شهادات ومذكرات

طه جزّاع: ذكريات «التيتي» وأسراره

منذ أن بادر بنشر ذكرياته عن عمله مُعيناً لعربة قطار، ثم ترقيته بعد ثلاث سنوات إلى فاحص بطاقات أو ما يطلق عليه شعبياً اسم «التيتي»، فإن عبد الجبار العتابي استطاع أن يكسب عدداً ممتازاً من المتابعين على صفحته في الفيسبوك والذين باتوا يتلهفون لقراءة المزيد من تلك الحكايات المثيرة والطريفة عن مشاهدات وأسرار ما يحدث في عربات القطار خلال رحلاته الطويلة أثناء الليل والنهار. وكنتُ من هؤلاء الذين يترقبون ما يكتبه لكونه يلج عالماً مجهولاً لأغلب الصحفيين، فليس من المعتاد أن يكتب الصحفي ذكرياته عن عمله غير الصحفي، وليس كل صحفي يمكن أن تتاح له تجربة العمل في السكك الحديد لمدة تسع سنوات، متنقلاً بين القطارات الصاعدة والنازلة بين بغداد والبصرة والموصل وكركوك والقائم، وفي المحطات التي يتوقف فيها القطار فيما بين هذه المدن، ويستمع إلى حكايات الناس، ويشاهد مواقف وحوادث ويشارك في الكثير منها مؤدياً واجبه كمعين عربة تارةً، وفاحص بطاقات تارةً أخرى، ومأمور سير في بعض الرحلات، ومسجلاً في الوقت نفسه بعين الصحفي وتطفله ما سمعه وما شاهده في تلك الرحلات منذ بداية عمله عام 1991 وحتى نهاية 1999 وهي مدة تقع ضمن سنوات الحصار الاقتصادي المرّة. غير أن صاحبنا « التيتي» الصحفي لا يكتفي بفحص البطاقات، فيزج بنفسه أحياناً في مواقف محرجة داخل العربات وخارجها، مثل ذلك الموقف الذي وجد فيه نفسه محاصراً ببدلته الأنيقة وربطة العنق، في شارع فرعي بين شابين غاضبين متحفزين ومجموعة رجال، بعد ان اغرته وأغوته شابة جميلة مكتنزة بحركاتها واشاراتها وغمزاتها، فتبعها خارج السوق مثل سكران بعد ان شتتت تفكيره وبعثرت مشاعره!. أو مثل تلك الفتاة الفاتنة التي دعاها لقضاء الليل على سرير شاغر في غرفته فلم تمانع فاقتادها والشيطان يزغرد في قلبه، ويرقص أمامه، حتى اذا دخلا الغرفة في هدأة الليل الشتوي أعلمته بأنها راهبة في طريقها إلى دير في الموصل، ليهرب الشيطان ويقضيا الليل في نقاشات عن المحرمات الدينية، وموضوعات لاهوتية في الإسلام والمسيحية، وبقيا يتجاذبان أطراف الحديث لأكثر من ست ساعات قبل أن ينتبها لأضواء الفجر وهي تتلألأ من النافذة معلنة الوصول إلى المحطة الأخيرة!.

أكثر من سبعين حكاية ضمها كتاب عبد الجبار العتابي «من ذكريات القطار .. أسرار ومشاهدات» تمثل خلاصة عمله في القطار الذي تعددت مسمياته بين الريل في جنوب العراق والترين في الشام والوابور في مصر، وتغنى به الشعراء والمطربون من ترين هوى فيروز» مشي .. مشي ترين الهوى .. يللا بينا نسهر سوا «، إلى ريل مظفر النواب وياس خضر الذي يصيح بقهر «صيحة عشك»، مروراً بوابور محمد عبد الوهاب الذي يريد أن يخبره «رايح على فين»، وتلك الحكايات متنوعة تنوع البشر وطباعهم ومزاجاتهم وتصرفاتهم وسلوكهم السوي، وانحرافاتهم التي يرصدها فضول الصحفي فيتحدث عنها بصراحة وجرأة قد تبدو غير مستساغة أو أنها تخدش الحياء العام، كما في ذكريات «الشواذ والخارجات عن الطريق» الذي يتضمن مشاهدات ومفارقات غريبة في الاختلاف بين أصحاب السلوك المنحرف بين القطارات الجنوبية والقطارات الشمالية، كما يرصد السبب الذي يدعو أحد معيني العربات لأن يعمل على أحد الخطوط ويرفض العمل على الخطوط الأخرى وهو سبب متعلق بشذوذه. وهناك العشرات من المشاهدات المؤثرة في المحطات والمدن والقرى والقصبات والصحارى والسهول والاهوار التي يلتقطها العتابي بعين الصحفي فيسجلها في ذاكرته التي سودت صفحات الكتاب، من اليوم الأول الذي قبل فيه العمل بوظيفة «معين عربة» - وهي كلمة ملطفة لوظيفة خادم عربة مؤهلاتها أن يكون المتقدم لها يقرأ ويكتب فقط – مضطراً من أجل لقمة العيش في ظروف سنوات الحصار مع أنه خريج كلية الآداب بالجامعة المستنصرية، مروراً بتحويل وظيفته إلى فاحص بطاقات لتتناسب مع شهادته الجامعية، وانتهاءً بالشهرين الأخيرين من العام 1999 إذ قرر أن يودع القطارات وأهلها بلا عودة بعد ان تعرض لموقف محرج ومجحف جعله يتمسك بعمله الصحفي ويقول للتيتي وداعاً.

واذا كانت السكك الحديد قد خسرت  «التيتي عبد الجبار العتابي»، فإن جريدة الجمهورية قد كسبته بلا شك، فهو من الصحفيين المثابرين المخلصين لمهنتهم الذين أعطوا المهنة أكثر مما أخذوا منها بكثير، وإذ يتوج سلسلة كتاباته عن ذكريات القطار بصدور هذا الكتاب الجميل المتميز بطباعته واخراجه وبمادته المُبتكرة، فإنه يكون قد فتح الباب لصحفيين آخرين لتسجيل انطباعاتهم وذكرياتهم عن مهن أخرى غير العمل الصحفي قد يكونوا اشتغلوا بها في مرحلة من مراحل حياتهم، وما كان للعتابي الإمكانية المادية لأن يطبع كتابه هذا لولا الدعم الذي قدمه زميلنا الصحفي والإعلامي والرسام والمصمم عاصم جهاد الذي تبنى بجهده الشخصي طباعة الكتاب من دون مقابل، وصمم الغلاف بنفسه، وأشرف على إخراجه في حلة جذابة وطباعة راقية.

حكايات « التيتي» عبد الجبار أشبه بمغامرات السندباد البحري، لكنه سندباد على ظهر قطار يسير على سكة حديدية هذا المرة!.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

في المثقف اليوم