شهادات ومذكرات

فيصل عبد الوهاب: تجربتي في النقد الأدبي

الكتب النقدية

ابتدأت تجربتي في الكتابة بالشعر وقصيدة التفعيلة على نحو خاص، وترافق ذلك بكتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا. ولم تبدأ تجربة النقد الأدبي إلا بعد قراءات موسعة في هذا المجال وكتابة مقالات في الثقافة العامة لها صلة بالنقد الأدبي بشكل أو بآخر. ويمكن أن أشير إلى مقالة بعنوان (الموضوع في الشعر) نشرتها لي مجلة (طروس) الصادرة عن اتحاد أدباء صلاح الدين في التسعينيات كأول مقالة في هذا المجال. وهي مقالة عن مدى صلاحية بعض الموضوعات للشعر حيث تجرأ عدد من شعراء الحداثة لتناول موضوعات نعتقد أنها لا تلائم الشعر ولكن  يمكن تناولها بأي شكل آخر ما عدا الشعر. ثم تتابعت المقالات، فجمعتها في كتاب بعنوان (في الأفق القريب) في إصدار خاص بطريقة الاستنساخ سنة 2002. وبعد أن اتسعت دائرة النشر في الصحف والمجلات للمقالات النقدية التي أكتبها صدر كتابي الثاني (بلورات من الحكمة) عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام في القاهرة سنة 2014 حيث كنت أدرس الدكتوراه في المملكة المتحدة. وقد ضم هذا الكتاب بعض مقالات كتابي الأول الذي فقدته بسبب الأحداث ومقالات جديدة في الثقافة العامة ونقد الشعر والقصة والرواية والمسرحية. كما تضمن الكتاب أيضا مقالات عن المناقشات الجامعية التي كنت أحضرها في الدوائر الأكاديمية ألخص فيها مضامين أطروحات الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنكليزي، وهي تتصل نوعاً ما بالنقد الأدبي.

وقد كان لموقع ومنتدى القصة العربية الذي يديره القاص السعودي جبير المليحان الفضل في احتواء مقالاتي النقدية التي تضمنها كتابي (بلورات من الحكمة) حيث أشرفت على أقسام النقد والشعر فيه. وقد مكنني ذلك من الاطلاع على التجارب الأدبية لعدد من الأسماء التي ستسطع في عالم الكتابة حينئذ في الثمانينيات والتسعينيات عندما انتشرت المواقع الأدبية على شبكة الإنترنيت حيث شاركت في معظمها مثل: منتدى من المحيط إلى الخليج، لغتي الخالدة، القصة القصيرة جدا في مختبر السرديات، الفينيق، الأقلام، مرافئ الوجدان وسواها.

وصدر كتابي (قراءات أدبية) عن مؤسسة شمس للنشر في القاهرة أيضا في سنة 2019 أي بعد خمس سنوات من صدور كتابي الأول منها، وقد ضم المقالات التي كتبتها في هذه الفترة عن نتاج شعراء وكتّاب عراقيين وعرب صادفتهم في مناسبة ما، أو في موقع أدبي ما، أو قرأت لهم، ولا تربطني صلة ما بهم. وقد تجمعت لَدَيَّ عدد من المقالات كتبتها ونشرتها في فترة السنين الأربع الماضية، وسأنشرها في كتاب قادم إن شاء الله.

إشكاليات الكتابة النقدية

لعل المشكلة الأولى التي تواجه النقاد هي اختيار الموضوعات للكتابة، فقد يطّلع الناقد على كتابات عديدة، دون أن يجتذبه أحد النصوص للكتابة عنه؛ لأنه ليس بذات العمق أو الغموض الذي يستدعي الكتابة. فالنص المرغوب لدى الناقد هو النص الذي لا يعطي نفسه بسهولة، والذي يقتضي من الناقد تفكيكه، وشرح ما خفي للقارئ عنه. ولا يعني هذا تلك النصوص التي تفتعل الغموض، ولكن النصوص التي تتكون بطبيعتها من طبقات عديدة للتفسير وإظهار المعنى.

والمشكلة الثانية التي تواجه الناقد هو أن بعض الأدباء يرسلون بنتاجاتهم له في سبيل الكتابة عنها، ولكن الناقد يمتنع عن الكتابة لعدة أسباب منها ضعف مستوى هذه النتاجات، أو أن الناقد سيخسر صداقة هذا الكاتب لو تناول نتاجه بالمنهج العلمي الصحيح ولم يجامله. وقد تناولت هذا الموضوع في مقالة لي بعنوان "حول العلاقة بين الناقد والمبدع" في كتابي "بلورات من الحكمة" الصادر سنة 2014. وقد قسمت العلاقة بينهما إلى ست علاقات هي: علاقات توافق وتضاد وحياد وتجاهل وتحامل ومجاملة. وأفترض في هذه العلاقات وجود توافق أو تضاد في المدارس الفكرية بين الناقد والمبدع؛ مما ينتج نظرة أحادية وجمود بالنسبة للتوافق أو إظهار السلبيات دون الإيجابيات بالنسبة للتضاد. وفي علاقة الحياد "يتفهم الناقد من مدرسة فكرية معينة المناشيء الفكرية للمبدع والاتجاهات الأسلوبية لإبداعه. ولكن الناقد هنا لا يتناول أعمال المبدع من قريب أو بعيد، وهذا يؤدي إلى فراغ ساحة النقد من الكتابات النقدية الرصينة". وفي علاقة التجاهل "لا يتفق الناقد مع المبدع وتوجهاته، ولكنه يحتفظ بآرائه لنفسه وبهمل نتاجات المبدع خشية ردة فعله أو لأسباب أخرى. وتسود هذه العلاقة الكثير من الأوساط الأدبية لسهولتها والشعور بالسلامة والارتياح من جرائها ولعدم ترتيب أية نتيجة مباشرة عليها. ولكن لها تأثيراً بعيداً في الوسط الأدبي حيث تؤدي إلى استشراء النتاجات الهابطة واختفاء المقاييس النقدية القادرة على تقويم تلك النتاجات." وفي علاقة التحامل "عندما يكون نتاج المبدع ذا قيمة عالية، ولكن الناقد هنا لغرض في نفسه أو لانحياز مهما كان نوعه، يتحامل على نتاج المبدع لتقليل أهميته والنيل منه. ولا يخفى ما لهذه العلاقة من أثر سلبي في الفعاليات الثقافية عموماً والساحة الأدبية خاصة." أما علاقة المجاملة وهي عكس علاقة التحامل  "حيث يرتفع بالنتاجات الهابطة إلى مستوى لا تستحقه، وتترك نفس الأثر السلبي للعلاقة السابقة."

والمشكلة الثالثة هو قلما نجد النصوص التي تستحق الكتابة عنها بعدما تفشت ظاهرة أدباء الفيسبوك، وأصبحنا نقرأ نصوصا ليست بالمستوى المطلوب. والملاحظ أنه في عصر ما قبل الإنترنت كان الناشرون سواء في النطاق الحكومي أو الخاص يدققون كثيرا قبل أن يوافقوا على نشر نص أو كتاب ما. وهذه من إيجابيات الرقابة في تلك الفترة، ولكننا لا بد أن نذكر أن سلبياتها كانت تكمن في منع نشر نصوص راقية؛ بسبب المواقف السياسية أو الشخصية أو المنافسات بين الكتاب أنفسهم.

المناهج النقدية

وفي مقالة أخرى من الكتاب نفسه بعنوان "النقد الانطباعي" تناولت فيها المقارنة بين المنهجين النقد الانطباعي والأكاديمي، وبينت أن المنهجين بحاجة إلى كل منهما؛ لأن المناهج الأكاديمية بدون تذوق والموهبة الشخصية في تمثل ذلك النص لا ينتج إلا دراسة باردة لا روح فيها والمنهج الانطباعي بحاجة إلى ترصين وقواعد علمية تسانده. وعموما فإن النص هو الذي يفرض المنهج الذي ينبغي أن يتبع في دراسته. وقد يحتاج الناقد إلى أكثر من منهج لدراسة النص كأن يكون المنهج النفسي والسياسي أو التاريخي الخ. وقد شاركت مرة في مناقشة رسالة ماجستير بالأدب الإنكليزي، واتخذت الباحثة المنهج النفسي في دراستها لمسرحيات كاتبة إنكليزية حديثة، ولم يكن ذلك كافيا لفهم نصوصها ما لم يتبع المنهج السياسي أيضا؛ لأن المشكلة التي تتناولها المسرحية مشكلة سياسية أساسا فكيف يتم تناولها نفسيا فقط؟

ومع ذلك فهل ينبغي لنا أن نتبع مدارس نقدية نشأت في الغرب، ونطبقها على نصوص نشأت في الشرق؟ عندما كتب الناقد الكبير د. علي جواد الطاهر مقالة نقدية تناول فيها مجموعة من قصائدي في منتصف الثمانينيات أذهلني بإشارته إلى الناقد العربي القديم ابن قتيبة، وإلى ناقد آخر اسمه بشر بن المعتمر، ولم أكن قد اطلعت على ما كتبه أي منهما؛ وبذلك قد وجّه الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بتراثنا النقدي، ولم يشر إلى أي ناقد غربي أو نظرية نقدية غربية حديثة، على الرغم من أن دراسته للدكتوراه كانت في بلد غربي هو فرنسا. لذلك فنحن بحاجة إلى نظرية أو ربما نظريات نقدية عربية تزاوج بين الأفكار النظرية العربية القديمة وما أنتجته النظريات الحديثة في هذا المجال والاشتغال على ابتكار نظرية لها خصوصية عربية. كذلك نحن بحاجة إلى ابتكار نصوص عربية لها جذورها في التراث العربي وامتدادها في العصر الحديث. أما تقليد الغرب في مناهجه ونظرياته ونصوصه، فلن يخلق لنا خصوصية تفرد لنا مكانا في الساحة الثقافية العالمية.

الأدباء وشهرتهم

تناولت في كتابيّ المذكورين آنفا وكتابي الثالث الذي سيصدر قريبا العديد من الشعراء والكتاب المعروفين منهم والمغمورين. وقد تناولت أحيانا أعمال كاتب أو شاعر بأكثر من مقالة كسمير الفيل من مصر وفرج ياسين وجمال نوري وطلال الغوار من العراق. ومرد ذلك لعدة أسباب منها سهولة الحصول على نصوصهم الإبداعية وجودتها. أما نصوص المغمورين، فإنها تصلني صدفة، أو اطلع عليها في موقع أدبي أو صحيفة أو مجلة أو كتاب. وأتذكر أني صادفت نصا بصيغة القصة القصيرة جدا أثار إعجابي هو "ذاكرة الشتاء" لكاتب فلسطيني غير معروف اسمه عمر مسلط. وكتبت عنه مقالة نشرتها في منتدى القصة العربية أثارت إعجاب الناقد المصري د. مصطفى عطية حيث علق بالقول إن النص النقدي قد تفوق على النص الإبداعي أو بصيغة أخرى أن النص النقدي أعلى من النص الإبداعي حسب تعبيره، أو كما يقول رولان بارت " أن الخطاب حول النص لا يمكن إلا أن يكون نصا هو ذاته". ولم أتلق أي رد من كاتب النص، وظل مجهولا بالنسبة إِلَيَّ عدة سنوات إلى أن ظهر في منتدى أدبي آخر، وهو يشكرني حيث أعاد نشر مقالتي مع النص. ومع ذلك فقد ظل ذلك الكاتب غير معروف بالنسبة إلي سوى أنه فلسطيني، وكنت آمل أن أقرأ له نصوصا أخرى ولكني لم أحظ بذلك. وقد أتاحت لي المواقع الأدبية التعرف على شعراء وكتّاب من مختلف الدول العربية حيث كتبت عن نتاجات بعضهم؛ مما أضفى تنوعا محببا للكتابة عنهم حيث عمقت تجربتي في الكتابة للتجارب المتنوعة التي أكتب عنها. عموما لا تهمني شهرة الشاعر أو الكاتب، ولكن ما يهمني هو النص أو بمعنى آخر مدى تناغم ذلك النص مع ما أفضله من الموضوعات أو الأشكال أو الأساليب.

***

فيصل عبد الوهاب

في المثقف اليوم