شهادات ومذكرات

بهجت عباس: ثورة 14 تموز 1958 كما عشتُها

كُتب عن هذه الثورة أو الانقلاب، كما يحلو للبعض تسميتها، كثيراً، قرأت بعضاً منها ولم تتسـنَّ لي الفرصة لقراءة البعض الآخر. وصف الثورةَ بعضُهم بالتقديس ووصفها آخرون بالكارثة، وقد اعتمد هذا على عاطفة الكاتب وأفكاره وميوله السياسية، كما هو شأن تأريخنا الطافح بالمتناقضات والكذب والخرافات أحياناً، نتيجة آراء الكاتب ومعتقداته والتأثيرات القومية والدينية والقبلية على ما يكتب. وكذا كان الرأي في الزعيم عبد الكريم قاسم أيضاً. ولما كنت عشتُ الثورةَ وعاصرتُ أحداثَها وقرأت كثيراً مما كُـتب عنها، وجدت تطرفاً في تقييمها وفي الحكم على الزعيم عبد الكريم قاسم. وإني هنا لا أناقش من كتب عنها، فقد يكون لهذا حديث آخَـرُ. ولكني أذكر بعض ذكرياتي عن بعض الأحداث التي مرّت عليّ، ولا سيّما الوجهِ الآخر (السَّـلبيِّ) الذي تحاشى ذكرَه أو دافع عنه الأنصار بتطرّف. وإنّي إذ أركِّز عليه ليكون القارئ الذي لم يعاصر تلك الأحداث على بيِّـنة من الأمر، فيعرف أسبابَ الكارثة. ولمّـا لم أكنْ ولست منتمياً إلى أيِّ حزب يصبّ العقل في قالب نحاس فيحجب الرؤيةَ إلى الأشياء التي لا يريد، ويهيض الجناحين من التحليق في الفضاء الرحيب، سأذكر بعضَ ما عاينتُ وسمعتُ وعشتُ بحياد تام، حيث أصبح كلّ شيء ذكرياتِ ماضٍ وكم من مياهٍ جرت تحت الجسور بعدها!

كان ذلك في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 14 تموز عام 1958 حينما أيقظني والدي من النوم على سطح دارنا المتواضع في الكاظمية وكنتُ متخرجاً قبل شهر من كلية الصيدلة والكيمياء الملكية في بغداد. أيقظني والديً قائلاً إنَّ انقلاباً حدث والحكومة تغيّـرتْ. لم أُصدِّق أولَّ الأمر، ولكنَّ البيان رقم 1 الذي نادى المواطنين (نتوجَّه إليكم بالنداء للإفادة إلى السّلطات عن كلِّ المنتهكين والخونة والفاسدين لكي يتمَّ اقتلاعهم)، كان البرهان على الثورة/الانقلاب وربما كان بداية القسوة والعنف والفوضى في الوقت عينه. في السّاعة الثامنة صباحاً خرج الناس هاتفين بالموت للخونة وعملاء الإمبريالية. كان الهتاف في الكاظمية (حيث كنت فيها) لجمال عبد الناصر صباحاً حتى الظّهرَ، تحوَّلَ إلى عبد الكريم قاسم بعد الظهر.

ثم عرفنا بعد سويعات أنَّ هناك رئيسيْـن للثورة، هما: الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، الذي تقلّـد مناصبَ القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء ووزير الدفاع، والعقيد الركن عبد السلام عارف متقلداً مناصبَ نائب القائد العام، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. ولم ندرِ بادئَ الأمر أنَّـهما كانا يسيـران في اتجاهين متضادّيْـن. أما الوزراء الآخرون، فكانوا تشكيلةً من رأسمالي وإقطاعي وماركسي ونازي وعروبي إسلامي وبعثي وكوردي، مما جعل الفكرَ في حَيْـرةٍ كيف يكون الانسجام، والمشارب مختلفة والتيارات متناقضة، ولأنَّ الخلافاتِ العميقةَ الكامنةَ في القعر قد تطفو على السطح قريباً، وهكذا كان. ومما يُـلفت النظرَ أنَّ الطائفيةَ الدينية لم تلعب دوراً في السنة الأولى على الأقلّ، وكأنَّـها لم تـوجد أو لم يُحسَب لها أيّ ُ حساب. والغريب أنَّ التشكيلة الوزارية لم تضمَّ فرداً واحداً من الحزب الشيوعي ذي القاعدة الشعبية العريضة حينذاك، والذي لعب دوراً هاماً قبل ذلك بتهيئة الرأي العام والتمهيد لإشعال فـتـيلِ الثورة وتأجيج نارها، ولكنّـا فهمنـا حساسيةَ الأمر. ورغم هذا، كان الحزب الشيوعي أولَّ المتحمسين والمساندين، وبخاصة لقاسم الذي لم يكن معروفاً لدى العامة من الناس لولاه. وبعد أسابيعَ قلائلَ بدأت الخلافات بين الرئيسين تتصاعد. فبينما كان عبد الكريم قاسم يُصرِّح في 27 تموز (ليست الوَحدةُ شيئاً يقرِّره إنسان بمفرده، بل يجب أن تُـقرِّرَه شعوب الدول العربية)، أخذ عبد السلام عارف في 5 آب يدعـو (إلى جمهورية ضمن الجمهورية العربية المتحدة). وفي 7 آب نزل مئات الآلاف من الشيوعيين وأنصارهم ومؤيديهم وكذلك من الأكراد الديمقراطيين والوطنيين الديمقراطيين لتأييد قاسم إلى الشارع بهتاف (اِتحاد فيدرالي وصداقة سوفييتية). وفي بداية أيلول أخذ الشيوعيون ينتقدون الوحدة ودَعَـوْا إلى تقييمها. وفي 12 أيلول بدأ العد التنازلي لعبد السلام عارف حيث أ أُعفِـيَ من بعض مناصبه، ومنها جمعاءَ في 30 أيلول 1958، وهو اليوم الذي صدر فيه قانون الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية، ثم عُـيِّن سفيراً في بون في 12 تشرين الأول من السنة عينها بعد محاولتِه قتلَ الزعيمِ عبد الكريم قاسم بمسدسه الخاص، وأ ُودعَ السّجنَ بعد عودته " غيرِ المأذون بها " في 4 نوفمبر وتمَّ إغلاق جريدة البعث بعد ثلاثة أيام. ثم كانت مؤامرة رشيد عالي الكيلاني في كانون الأول 1958 بدعم الرئيس جمال عبد الناصر وفشلها. وهكذا بدأت القلاقل والفتن والدسائس تلعب أدوارَها، تغذّيها أطماع شخصية وحسد. وكان الصّراع على أشدّه بين هذه الفئات في السنة التالية، حيث كان دامياً قاسياً ذهب كثير من الضحايا الأبرياء جـرّاءه، وهي السنة عينها التي غيّر الزعيم عبد الكريم قاسم (سياسته) أيْ (بدّل گير) وجاء بفكرة (توازن) القوى. وكان أهمّ الحوادث عام 1959 هو تمرُّد العقيد الشواف في 8 آذار في الموصل، ومجزرة كركوك في 14-16 تموز، وخطاب عبد الكريم قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز واصفاً ما حدث حينذاك بأبشع من أعمال هولاكو، والاعتداء المسلح عليه في رأس القرية في 7 تشرين الأول الذي أدّت إصابته البليغة فيه إلى البقاء في المستشفى ما يقارب الشهرين.

عبد الكريم قاسم

أجمع معظم الكتّاب الذين كتبوا عن ثورة 14 تموز على أنَّ عبد الكريم قاسم كان وطنياً عفّـاً نزيهاً مخلصاً للعراق محباً لشعب العراق، ولا سيَّما الفقراءُ منهم، وكلّ من عاصر حكمَه لا ينكر ذلك. ولكنَّ هذا ليس بكافٍ، إذ أنَّ تفاعلَـه مع الأحداث يلعب دوراً في نجاح الحكم أو فشله. كان الزعيم عبد الكريم قاسم عنيداً وذا دهاء وإنْ كان محدوداً. ولما لم يكن حزبياً أو عشائرياً ولم يكن له أصدقاءُ كـثـرٌ في الجيش، وجد ضالّته في الحزب الشيوعي ووجد الأخير فيه خيرَ سند وعون. فقد كانت مصلحة مشتركة من حيث نظرتُـهما إلى الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة والعناصر القومية والبعثية وبعض الضباط (الأحرار) ذوي النزعة العدائية التقليدية للشيوعية. كان الشيوعيون مخلصين لقاسم، وكان قاسم حذراً، اِستغلَّهم بادئَ الأمر ضدَّ هجمات ناصر الإذاعية ومؤامراته المتكررة لتثبيت أقدامه، فأبلوْا بلاءً حسناً. ولما استتبَّ له الأمر، وحَـلِـيَ الحكـمُ في عينيه، قلب لهم ظهر المِـجَـنّ. والواقع أنَّ ناقوسَ الخطر أخذ يدقّ بعد تظاهرة الأول من مايس العمالية 1959، حيث حشد الشيوعيون ما قُـدِّرَ عدده بنصف مليون متظاهر جاءوا إلى بغداد من كلّ أنحاء العراق، مما دعا ممثلَ الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة المستر هنري كابوت لودج إلى القول " إنَّ عددَ أعضاءِ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي 6 ملايين ولكنه في العراق 8 ملايين ". ( كانت نفوس العراق حينذاك ثمانية مليون نسمة ). بدأ عبد الكريم قاسم يضغط عليهم في نهاية ذلك الشهر. ولما حدثت مجزرة كركوك في 14-16 تموز عام 1959، خطب قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز ناعتاً مَنْ قام بها بالبرابرة والفوضويين وشبّههم بأسوأ من هولاكو، وكان صوته مرتعشاً، ربما من الغضب أو خشية الفتنة أو الاثنين معاً، وأخذ يغمز قناة الشيوعيين، مما أعطى جُـرَعاً قويةً للجِّـهات المضادّة المعادية وشدّ أُزرَهم. ولما كانت المنظمات والاتحادات العمالية والفلاحية والطلابية بيد الشيوعيين، أخذ الزعيم عبد الكريم قاسم يحطِّـم تلك الشبكة، وبدأها بإلغاء ما سُمِّي بلجان صيانة الجمهورية، التي كانت مُنظَّماتٍ شيوعيةً متوغلةً في دوائر الدولة تراقب الموظفين، ثمَّ أكملها بانتخابات جديدة وأخذ يأتي بالجماعات المعارضة كبدائل، بشتّى الأشكال والفنون، وكان يساعده عن طيب خاطر الزعيم أحمد محمد يحيى وزير الداخلية. فهذا الأخير كان لا يُجيز جمعيةً فلاحية ( شيوعية) بحجة تافهة، مثلاً، أنْ يكون الطابع الملصق على الطلب مائلاً أو منحرفاً أو أنَّ التوقيعَ عليه تخطّى إلى الجانب الأيسر منه...إلخ، يجعل الطلب مرفوضاً! وما شابه هذا كان كثيراً. ولعلّ المهزلة الكبرى كانت في إجازة حزب داود الصائغ (الشيوعي) وتمويله بدلاً من الحزب الشيوعي الحقيقي! فبينما كان الحزب الشيوعي (الحقيقي) يحافظ على الحكومة التي ليس فيها أيّ عضو منه ولم يُعترَفْ به (رسمياً)، ويسند قاسم بكل الطرق، كان قاسم يعقد اجتماعاً مع داود الصائغ، في المستشفى الذي يرقد فيه في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1959 ويخصّه بحديث لينشره في جريدته (المبدأ) التي أجازها قبل أيام قلائل من الاجتماع! والواقع أنَّ الحزب الشيوعي ربط مصيره بقاسم، فما يحدث لقاسم من سوء، يحدث له أيضاً. ولم تكن محكمة العقيد (شمس الدين عبد الله) العرفية التي كانت تحاكم المخلصين للزعيم والشيوعيين، وأصدرتْ أحكاماً اِعتباطية عليهم، بأقلَّ غرابةً، فوجود شاهدين  (أيّـاً كانا)، يحلفان بالقرآن الكريم، كافٍ ليضعَ المُتَّـهمَ (الشيوعيَّ) بين قضبان السّجن. و قد يكون ما ذكره الأستاذ حسن العلوي في هذا الصدد في كتابه (عبد الكريم قاسم رؤية بعد العشرين) وافياً: "إنَّ شمس الدين ظاهرة فريدة في الحكومات والأنظمة ... معارض كبير يقاضي أنصار الحكومة، ويحكم على محبّي زعيمها بالسجن." فالزعيم عبد الكريم قاسم يعرف هذا جيداً، بل هو من خطّط له، ليُضعفَ فئة ويقـوِّيَ أخرى، وقد قال أيضاً " القطار يسير والركاب يتخاصمون ولكنه سيواصل السير وسيصل "، ولكن مع الأسف لم يواصل القطار سيرَه ولم يصل! كان قاسم يعتقد ويريد الناس أن يعتقدوا أن الجيش هو من حرَّرهم، ولكونه قائدَ الجيش، فهو إذاً ذو مِنَّـةٍ كبيرة عليهم، ولذا وجبَ على الناس تمجيدُه واللهجُ بفضله مدى الحياة. وفي احتفال أُقيم في عام 1961 بذكرى وثبة تشرين، وكان ثمة حشد كبير من الناس، فأخذ الزعيم  يمجِّـد ثورة تموز كثيراً، ويقلل من وثبة تشرين، فقاطعه المحامي الشاعر علي جليل الوردي، وكان شيوعيا مردّداً هذا البيت :

واللهِ ما تشرينُ إلاّ مِـعبَـر ٌ*** يزهو به تمّـوزُ وَهْـوَ مُظَـفَّـرُ

فأجابه الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان يُعجبه مثلُ هذا التحـدّي، بقوله: إن الشاعر صادق، فهو يعني " وريش الخوافي قـوَّة ٌ للقـوادم ِ" – القوادم هي ريش جناح الطائر ويكون كبيراً وقوياً، وريش الخوافي هو الريش الناعم الذي يسند الريش الكبير - . ولما صرح الأستاذ كامل الچادرچي، زعيم الحزب الوطني الدمقراطي، بأنَّ على الجيش الرجوعَ إلى الثكنات وتسليمَ مقاليدِ الأمور إلى سلطة مدنية مُنتخبة ديمقراطيا من قبل الشعب، أثار القولُ حفيظَـتَه. وفي اليوم التالي خطب غامزاً قناة السياسيين القدامى متَّـهمَهم بالعجز وناعِـتَهم بـ (ساسة الصّالونات) ومتسائلاً (أين كانوا يومَ فجَّـرنا ثورة تمّـوز؟) وكان لا يحبّ أن يرى شخصاً قويّـاً محبوباً لدى الشعب سواه . فمثلاً عندما كان العقيد فاضل عباس المهداوي، رئيس محكمة الشعب، يحاكم أحد المتهمين في تمرّد الشوّاف في الموصل (8 آذار 1959)، ذكر أحدُ الجنود الشهود العقيدَ حسن عبود، آمرَ حامية الموصل الذي قمع التمرّدَ، واصفاً إياه بالرجل الحديدي، اختلجت عضلات وجه المهداوي ولم يعلق، وكان من عادته التعليق. وفي اليوم التالي ذكر جندي آخر العقيدَ حسن عبود ووصفه بالرجل (الحديدي) أيضاً، وهنا صرخ المهداوي فيه بحدة، أنْ لا رجلَ (حديدي) إلاّ الزعيم عبد الكريم، فضجّت القاعة بالتصفيق والهتاف للزّعيم الأوحد!

وربما كان هذا السَّببَ أيضاً في إبعاده الزعيمَ الركن هاشم عبد الجبار (أخاه في الرضاعة) قائدَ الفرقة

الخامسة التي كانت تحمي بغداد، والذي غادر العراق إلى تشيكوسلوفاكيا ومات في أحد قطارات براغ مخموراً. ولذا كان يُبعد المخلصين ولا سيَّما العقائديّين منهم ويقرِّب المصفّقين والطبّالين والانتهازيين

والأعداء لإحداث ( موازنة ) يبقى بواسطتها في الحكم، ربما ليس طمعاً أو رغبةً في السلطة، ولكنّه يريد أن يُسعِدَ الفقراءَ من الشعب، فهو يحبهم ويحتاج إلى حبِّهم أيضاً، بل إنَّ حبَّهم إيّاه دواء له. والحقيقة إنَّ ثورةَ 14 تموز كانت ثورةَ الفقراء أو جاءت لأجلهم. فهو لا(يثق) بأحد فحسب، بل لا يريد أيّـاً من رفاقه أو حاشيته أن يشاركه في هذا الحُـبِّ. أما إذا لمع نجمُ أحدِ حاشيته أو كسب ثقةً وحباً، ولو محدوداً، من الشعب،

فسرعان ما يهمشَّه (يجمّـده) أو يعفيه من المنصب. والواقع أنه، بسياسته غير الحكيمة هذه، أصبح في عزلة واقعياً. وقد أصاب عبد الكريم فرحان عندما تساءل في كتابه -حصاد ثورة ص 232- " كيف يستطيع قاسم بعزلته وصراعه مع الشيوعيين، وحربه مع الأكراد، وتلاشي ولاء أجهزته أن يكسرَ شوكة الحزب (البعث-)  ويذله". لذا كانت الدائرة الواحدة مزيجاً من طوائف عدة أو أحزاب متنافرة أو آراء متناقضة، لتتخاصم وليبقى هو فوق التيار. وكذا كانت الحال في كركوك.3484 بهجت عباس

ملازم صيدلي احتياط – وحدة الميدان الطبية الرابعة – كركوك 1960

***

د. بهجت عباس

في المثقف اليوم