شهادات ومذكرات

محمد عمارة.. خطاب عقل بين دفتي الفكر (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن خطاب الدكتور محمد عمارة بين دفتي الفكر، وفي هذا نقول: لقد خاض الدكتور محمد عمارة معارك فكرية على جبهات كثيرة جداً، وفي وقت واحد. خاض معركة الإحياء والتجديد، كما ذكرنا، وخاض معركة الدفاع عن أصول الإسلام وعقائده ومبادئه العليا، وخاض كذلك معركة الدفاع عن الأمة ومصالحها في الميدان السياسي، وميدان الجهاد والاستقلال، ومحاربة الاستعمار والتدخل الأجنبي في شئوننا الداخلية، وكذلك كانت له اهتمامات على جبهة رابعة، وهي جبهة الاجتهاد والتجديد، فهو قد أسهم في تجديد كثير جداً من القضايا؛ منها قضايا التعددية في النظام الحزبي وفي الحياة الاجتماعية بشكل عام، وقضايا العلاقة مع الغرب والموقف من الغرب، والموقف من الحضارة الأوروبية، ورأي الإسلام في الفن والفنون الجميلة.. إلخ .. كما خاض معركة المصطلحات، وحذرنا وحذر أجيالاً عديدة من خطر استخدام المصطلحات الوافدة والمستوردة من الخارج. وأدلى برأيه في كل القضايا المهمة، ليس مدافعاً فقط وإنما مجدداً أيضاً، في كل هذه الساحات مرة أخرى هو قلعة حصينة من قلاع الإسلام، ذلك حسب قول إبراهيم البيومي غانم في مقاله المفكر الإسلامي الراحل الدكتور «محمد عمارة».

 وفي مناظرة متلفزة جمعته بالناشطة النسوية والكاتبة المصرية، نوال السعداوي، قال إن "فلسفة الميراث لا ترجع إلى معيار الذكورة والأنوثة".، إلى ذلك انتقد عمارة تركيز التيارات الإسلامية على السياسة، وإهمالها المشروع الإصلاحي، وتجاهلها مسألة العدالة الاجتماعية.، كما خاض سجالات مع البابا شنودة والكنيسة القبطية، ودعا المسيحيين إلى الخروج عن "وصاية الكنيسة والانخراط في نشاط المجتمع المدني" على حد قوله.

  وقد مر محمد عمارة بتحولات فكرية عديدة، فرغم نشأته الدينية والأزهرية، إلا أن عمارة كان في بداياته يسارياً عروبياً منظراً للفكر الماركسي؛ ففي ثلاثينات القرن الماضي انضم عمارة إلى حزب "مصر الفتاة" وكرس نشاطه دفاعا عن العروبة ومحاربة الاستعمار. ثم انضوى عام 1949 تحت "الحزب الاشتراكي".

 وبعد ثورة 23 يوليو التي أطاحت بالملكية في مصر، انخرط في التيار اليساري الذي ناضل فيه نحو عقد من الزمن، حيث تسببت أفكاره ومواقفه السياسية في فصله عن الجامعة، لتقوده في عام 1959 إلى السجن، واستغل عمارة فترة سجنه، التي ناهزت ست سنوات، في الكتابة فألف أربعة كتب كانت بمثابة إرهاصات لتحول فكري جديد. وانتهى به المطاف إلى مغادرة الجبهة اليسارية والانضمام إلى التيار الإسلامي، واقترن اسمه منذ الستينات بلقب المفكر الإسلامي، وتميزت تصريحاته في تلك الفترة بانتقاد من يسموهم بغلاة العلمانيين، وعن تحوله الفكري، قال عمارة في تصريح صحفي أنه " دخل اليسار من باب الدفاع عن القضايا الثورية والعدالة الاجتماعية. لكنني اكتشف أن حل المشكلة الاجتماعية هو في الإسلام وليس في الصراع الطبقي والماركسية".

  ظلت المفاهيم والشعارات الاشتراكية كالحرية والعدالة الاجتماعية حاضرة في تصريحات ومقالات عمارة؛ فعلى على سبيل المثال، يرفض المفكر الوظيفة العمومية ويعتبرها نوعا من أنواع العبودية، رغم أنه تقلد أكثر من منصب رسمي فقد كان عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ورئيس التحرير السابق لمجلتها.

 وقد أفرد مغردون وسما باسمه، عددوا من خلاله خصاله ودعوا للترحم عليه معتبرين أنه لعب دورا لافتا في إحياء أعمال مدرسة التجديد الإسلامي التي أسسها رفاعة الطهطاوي وطورها محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وغيرها من الأسماء، ويرى محبوه أنه نجح في الحفاظ على حياده، ما جعله مرجعا للكثير من الباحثين، ممن وجدوا فيه "العقل المستنير القادر على تقديم مشروع حضاري عربي إسلامي كبديل لفكرة التغريب" حسب تعبيرهم، كما نوهوا بإسهاماته في إثراء المكتبات الإسلامية بعشرات الكتب التي نجحت برأيهم في إحياء الفكر المعتزلي القائم على تقديم العقل على النقل.

 وقد وصفه إبراهيم البيومي غانم قائلا : : إن الدكتور عمارة كان من كبار رواد مدرسة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث. هو من الذين تابعوا وأضافوا على اجتهادات الإمام محمد عبده وغيره من رواد هذه المدرسة. وهو من الذين كتبوا كثيراً، وحاضروا كثيراً، ونشروا أصول القضايا الكبرى التي اعتنت بها مدرسة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، وخاصة في القضايا المتعلقة بالمبادئ السياسية للرؤية الإسلامية؛ بأنها رؤية جوهرها الاعتدال، وسمتها الثقة بالذات الحضارية. رؤية تتوافق مع الفطرة الإنسانية وتتطابق معها. كان رحمه الله يؤكد هذه الصفات الأساسية، ويفند كل الدعاوى الأخرى التي تتطرف يميناً أو يساراً عن هذه المنطقة الوسطية.

 وقال عنه محمد جمال حليم في مقال له بعنوان" وداعًا الدكتور محمد عمارة.. مفكر وهب حياته للدفاع عن أمته":" نبغ عالما ربانيًا محبا للعلم يكرم العلماء ويتواضع لهم، أقبل على العلم نهما كأنما يلتمس فيه ضالته روئ مشغولا بهموم الأمة الإسلامية واضعًا على عاتقه هم إخراجها من العقبات التي ابتليت بها ولا تزال، فدافع عن الإسلام بقلمه وحرر الكثير من الشبهات التي تعترض طريقه وعقد من اجل ذلك الكثير من المناظرات الفكرية للذود عن الإسلام وتنقيته من شبهات المغالين والمنحرفين من العلمانيين والملاحدة".

 ويستطرد محمد جمال فيقول: الدكتور محمد عمارة امتاز بالنبوغ منذ صباه وكانت له ثقافة واسعة جعلته نهمًا في طلب العلم والمعرفة التي سخرها للدفاع عن قضايا أمته وتبرئة ساحة الإسلام مما ألصق بها من شبهات.. استوى الدكتور محمد عمارة مفكرًا إسلاميًا ناضجًا، ومؤلفًا محققًا ثبتًا فجذب إليه أنظار العلماء فراح يعقد الندوات ويحاضر في المؤتمرات متحررًا من قيود التبعية الفكرية مظهرًا وسطية الإسلام التي تسع الجميع.

 وأخيرا يختم محمد جمال فيقول: "امتازت ثقافته بالشمولية والتعددية فهو مثال حي لقبول الآخر؛ ولأجل هذه الثقافة كان دائما ما ينادي بالوسيطة الفكرية وعدم التشدد، وهو من حقق لأبرز أعلام اليقظة الفكرية الإسلامية الحديثة، جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم الكثير.. اشتهر بأسلوبه الجميل وصوته المميز وهدوئه في غير ضعف كما اشتهر بإكرامه الباحثين وإسدائه النصيحة للباحثين ومساعدتهم وتشجيعهم لمواصلة طريق العلم فكان بيته بمثابة صالون ثقافي كبير يفيد إليه كل من يريد الاستزادة وطلب المشورة التي يسديها فرحًا مستبشرًا.

 وفند بعضهم ما يردده أنصار عمارة عن "اعتداله" قائلين إن آراءه خدمت "الرجعية والأصولية بل وحتى الطائفية ضد المسيحيين والشيعة".، كذلك يعيب عليه منتقدوه ابتعاده عن "العقلانية" بتقديمه تنازلات لصالح المدرسة السلفية التي شنت عليه حملة بسبب مناصرته لفكرة تقديم العقل على النقل، في حين ينتقد مفكرون أمثال عمار بن حمودة "نزعة محمد عمارة التمجيدية للفكر المعتزلي"، قائلين إنه "اكتفى في البحث بما يميزهم ليسقط بذلك في دائرة التقديس المطلق".ن في حين قال عنه آخرون عمارة» صاحب التناقضات العديدة، كانت حياته سلسلة من التقلبات الفكرية، بدأها ماركسيًا متشددًا، ثم تحول للفكر الاعتزالي، ونهاها منظرا ومفكرا لجماعة الإخوان الإرهابية، حيث كان أبرز داعميه وناشري أفكاره ومطبقيها، كما كان صاحب أول بيان لرفض ثورة 30 يونيو، وساند تنظيم الإخوان الإرهابي.

  وأشار همام عبد المعبود في مقال له بعنوان " في تكريم د. عمارة.. قراءة لأهمية تفنيد الشبهات" إلي أهمية ومكانة محمد عمارة في "الذود عن حياض الإسلام"، و"تفنيد الشبهات التي يثيرها أعداؤه"، وأشار إلى "جهده الكبير في مواجهة معاول العلمانية الهدامة، وخطط الفكر التغريبي المدمر"؛ مؤيدين ترشيح مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف له لنيل جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، في مجال الدراسات الإسلامية وحقوق الإنسان لعام 1432 هجريًّا و2012 ميلاديًّا.

 وفي السنوات الأخيرة اختلفت مع الدكتور محمد عمارة بشدة حين اعتبر ما حدث في 3 من يوليو 2013 "جنوحا عن مدنية الدولة وانقلابا على مطالب الجماهير"، حيث نشر آنذاك بيانا طالب فيه الجيش بالعودة إلى ثكناته واحترام المسار الديمقراطي. وهو موقف جر العديد من الانتقادات على الدكتور محمد عمارة وعده كثيرون موقفا إيديولوجيا كشف عن ميوله السياسية.. وحتى بعد رحيله، لا تزال مؤلفاته ومواقفه السياسية محل خلاف بين المصريين.. فمنهم من يراها أطروحات "تروج لجماعة الإخوان المسلمين" .. ومنهم من يعتبرها امتدادا للمدرسة الدينية التقليدية، والحقيقة كنت أعجب به عندما كان يساريا،ولكن لما أصبح يتبني أفكار أبو الأعلي المودودي وسيد قطب وحسن البنا ذهب هذا الإعجاب، حتي أنه يقال عنه "عمارة" صاحب التحولات الفكرية.. من الماركسية إلى "منظر الإخوان"...وفي نهاية حديثي لا املك إلا أن أقول غفر الله للدكتور محمد عمارة وأدخله فسيح جناته .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم