالم كله.وحق الفيتو، رابعا، هو ضد الديمقراطية، فيمكن لأعظم قرار أن يعطِّله أي عضو، مما يقتل أهم آلية في الديمقراطية من جانبين: التمثيل الفعلي لسكان الأرض، واتخاذ القرار بأغلبية الأصوات. والعصابة الخماسية دائمة العضوية فيه هي ألعن من حكومات العالم الثالث، فلا أمل في تغييرها بموت أو انقلاب، ويمكن لأعدل قضية أن تموت في ساحتها. ألا ساء ما يزرون.. حق الفيتو، بكلمة ثانية، هو ضد المنطق، وعنصري ضد الإنسانية، وضد الديمقراطية. وبتعبير جودت سعيد، حسب (الدين) يساوي الشرك بالله الذي لا ينفع معه أي عمل.. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. وللحديث بقية في قابل الأيام.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط.

في المثقف اليوم