شهادات ومذكرات

زبيدة عطا والأبعاد الحقيقية لأزمة سد النهضة (3)

محمود محمد عليمن معين نهر النيل العذب نغرف وجهاً عربياً مضيئاً في سماء عالمنا العربي المعاصر، الذي خبت نجومه، وقلت شموسه، وتقلصت رموزه، ولكن الخير كل الخير في البقية الباقية من الرواد العظام الذين لا ينساهم التاريخ أبداً، ومن هؤلاء الرواد نحاول في هذا المقال أن نتطلع إلي نموذج نسائي نهتدي عبر طريقه، وشخصية استطاعت أن تحفر في صخور صماء منعت المرأة خلال فتراتها من حقها في تعلم اللغة الفرنسية واللاتينية، لتتجاوز هذا المنع وتصل بعلمها وتراثها العلمي مبلغ الرجال، تلك هي الدكتورة زبيدة عطا، والتي استطاعت أن تصل بعلمها مبلغ الرجال خلال فترة منعت فيها المرأة من حقها في التعليم.. لتمثل الأمل في نفوس فتيات جيلها، ولتصبح أيقونة تاريخ العصور الوسطي في مصرنا الحبيبة..

وهنا نعود ونكمل حديثنا في هذا المقال الثالث والأخير حول رؤيتها الاستبافية والحقيقية لأزمة سد النهضة الإثيوبي، وهنا نقول: لقد سعت إسرائيل للعمل علي بناء علاقات تطبيع مع دول كثيرة مثل كينيا وأثيوبيا، بل نجد أن إثيوبيا أخطر من كينيا، لأنه يوجد بها جزء من اليهود يسمى الفلاشة وهم الذين شاركوا في عمليتي شلومي وأوشيه، فهم مشكوك في أصلهم رغم أن الإدارة الصهيونية الحاكمة قالت إنهم ذات أصول يهودية، ورغم أن إسرائيل تنظر لهم كمواطن درجة سادسة إلا إنهم سعداء بهذه المعاملة لأنها أفضل من فقر إثيوبيا، فالمدارس لا تقبلهم كما يحصلوا على أقل أجور في إسرائيل، فالتعامل مع الفلاشة سيئ ولكنهم عامل مهم، فالذين يهربون من السودان كلهم إثيوبيين يريدون الدخول إلى إسرائيل لأنهم يعتقدون إنها جنة الله في الأرض، المشكلة أن إثيوبيا تتحكم في مياه النيل وإسرائيل تزين لهم فكرة بيع المياه مثل البترول، حتى أن الفكرة السائدة الآن في الدول الإفريقية أن مصر والسودان يشربون المياه بلا مقابل، وهذا لن يؤثر على السودان ولكنه سيضر مصر.

وأما فيما يخص السدود الأخري التي تبنيها الشركات الإسرائيلية؛ فمن الواضح أن تلك الشركات  موجودة في إثيوبيا؛ حيث تساهم في إقامة السدود الصغرى منذ فترة طويلة، وتعكف علي إرسال خبراء في الري وتوليد الطاقة لتعليم الإثيوبيين، حتى أن السفير الإسرائيلي يعتبر أهم شخصية في بعض البلاد الإفريقية، فهم لديهم مبدأ الوصول إلى القادة، وهم يحاولون الوصول إليهم عن طريق تجارة الماس وهي أهم تجارة في إفريقيا، فأكبر تجار الماس في إفريقيا من اليهود، ولأنهم يتحكمون في الاقتصاد يتوصلوا إلى القيادات الشابة مثل الكونغو، أيضا عندما حكم آل كابيلا حكم استبدادي لم يتعاونوا معه وأعلنوا إنهم لن يساعدوه لأنه حاكم مستبد، ثم نشرت صحفهم الإسرائيلية بعد ذلك أنهم يعملوا بازدواجية لأنهم علنا أعلنوا إنهم لن يتعاملوا معهم لأنهم استبداديين وقتله ثم أتضح إنهم أقاموا اتفاقية بموافقة الإدارة الإسرائيلية في السر، أيضا يرسلوا إلى روندا وبورندي المتحاربين أسلحة قديمة عفا عليها الزمن حتى يقضوا على بعضهما البعض ويكونوا قد ساعدوا هؤلاء وهؤلاء.

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة تؤكد عليها زبيدة عطا، وهي أن المساعدات التي تقدمها "تل ابيب" لدول حوض النيل ليست لوجه الله، وأن "الغذاء مقابل المياه " أصبح هو الشعار الذي تتعامل معهم به، مشيرة إلي أنها كانت تأمل ان تشارك مصر "الأحباش" بناء سد النهضة، وأن الفاقد من النيل يمثل 600 مليار متر مكعب سنويا؛ أي ما يعادل 12 ضعف حصة مصر.

وحول رؤية الدكتورة زبيدة حول أزمة سد النهضة؟ ومن المسئول عنها؟ ؛ فنجدها تقول بلا خجل بأن "سد النهضة".. مخطط "صهيوني- أمريكي" لحصار مصر مائيا داخل دول حوض النيل، فدول الحوض لا تشهد اختراقا اسرائيليا بقدر ما تشهد غزوا منظما منذ اربعة عقود، بهدف تعطيش وتجويع مصر عقابا علي عدم تصدير المياه عقب اتفاقية السلام، وقد عرضوا بالفعل على مبارك حل مشكلة النيل مع دول الحوض في مقابل أن يصل لإسرائيل حصة من المياه، ولكن "مبارك" رفض هذا العرض... كثيرا ما أكدت في دراساتك علي ان الشركات والمهندسين الإسرائيليين يعملون في حوض النيل منذ 40 عام مضت، أين كانت القيادة المصرية من ذلك؟ ولماذا تركناهم يفعلون ذلك؟

وهنا تجيبنا زبيدة عطا فتقول: ماذا كنا سنفعل.. دول الحوض ليست مجرد دويلات تعمل تحت أمرنا، هناك مصالح إرتأتها مع اصحاب رؤوس الاموال العالمية، ولا اقصد هنا اسرائيل فقط، ولكنني اتحدث عن الغزو الصيني والايطالي والأمريكي الذي يجتاح بلاد النيل بالشركات متعددة الجنسيات، والجميع هدفهم المصلحة الشخصية بعيدا عن الأمن القومي المصري، فانا لا اعتقد ان المشكلة مشكلة مياه، فالفاقد من مياه النيل يصل الي 12 ضعف ما تحصل علية مصر، ويبلغ الفاقد أكثر من 600 مليار متر مكعب.

وحول تحذيراتها بشأن انهيار "سد النهضة".. قالت زبيدة بأن "سد النهضة طبقا لجميع الدراسات الجيولوجية يمر فوق الاخدود الافريقي العظيم، والذي يصل من تنجانيقا حتي شمال لبنان، وهذا يعني ان خطورته ستطول دول كثيرة، كما ان معامل الامان قليل لا يتعدي 3 درجات فقط، ولا يتحمل ثقل 70 مليار متر مكعب، ورغم ذلك كنت أتمني أن نشارك "الأحباش" بناء هذا السد والمشاركة في الدراسات واختيار الموقع الأفضل، بدلا من ان تستغل بعض الدول غيابنا بهذا الشكل".

ومن هذا المنطق تحاول زبيدة عطا إلي نقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب. الأول بعنوان: "إسرائيل وأفريقيا" وفيه تناقش المؤلفة زبيدة عطا تراجع الدور المصري في أفريقيا بعد عهد الرئيس جمال عبد الناصر والذي كان لفترة حكمه تأثير واضح في دعم ومساندة حركات التحرر في مناطق عديدة من دول القارة وهو ما أدى إلى قيام معظم دول أفريقيا بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في أعقاب حرب السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣م.

ورغم ذلك فإن الحكومة المصرية لم تحاول الاستفادة من هذا الموقف في توثيق التعاون بينها وبين الدول الأفريقية عموماً ودول حوض النيل خصوصاً، وهو ما أدى إلى نجاح إسرائيل في استعادة علاقاتها تدريجياً مع دول القارة، خصوصاً بعد توقيع اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية في كامب ديفد بالولايات المتحدة الأميركية عام ١٩٧٩م.

ويستند أصحاب الرأي الرسمي في مقارنتهم بين مدی نفوذ مصر واسرائيل في حوض نهر النيل، إلى أن حجم استثمارات إسرائيل في إثيوبيا مثلاً -وهي إحدى الدول الرئيسية المؤثرة في حوض نهر النيل- لا يزيد عن مائة مليون دولار، وهو رقم ضعيف بالمقارنة بالاستثمارات المصرية في تلك الدولة. لكن الرأي الآخر في هذا الجانب لا يربط بين تدفق الاستثمارات وحجم التأثير السياسي منها مثلاً ما يقوله العديد من خبراء المياه في مصر والسودان من أن إسرائيل لديها أحلام ومشاريع كبيرة في مياه النيل، ويستند أصحاب هذا الرأي أيضاً إلى أن إسرائيل تستخدم أزمة المياه، كورقة ضغط على مصر، لتحقيق مطالبها الخاصة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.

ويتناول الباب الثاني أطماع إسرائيل في شبه جزيرة سيناء، وإمكانية توصيل مياه نهر النيل إليها عبرها، ويشير إلى فقرات متعددة من كتاب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"، تؤكد على اهتمام المسؤولين هناك بمشروع توصيل مياه النيل إلى إسرائيل عن طريق القنوات المائية في مصر، وهو المشروع الذي تسعى إليه الصهيونية العالمية منذ أيام هيرتزل، ولذلك جاء اهتمام إسرائيل بشبه جزيرة سيناء، وهي النافذة الغربية التي يمكن أن تؤمن لها حلاً لأزمة المياه التي تعاني منها.

ويشرح الباب الثالث ـ وهو الأهم والأكبر حجماً بين صفحات الكتاب ـ الأبعاد التفصيلية لعلاقات إسرائيل بدول حوض نهر النيل، والدول الغربية التي تساندها في ذلك، فالولايات المتحدة تتبع سياسة الترهيب والترغيب مع الدول الأفريقية، التي تقف موقفاً معادياً لإسرائيل في المحافل الدولية, ومن الحقائق التي تم الكشف عنها انضمام هولندا وألمانيا إلى الولايات المتحدة في دعم وتمويل النشاطات الإسرائيلية في أفريقيا, وأيضاً فإن لفرنسا دوراً لا يستهان به في تسهيل عودة إسرائيل إلى القارة السمراء, بحكم شبكة علاقاتها الواسعة بقادة الدول الناطقة بالفرنسية, كما لا يمكن تجاهل دور بريطانيا في هذا الميدان، في شرق أفريقيا وفي نيجيريا.

وفي النهاية نقول: إن هذا الكتاب صيحة تحذير لكل من يهتم بأزمة المياه في دول حوض نهر النيل وإذن في الختام تتساءل الدكتورة زبيدة عطا: هل يمكن بعد كل هذه المعلومات والوقائع على الأرض، أن ينهار ذلك تحت شعار نظرية المؤامرة الوهمية؟

مع كل ذلك، تسعى إسرائيل للحصول على مياه النيل بشتى الطرق, منها التأثير على دول منابع النيل, كورقة ضغط على مصر, وعملت إسرائيل, وتعمل, على صناعة حضور قوي لها في مدخل البحر الأحمر, وفي جنوب السودان ودارفور, لفصلهما عن السودان. يستعرض هذا الكتاب النشاط الإسرائيلي في دول حوض النيل, وفي مدخل البحر الأحمر, ويطلق صيحة تحذير لكل من يهتم بحاضر مصر ومستقبلها من دولة تضمر الشر للشعوب حولها, لأنها ترى أنها فوق الجميع!.

علي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور زبيدة عطا بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكرة مبدعة في التاريخ، ونموذج متفرد لأستاذه جامعية نذرت حياتها بطولها وعرضها لخدمة الوطن الغالي مصر، وأثرت حياتنا الفكرية بكل ما قدمته من جهود.

تحيةً مني لزبيدة عطا التي لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في زبيدة عطا قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين" (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمرها قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاها الله لنا إنسانة نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منها عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

المراجع

1- سعيد الشحات: أطماع إسرائيل فى أفريقيا والنيل (مقال).

2- محمد عبد السلام: زبيدة محمد عطا خبيرة الشأن اليهودي تكشف المخطط الصهيوني (حوار بجريدة الدستور).

3- شيماء أبوعميرة: كتاب "اسرائيل في النيل" (مقال).

 

 

 

 

في المثقف اليوم